وكان من بينها نهر يجري من دجلة شرقا حتى يخترق الرصافة والشماسية، عرف بنهر جعفر. وعلى جانبي هذا النهر أو الترعة وراء الرصافة بساتين فيها الأغراس والأشجار وبعض الأبنية، وهناك بستان واقع على طريق خراسان من جهة وعلى ذلك النهر من جهة أخرى، اتخذه بعض الخمارين من أنباط السواد خانا ينزل به القادمون إلى بغداد من الغرباء. وجعل فيه مما يلي الطريق بيتا يبيع فيه الخمور والأنبذة ويصنع فيه الأطعمة لمن شاء من الغرباء أو البغداديين.
وكان لبعده عن العمارة ووقوعه على قارعة الطريق يقصده الراغبون في ترويح النفس أو تناول الخمر من طبقات العامة لرخص الأثمان وقرب التناول، ومن بعض الخاصة الراغبين في شرب الخمر خفية خشية الرقيب أو فرارا من العار.
أما صاحب هذه الحانة فكان في حدود الستين، عركه الدهر، ولانت نفسه حتى كادت تسيل رقة. وقد عاصر ثلاثة من خلفاء بني العباس، هم: المهدي، والهادي، والرشيد. وشهد كثيرا من الأهوال آخرها نكبة البرامكة منذ ستة أعوام، ظل ثلاثة منها يشاهد جثة جعفر منصوبة على جسر بغداد.
والخمارون يعتادون دماثة الخلق بما يعرض لهم من مخالطة الناس في أحوال سكرهم ولهوهم، ولاضطرارهم إلى مجاراتهم في طباعهم؛ فيهون عليهم احتمال الضيم والصبر على الأذى مرضاة «لزبائنهم»؛ فلا عجب أن كان ذلك الخمار من ألين الناس عريكة وأطولهم بالا وأكثرهم اطلاعا على نقائص البشر وأكتمهم لأسرارهم. وكانت حرفته هذه تكاد تكون خاصة بأهل الذمة من اليهود أو الأنباط سكان البلاد الأصليين؛ وذلك لتحريم شرب الخمر وبيعها على المسلمين.
وكانت حانة ذلك النبطي غرفة من ذلك البيت، في أرضها حصير عليه وسائد من الخيش محشوة بالقش، وفي جدرانها كوى فيها دنان الأنبذة والخمور مما صنع من العنب أو التمر أو التفاح أو غيرها من الثمار، وفوق الكوى رفوف عليها زجاجات أو أباريق وأقداح من الزجاج أو الخشب يكيل بها الخمر أو النبيذ، ومن بينها ما يسع رطلا أو نصفه أو ربعه. وعلق على صدر الغرفة بربط، وعود، ودف. ترغيبا للمترددين عليه في أسباب السرور. ويغلب أن يكون الخمار رخيم الصوت يحسن الضرب على بعض هذه الآلات أو كلها. وكان بعض الخمارين في بغداد يجعلون في حانتهم قينة رخيمة الصوت حسنة الصنعة جميلة الطلعة يشرب الطلاب على صوتها.
ففي يوم من أيام سنة 193ه، مضى النهار على ذلك الخمار دون أن يقصد حانته أحد؛ لبعدها عن مركز المدينة. وكان أكثر ارتزاقه من المارة الغرباء، وهو يؤثرهم على أهل المدينة لأنهم يجهلون الأسعار، ولا يميلون إلى المساومة كأهل البلد؛ فلا يبالي أحدهم أن يؤدي ثمن الرطل من النبيذ خمسة دراهم على حين أن ثمنه لا يزيد على درهمين. فلما انقضى النهار ولم يأته أحد أوقد في بعض جوانب البستان نارا ليشوي سمكة أعدها لعشائه. وفيما هو ينفخ في الوقود، والدخان يتصاعد على وجهه حتى يتخلل لحيته ويغشى عمامته، وقد استوفز وشمر قفطانه وشكه من أطرافه بزنارة. سمع صوتا من قبل باب الحانة يناديه: «يا معلم سمعان.» فخفق قلبه سرورا وأسرع ليرى مناديه فوجده من العيارين، وهم كثيرون يومئذ في بغداد، ومعظمهم من أهل البطالة الذين يعيشون من الدعارة والنهب. وكان معه رفيق له، فلما رآهما استعاذ بالله، ولكنه كان قد تعود الكظم في مثل هذا الموقف، وعلم ألا مفر من استقبالهما حتى لا يصيبه أذى فتجلد وتقدم باسما مرحبا.
وكان العيار لابسا خوذة من الخوص، وعلى صدره دراعة من الجلد المدبوغ عليها نقوش ملونة، وهو عاري الذراعين، قد علق بكتفه اليمين مخلاة فيها حصى، وعلى حقويه سراويل من الخيش الثخين تكسوه إلى الركبتين، والمقلاع معلق بكوعه، وهو سلاح العيارين. وكان مكشوف الساقين حافي القدمين، يمسك بإحدى يديه عصا غليظة، وبالأخرى رغيفا أكل بعضه وفي فمه لقمة يمضغها وهو يقول: «اسقنا يا معلم.»
فرحب به الخمار وعمد إلى رطل صب فيه نبيذا وأعطاه إياه، ثم نظر إلى رفيقه فإذا هو بملابس الجند، وهي الدراعة على ظهرها طراز الدولة «فسيكفيهم الله وهو السميع العليم»، وعلى رأسه قلنسوة مستطيلة مدعمة بالعيدان. وقد علق السيف بمنطقته فوق قباء أسود. فتوسم الخمار منه خيرا لعلمه أن الجنود يؤدون ثمن ما يأخذونه إذا أخذوا رواتبهم. وطلب منه الجندي أن يعطيه رطلا؛ فبادر إلى إجابة طلبه ورحب به، فشرب الجندي واقفا، ثم تجشأ ومشى متبخترا. أما العيار فأخذ القدح وأدناه من فيه وهو يقول: «بورك فيك يا معلم سمعان، والله لأجعلنك عيارا عندي متى صرت عريفا أو مقدما.»
فقهقه الجندي وتقدم إلى سمعان فوضع يده على كتفه، وقال وفي لهجته عجمة، لأنه فرغاني الأصل من أبناء الجنود الذين استقدمهم المنصور في أيامه: «وأنا أعاهدك إذا حدث الانقلاب القريب وأخذنا مخصصاتنا على أن أعطيك ثمن هذه الأرطال مضاعفا. وأظنني مدينا لك بشيء من قبل، ولكن ما العمل؟ لا بد من الصبر!»
فقطع العيار كلامه وقال: «وأنتم أيضا تشكون القلة والفقر؟ ألستم من أصحاب الرواتب؟»
Bog aan la aqoon