وخرج من القصر فركب فرسه وأوغل في المدينة مخترقا أزقتها الضيقة حتى بلغ إلى بعض أطرافها وهو غارق في بحار التأمل، وقد ساءه ما ذكره الفضل عن بوران لعلمه بأن الفضل يعني تزويجه بها، وقد فاته أنه إنما قال ذلك ترغيبا له في مناهضة العباسيين، ولو علم الفضل حقيقة بهزاد لرآه أرغب أهل الفرس في مناهضتهم.
فهاجت أشجانه، وتذكر ميمونة وكيف تركها في بغداد والعداء لا يلبث أن يستحكم بين الأخوين وتنشب الحرب بين البلدين، ولكنه اطمأن لإقامتها بقصر المأمون. وأنسته هذه الهواجس طريقه فانتبه فإذا به قد جاوز المكان الذي يقصد إليه، فدار حتى أتى زقاقا انتهى منه إلى باب ترجل عنده، ووقف والصندوق بيده وقرع الباب قرعا خاصا ولبث واقفا، ففتح الباب وخرج منه عبد طويل جاوز مراحل الشباب، فلما وقع نظره على بهزاد ترامى على يديه وأخذ يقبلهما ويقول: «سيدي، سيدي، أنت جئت؟ لقد طال غيابك!» قال ذلك وأراد أن يأخذ الصندوق منه فأباه عليه ومشى، فأدخل العبد الفرس الإسطبل وأقفل الباب وسار بين يدي بهزاد مهرولا فرحا حتى وصلا في آخر الدهليز إلى فناء واسع، فتحولا من بعض جوانبه إلى غرفة في صدرها عجوز طاعنة في السن قد شاب شعرها وتضنى جبينها وطال حاجباها حتى غطيا عينيها وقد تزملت بمطرف وجلست الأربعاء، فلما أطل العبد عليها صاح: «مولاتي، جاء سيدي، جاء سيدي.»
فبغتت وصاحت: «جاء؟ أين هو؟» وكان بهزاد قد وصل إليها فجثا عند قدميها وقبل يدها، فرفعت بصرها إليه وعانقته وضمته إلى صدرها وأخذت تقبله وهي تبكي وتقول بصوت مختنق: «أهلا بولدي وحبيبي، أهلا بك. أنت جئت يا كيفر، لقد طال انتظاري يا بني وخفت أن أموت قبل أن أراك وأفي بنذري.» قالت ذلك وخنقتها العبرات.
أما هو فتجلد وقال: «ما الذي يبكيك يا سيدتي؟ فلنحمد الله على اللقاء.»
فتراجعت وأمسكت عن البكاء وقالت: «إني أحمد الله حمدا كثيرا يا بني على رجوعك سالما. من أين أنت آت الآن؟» قال: «من بغداد.»
قالت: «وهل وفقت إلى ما تريد؟» قال: «وفقت وجئت بما تطلبين.»
قالت وقد دهشت: «جئت برأسه؟» قال: «نعم يا سيدتي.»
قالت: «أين هو؟» فأشار إلى الصندوق وقال: «هنا.»
فمدت يدها لتتناول الصندوق وقد نشطت كأنها استعادت شبابها وقالت: «في هذا الصندوق؟ افتحه. أرني رأس مولاي. أرني إياه لأتمتع برؤيته قبل انقضاء أجلى!»
فاعتدل في مجلسه، والتفت إلى العبد فانصرف من الغرفة. فلما خلا إلى العجوز أخذ يعالج الصندوق حتى فتحه وأخرج جمجمة وضعها بين يديها وقد فاحت منها رائحة التراب المتعفن، فنظرت إلى الجمجمة بعينين محملقتين وصاحت: «هذا هو رأس أبي مسلم. هذا هو رأس أبي. إنك أحييته يا بني.» وأخذت تقبل الرأس وقد شرقت بدموعها.
Bog aan la aqoon