وكان في صدر الطاق على عهد الأكاسرة عرش من ذهب مرصع بالحجارة الكريمة يجلس عليه كسرى، تعلوه قبة مرصعة في داخلها مروحة من ريش النعام، وإلى جانبي العرش مجالس الأعوان والمرازبة. وقد ذهب ذلك كله أثناء الفتح غنيمة للمسلمين وهم يومئذ أهل بادية حفاة عراة لا يفرقون بين الكافور والملح ولا بين الجوهر والحصى، فاقتسموا الآنية وقطعوا الأبسطة ومزقوا الستائر، وكان نصرهم من آيات تغلب البداوة على الحضارة؛ فلم يبق هناك إلا الأحجار وبعض الأساطين وقد تشوهت وتكسرت.
ونظرت ميمونة إلى ما حولها من الجدران الهائلة فرأت عليها صورا ملونة منعها الظلام من تحققها. ولما سمعت جدتها تستخيرها في الرجوع وهي لا ترى في ذلك المكان إلا ما يبعث على الوحشة، ناهيك بما كانت تخافه من الحشرات التي تكثر في مثل تلك الخربة، عزمت على الرجوع وأرادت أن تجيبها بالإيجاب فإذا بها تسمع دبدبة خارج الإيوان ولا تسمع كلاما؛ فاختلج قلبها في صدرها وأرادت أن تصيح فأرتج عليها ولصق لسانها بحلقها، وأدركت جدتها ذلك ولم تكن أقل خوفا منها، فأمسكت بيدها وأومأت إليها أن تتبعها إلى الداخل وهي تهمس في أذنها: «لعل أولئك العيارين أتوا للبحث عن بهزاد في الإيوان مثلنا، وهو والحمد لله ليس هنا، على أني أخشى أن يبصرونا؛ فتعالي نختبئ وراء هذه الأساطين حتى إذا أطلوا ولم يجدوا أحدا رجعوا.» قالت ذلك وصوتها يرتجف وهي تجر ميمونة بيدها، فأسرعتا فوق الحجارة وما يتخللها من الأعشاب والأشواك، فسمع لخطواتهما خشخشة وطقطقة رغم ما أرادتاه من التستر، ولم تنتبها لهول ما اعتراهما إلى ما كان يسرح بين أقدامهما من الجرذان والأورال وغيرها من الحشرات، حتى وصلتا إلى كوة واسعة لعلها كانت موضع العرش في إبان صولة الفرس. وعند الكوة أساطين متفرقة إذا دخل الطاق داخل لا يفطن لمن يقيم وراءها. فدخلتا الكوة وانزوتا فيها وهما تمسكان أنفاسهما من الخوف، وأصغتا وعيونهما محملقة تنظران إلى الباب بلهفة وجزع، وقد ندمتا على تلك المخاطرة.
ولم تمض لحظة حتى كفت الدبدبة وسمعت ميمونة همسا عند الباب كأن المتكلم يحاذر أن يسمعه أحد، ثم سمعت صوت قدح زناد، ورأت أشعة النور اندفعت إلى الطاق من سراج يحمله شخص طويل القامة ملثم بلثام أسود، وقد التف بعباءة سوداء فلم يبد منه غير يده التي يحمل بها السراج. وما لبث أن دخل صامتا وفي أثره بضعة رجال في مثل هيئته، فخفق قلب ميمونة وازداد اضطرابها حتى كاد الدم يجمد في عروقها، مخافة أن يتقدم الرجل بسراجه إلى مكانهما، فبالغت في الانزواء وهي ما زالت معانقة جدتها.
أما حامل السراج فلما توسط الطاق التفت يمنة ويسرة وقال: «ليس هنا أي أحد، وهل يعقل أن يأتي هنا أحد في مثل هذا الوقت؟ فليس ما سمعناه إلا خشخشة بعض الحشرات التي فرت حين أحست بقدومنا.» ثم نظر إلى ما بين يديه كأنه يبحث عن مكان يضع السراج عليه، فرأى بقية أسطوانة قد ذهب معظمها وظلت قاعدتها قائمة، فوضع السراج عليها، وأخرج يده الأخرى من تحت العباءة وفيها صندوق أسود فوضعه بجانب السراج والتفت إلى رفاقه وهم ستة، وقال بصوت ضعيف: «هل نبدأ الحديث؟»
فقال أحدهم: «نعم، قل ما بدا لك.»
فلما سمعت ميمونة صوت الرجل الأول استأنست به، وخيل إليها أنه يشبه صوت حبيبها، فاختلج قلبها وشاعت عيناها. ثم رأت الرجل الطويل ورفاقه قد خلعوا عباءاتهم فافترشوها وقعدوا عليها ما عدا أولهم فظل واقفا، وبدت ثيابهم من تحت العباءات على غير المألوف في بغداد؛ إذ كان على كل منهم قباء أخضر وعلى رأسه قلنسوة حولها عمامة خضراء، وقد تمنطقوا بالسيوف وتقلدوا الأقواس كأنهم يتأهبون للحرب.
واسترعى انتباهها طول الرجل الأول وكان قد ولاها ظهره، فرجحت أنه بهزاد، وحدقت فيه، وكادت تناديه ولكنها أمسكت وأشارت إلى جدتها أن تنظر إليه فعرفته على ضعف بصرها، وأومأت إلى ميمونة أن تصبر وتبقى صامتة، وأخذت تتفرس في القوم، وعرفت من وجوههم ولحاهم أنهم من الفرس ولكنها لم تعرف أحدا منهم. ثم رأت بهزاد قد تحول نحو قاعدة الأسطوانة وأخذ الصندوق فوضعه بين يدي الجماعة وقعد القرفصاء وقال: «أقسموا على ما في الصندوق أنكم تكتمون ما يدور بيننا.»
فتصدى رجل منهم رقيق البدن خفيف العضل تدل سحنته على مزاجه العصبي وحدة ذهنه وجرأته فقال: «ولكنك لم تخبرنا بما فيه، وقد وعدتنا أن تطلعنا على ذلك قبل كل شيء.»
فتناول بهزاد مفتاحا من جيبه وفتح الصندوق وقال: «انظروا ولا تتكلموا.»
فنظروا في الصندوق وتراجعوا وقد تولتهم الدهشة وقالوا: «إنا لله وإنا إليه راجعون. ما هذا؟»
Bog aan la aqoon