وبعد أخذ وعطاء في هذا الموضوع اتفقوا على أن لا يكتتبوا بأكثر من مائة مليون فرنك، ثم قال ابن حاييم: كتب إلينا الخواجه بخور من دمشق أن الأحوال فيها وفي بيروت ليست على ما يرام، وأن دروز الجبل يستعدون للحرب الأهلية، وقد استدان رؤساؤهم منه نحو خمسين ألف جنيه بربا عشرين في المائة، وطلبوا مائة ألف جنيه أخرى، وهو لا يرى مانعا يمنع إعطاءهم إياها؛ لأنهم وعدوه برهن ضياعهم في البقاع وهي تساوي أضعاف ذلك، والدروز داخلون في ذمة إنكلترا فلا يجسرون أن يهضموا لنا حقا عندهم.
وقال آخر: إنني التقيت منذ ساعة باللورد فلان، فأخبرني أن الوزارة باذلة جهدها في منع الحرب الأهلية من سورية، وقد أرسلت الأوامر المشددة إلى سفيرها في باريس وسفيرها في الأستانة ليبذلا جهدهما فيما يمنع إثارة الحرب.
فقال ابن حاييم: إن تم ذلك فهو أصلح لنا، وإن لم يتم ونشبت الحرب فلا بد من أن تلجأ الدولة العثمانية إلى التعويض على المنكوبين وخزائنها فارغة فينفتح أمامنا سبيل آخر للكسب.
الفصل السادس
التفتيش الأول
لما حان الوقت الموعود لذهاب السر هندي بدمونت إلى الشويفات لزيارة الأمير أحمد، والتفتيش عن المغارة التي فيها رفات جده كونت بدمونت؛ خاطب الكولونل روز في ذلك، وطلب منه أن يسمح له بذهاب الترجمان معه؛ لئلا يجد الأمير أحمد غائبا فيتعذر عليه التكلم مع أحد؛ لأنه لا يعرف كلمة من العربية، وقام في الصباح وركب جواده، وركب معه الترجمان أيضا وقواس من قواسة القنصلاتو، وساروا نحو الشويفات، فوصلوها بعد ساعتين من الزمان، ولقوا الأمير أحمد في انتظارهم عند نهر الغدير، ومعه جماعة من الأمراء أبناء عمه والخدم والحشم، فرحبوا بالسر هنري وساروا أمامه، وكان الأمراء بالخيول المطهمة، وقد غطوا سروجها بصفائح الذهب الوهاج فوق لبد الشعر الأسود، وقلدوا أعناقها برصائف من الذهب لوسواسها نغم شجي تسمعه الأصائل وتطرب بد، فيزيد إعجابها وتهاديها، فتظنها ترقص رقصا وهي تسير زميلا.
حتى إذا بلغوا دار الأمير أحمد استأذنوا السر هنري في نصب الميدان إكراما له، وانقسموا قسمين، وجعلوا يكرون ويفرون ويتراشقون بالجريد فطرب لذلك طربا شديدا، وكانت الشمس قد تكبدت السماء واشتد الهجير فشكرهم على ما أبدوه له، وقال إنه طالما تمنى أن يرى ميدانا مثل هذا يلعب فيه أمراء البلاد على صهوات الصافنات الجياد، ثم ترجل وترجلوا ودخلوا ديوانا جلسوا فيه، واستراحوا هنيهة، وقدمت لهم الشربات والشبقات، ومد السماط وعليه فاخر الطعام، وأتى بعده بالحلويات، وكانوا ثمانية: الأمير أحمد، وخمسة من أبناء أعمامه، والسر هنري، والترجمان، وأكل السر هنري من كل الألوان، واستطابها على دسمها، وكان يكلم الأمير أحمد بالفرنسوية وهو يترجم لأبناء عمه.
واستراحوا بعد الطعام ساعة زمانية، ثم التفت السر هنري إلى الأمير أحمد وقال له: لا بد لي من العودة إلى بيروت الليلة، وأرجو من فضلك أن ترسل معي واحدا من أتباعك يريني ما حول بلدكم من المغاير. فقال الأمير أحمد: أنا أذهب في خدمتك، فهل تريد أن نذهب راكبين أو ماشيين؟ فقال السر هنري: بل أفضل أن نذهب ماشيين، إلا إذا وجدت في ذلك مشقة أو كان المكان بعيدا جدا.
فضحك الأمير أحمد وقال: إني أجري النهار كله وراء الصيد، وأحب ما علي أن أمشي معك، لا سيما وأننا مضطرون أن نصعد وننزل في أماكن لا تسير الخيل فيها. ثم قاما وودعا الحضور وسارا وحدهما قاصدين المغاير، التي كان الأمير أحمد يمر بها وهو يجري وراء الصيد، فنزلا أولا إلى غربي القرية، ودارا إلى جنوبيها وشرقيها وهبطا في جهة كفر شيما، ومشى معهما ثلاثة من خدم الأمير، وكانا كلما وصلا إلى باب مغارة يراجع السر هنري ما قاله ولف خادم جده عن وصف المغارة والجهة التي تطل عليها، ويدخل الخدم المغارة ويخبرون عما رأوه فيها، واستمروا على هذه الحال نحو ثلاث ساعات إلى أن أجهدهم التعب، ومالت الشمس إلى المغيب ولم ير السر هنري مكانا ينطبق على الوصف الذي عنده.
وبينما كان السر هنري والأمير أحمد يجوبان الشعاب والهضاب يفتشان عن المغارة التي دفن فيها الكونت بدمونت، كانت الأميرة هند خالة الأمير أحمد قد ذهبت هي وابنتها وابنة سلفها إلى نبع ماء في مكان بين كفر شيما والشويفات، وتغدين هناك، ثم تبعتهن أم يوسف، وأتى معها رجل قزم كثير الهزل والمزاح يسمى عنتر، وهو من أفكه الناس حديثا، وأسرعهم خاطرا، يقيم في دور الأمراء للهزل والتهريج، فلما وصل قال للأميرات: خافت أم يوسف أن تخطفها الجن إذا أتت وحدها، فأتت بي معها مع إني أكدت لها أن الجن تخاف منها، ولو لم يكن أبو يوسف أعمى القلب ما وقع هذه الوقعة، ولكن «لا فولة مسوسة إلا ولها كيال أعمى.»
Bog aan la aqoon