وبادر أهل البر والإحسان في أوروبا إلى معونة أولئك المنكوبين بسخاء حاتمي، فأرسلوا إليهم أكياس الدقيق وأثواب القطن والصوف وكثيرا من النقود، وأقيمت اللجان في بيروت لتوزيع الإحسان، ولولا ذلك لمات كثيرون جوعا.
وظل المنكوبون في بيروت يتقلبون على مثل جمر الغضا، ويبحث بعض النساء عن أزواجهن وأولادهن، وهن لا يعلمن أفي عداد من قتل هم أو لم يزالوا في قيد الحياة. وكل يوم يصل جريح لم يجهز الأعداء عليه، فبقي مغطى بالقتلى مغمى عليه من كثرة ما نزف من دمه، إلى أن أفاق ودفعته بقية الحياة الكامنة فيه إلى الهرب، فجعل يسري ليلا ويختبئ نهارا، وهو يسد رمقه بأعشاب الأرض إلى أن بعد عن مواقع الخطر، والأطفال الذين أرضعتهم أمهاتهم لبن الحزن يموت الواحد منهم بعد الآخر، وقناصل الدول يكتبون إلى دولهم يشرحون لها وقائع الحال وهم مجمعون على استقباح ما جرى واستفظاعه، ورجال الدولة متربصون ليروا ماذا تكون العاقبة، وهم يكذبون تارة ويشمخون أخرى قائلين أن لا شأن للدول الأجنبية، حتى تطالبهم بما يجري بينهم وبين رعاياهم، ووحوش البر وطيور السماء قزت نفوسها من أكل لحوم القتلى، فجلست أمامها يدفعها الطبع إليها، ويبعدها الشبع عنها، وهو شعور جديد لم تعرفه من قبل، والشمس تشرق على منازل أكلتها النار، والنجوم تتطلع عليها فلا ترى فيها غير الضباع وبنات آوى، وقد ندم الله على خلق الإنسان كما ندم في عهد نوح وود ملائكته أن تصاب الأرض بطوفان آخر يطهرها من الأشرار.
أيعجب أحد بعد هذا إن كانت أرض الموعد جنة الله في خلقه، الأرض التي كانت تفيض لبنا وعسلا، الأرض التي نشأت فيها دمشق وصور وصيداء وأورشليم وبيروت وعكاء وعسقلان، أرض حكمة اليهود وصناعة الفينيقيين، التي طمع فيها الفاتحون من كل الأقطار لكثرة خيراتها وتوسط موقعها، بلاد الضيافة والشهامة وعزة النفس، هذه البلاد أوصلها سوء السياسة إلى أن صار أبناؤها يحرش بينهم ليفترس بعضهم بعضا.
قدورا :
من أين يا أبا فخر؟ وإلى أين؟
أبو فخر :
صليت الجمعة وأنا راجع إلى البيت، والله ما عاد لي نفس أجلس في القهوة.
قدورا :
ولماذا؟ ماذا جرى؟
أبو فخر :
Bog aan la aqoon