أشرقت الغزالة وانتشرت أشعتها على ساحل بيروت، فتململ ندى الليل من حرها، وتجمعت نقطة على أوراق القلقاس كالدر، وانبسطت على أوراق التوت كأغشية الحرير، ثم ركبت متن الهواء وطارت إلى أعالي الفضاء، فغطى الضباب تلك الهضاب ساعة من الزمان، ثم تقشع عنها وصفا أديم الأرض ووجه السماء، وجفت الرمال إلا حيث وقع عليها ظل الصنوبر، ثم امتد الجفاف إليها كلها، وعلا صرير الصراصير.
ما هذه النصب العالية! وما هذا الشعاع الذي يزري بشمس الضحى! دكة تعلوها قبة فوقها نصب يناطح السحاب، وفي وجهه سيوف منظومة بعضها مع بعض كالشعاع المنتشر من كوكب دري حوله أكاليل الأزهار، وشعار الأمة الفرنسوية وأعلامها منتشرة ومجموعة على أشكال شتى تأخذ بالأبصار رونقا وبهاء.
وما هذه الأطناب النازلة من أعلى القبة كأعمدة الصبح وقد التفت عليها أكاليل الأزهار والرياحين، وامتدت كالهواجر إلى أبعاد شاسعة!
الميدان واسع بين الصنوبر والبساتين في ضاحية بيروت تستعرض فيه ألوف الجنود من عهد إبراهيم باشا ومن قبل عهده، وهو الآن مزدحم مكتظ ترمي فيه الرمل فيقع على رءوس الناس، إلا في دائرة كبيرة حول الدكة والنصب تركت فراغا للولاة والقواد ورؤساء خدمة الدين وأعيان المدينة، وأمامها مركبات المدافع والخيول مقرونة بها، والجنود وضباطهم بأفخر الملابس والحلل.
بم بم بم! شهب تلمع ورعد يصقع، والناس يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.
بم بم بم! ارتفعت أعمدة الدخان وسردقت فوق تلك الجماهير فحجبت عنها أشعة الهاجرة، ثم صمت كل صوت وسكن كل متحرك، وتقشع الدخان وظهر على الدكة تحت القبة حبر جليل القدر بحلته الحبرية حوله لفيف من الكهنة، يسبح الله بألحان شجية، وتحته رؤساء الأنام بملابسهم الرسمية ثياب مقصبة، ونياشين تتألق في الصدور، وربات الجمال بالحلى والحلل، خصور كالخواتم، ووجوه كالبدور، وقد أفرطن في توسيع أردانهن وأذيالهن، فوقعن كالأبراج المستديرة تبتدئ بدائرة لا يقل قطرها عن الباع، ثم تستدق رويدا رويدا إلى أن تنتهي بخصر يصح فيه قول من قال:
تكاد لهضم الكشح تجعل عقدها
نطاقا كما يستبدل المثل بالمثل
وحولهم الجنود من الفرسان والمشاة ستة آلاف من رجال فرنسا ونخبة شبانها، ووراءهم جمهور لا يحصى عدده من الرجال والنساء والأولاد يموج كالبحر الزاخر.
خشعت الأبصار واشرأبت الأعناق إلى أن انتهى الكهنة من الصلاة والترتيل، فعزفت الموسيقى بالسلام السلطاني ثم بالسلام الإمبراطوري، وعادت المدافع إلى الدوي وتلتها الحركات الحربية، فسار المشاة صفوفا وانتظموا قلعة كبيرة، المدافع والمهمات في وسطها والفرسان وراءها، وصدرت الأوامر من القواد، فأطلقت البنادق طلقات متوالية يتخللها إطلاق المدافع، وسردق الدخان ثانية فحجب الشمس واستظلت الجماهير بظله.
Bog aan la aqoon