2
ومقياس لتقدم الشعوب ورقي أفرادها. وأنت تستطيع أن تحكم على الحالة الاجتماعية لكل أمة بنوع موسيقاها وما تتغنى به من أشعار وأقوال، فإن كانت من ذوات الهمم العالية أو كانت من الأمم الذليلة المستضعفة بدا ذلك واضحا في قوة غنائها وارتقائه أو في ضعفه وانحطاطه.
ولهذا نستطيع أن نحكم على حياة العباسيين في العصر الذي عاش فيه إبراهيم بن المهدي بغنائه؛ فقد كان غناء يشيع فيه تمجيد البطولة وصفات الكرم والشمم والإباء، ولكنه شاع فيه أيضا طابع العصر من الميل إلى اللهو والترف، والتحرر من بعض النواهي، والإغراق في الملاذ.
ج
وقد كانت الحقبة التي وقعت فيها حوادث هذه القصة حقبة اضطراب وفتن سياسية، غير أنها من الوجهة الاجتماعية حافظت على الطابع العام لذلك العصر الذي ساد فيه الرخاء بالعراق، وكانت الأموال تنصب فيه على بغداد انصبابا؛ فكان البذخ والتأنق في المأكل والملبس والمسكن لا يقتصران على الخلفاء والأمراء، بل يتعديانهم إلى الكثيرين من السكان. وقد تنافسوا في ضروب من اللهو وألوان المتاع، وتسابقوا في بناء القصور، وتجميل المنازل وتنسيق البساتين، واقتناء الأثاث والرياش الثمين، والتحلي بالجواهر النفيسة، والاستكثار من الجواري الحسان ولطيف الخدم والغلمان.
وأدى رخاء هذا العصر وغضارة العيش فيه إلى تفنن أهله في الملاذ، والإقبال على شرب الخمور بين الأثرياء والأدباء، وكان النبيذ أكثرها شيوعا في العراق، وكان الخلفاء يستحلونه على أنه غير مسكر، وصار شربه عادة مألوفة في مجالس الغناء والموسيقى.
وأدخل العباسيون أسباب الأبهة والفخامة التي كانت للأكاسرة في قصورهم ومجالسهم وسائر أحوالهم، فاتخذوا المقاعد المطعمة والطنافس المطرزة، والوسائد الموشاة، والستور المحلاة بالنقوش البديعة، وزينوا السقوف والجدران بالرسوم الذهبية والفضية الممثلة لما في البر والبحر والجو من حيوان وأشجار وأطيار ومدن وأنهار، وربما حلوا ستائرهم بالآيات الكريمة والأحاديث النبوية ومأثور الحكم والأشعار.
وقد أقام الخلفاء الحجاب، ونظموا المقابلات بالاستئذان لغير الأمراء. وكانت التحية على الخليفة «السلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته»، وقد يقبلون الأرض أمامه، أو يقبلون يده على حسب الأقدار.
وكانت الأفضلية في الجلوس بين يدي الخليفة في ذلك العهد لبني هاشم: فيجلس الخليفة على السرير أو السدة، ويجلس بنو هاشم على الكراسي عن يمينه، والوزراء على الكراسي أو الوسائد عن يساره، ويليهم سائر الطبقات.
ولا ينصرف أحد من مجلس الخليفة إلا إذا نهض أو أذن له بالانصراف، ولا يبدأ أحد بمحادثة الخليفة إلا إذا بدأه. وقد أباح الخليفة المأمون الكلام في مجالسه للمناظرة في العلم والأدب. وكانت مجالسه لا تخلو من ذوي الظرف والخفة والفكاهة. وكان الحديث يجري باللغة العربية الفصحى، كما أن الغناء كان بهذه اللغة، ولم يقتصروا فيه على أشعار الحب والهيام، بل تناولوا كثيرا من الأغراض حتى الرثاء.
Bog aan la aqoon