Amin Khuli
أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد
Noocyada
في خضم هذه الحركية التقدمية تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ. إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، الاضطلاع بها هو أسلوب التفكير العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي التفكير العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة للتفكير المثمر السديد الملتزم - كما ذكرنا - بالواقع والوقائع، لتعقيل السير نحو الهدف. فضلا عن أن التفكير العلمي يعني الالتزام بقيم منشودة في التعامل مع الواقع المتعين، قيم من قبيل التخطيط والتفكير الممنهج والإبداع والتنافس لحل المشاكل في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء لمحك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا نجد البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دوما للنظرية أو المحاولة الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى والاقتراب المستمر مما هو أفضل. وهذا يعني الاحتمالية والنسباوية والراهنية المؤقتة لأية خطوة تتم أو إنجاز يحرز.
لكل هذا كان التفكير العلمي هو أنجح وسيلة امتلكها الإنسان في التعامل مع الواقع، على المستويين العلمي والعملي. لكن لنضع خطا بل خطوطا تحت لفظة «الواقع».
فلئن امتلك أسلوب التفكير العلمي كل هذه الفعاليات، فلا ننسى أبدا أنه في كل مستوياته - أي العلمية والعملية - ينصب على العالم الواقعي أو الكون الفيزيقاني. وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا العالم الواقعي أو هذا المستوى من الوجود هو الأولي المعاش المشترك بين الذوات، فإنه بالتأكيد ليس المستوى الأوحد لوجود الإنسان، بل يتميز الإنسان عن أي موجود آخر بتعدد مستويات الوجود التي تتراوح بينها أبعاد تجربته الوجودية الفريدة الثرية. وبخلاف العالم الواقعي الفيزيقي ثمة العالم الممكن والمرجو، عالم ما ينبغي أن يكون، عالم العاطفة والوجدان، عالم القيم والمثل، عالم الفن الاستطيقي، العالم الميتافيزيقي، العالم الأيديولوجي، وأخيرا عالم الغيب.
إذن فليس في العالم الواقعي الفيزيقي وحده يحيا الإنسان، وبالتالي ليس بالعلم وحده يحيا الإنسان، بل بتآزر سائر أبعاد تجربته الحضارية العلم والدين والفلسفة والقيم والفن والأيديولوجيا ... الحضارة الراشدة الناضجة تعني تفتح وتفاعل وتآزر سائر هذه الأبعاد، ما دامت جميعها تهدف إثراء الإنسان ووجودا أكثر اكتمالا وأكثر إشباعا. ولا شك أن الصراع بين جانبين أو أكثر من جوانب الحضارة يعني قصورا وأزمة يجب العمل على تجاوزها. بعبارة مباشرة، نتفق جميعا على الاحتياج الحضاري للعلم والدين معا، وليس مجديا البتة التضحية بأيها على مذبح الآخر.
هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنه مثلما تبدت لنا فعاليات التفكير العلمي، فقد تبدت أيضا سماته التي تتبلور في الاختبارية والقابلية للتكذيب والنسباوية والاحتمالية. ومن الواضح أنها تتناقض تماما مع سمات التفكير الديني التي تتبلور في التسليم والتصديق والمطلقية واليقين.
إذن تنتهي الآن إلى اختلاف طبيعة التفكير العلمي عن طبيعة التفكير الديني، مع التسليم باحتياج الحضارة الإنسانية إلى كلا الأفقين: الدين والعلم.
على هذا الأساس نناقش قضية علاقة التفكير العلمي بالاستنارة الدينية. ولن نخوض الآن في محاولات لتعريف وتحديد مفهوم الاستنارة الدينية، وقد أعطانا أمين الخولي تمثيلا عينيا لها، ونكتفي بالاتفاق على الأساس العام للاستنارة في كل صورها، الذي يعني النظر بعين الاعتبار للعقل الإنساني ولقدراته وإمكانياته المتوالية دوما، وبالتالي الانفتاح على متغيرات الواقع، والقدرة على الاستماع للرأي الآخر. هذا في مقابل الدوجماطيقية - أي التطرف - التزام الطرف الأقصى الواحد والوحيد وإنكار كل ما عداه، والانغلاق على قطعيات متصلبة عمياء، أو على ظاهر النصوص الدينية.
لا شك أن النص هو محور الارتكاز في كل أفق ديني، سواء أكان منغلقا أو مستنيرا. لكن الاتجاه المستنير لإيمانه بقدرة العقل وبتغير الواقع، يتعامل مع النص الديني بمناهج قادرة على التحديث وبعث الحياة فيه، ليتجدد مع كل جديد ويغدو ملائما لكل العصور، ولكل الأزمنة والأمكنة، فيكون الدين رسالة شاملة حقا. وكما لاحظنا في الفصل السابق حين اضطلع أمين الخولي بهذه الأطروحة لامس حدود الهيرومنيوطيقا. إذن تفرض الهيرومنيوطيقا نفسها علينا الآن مجددا. الهيرومنيوطيقا في أصوله القديمة - كما ذكرنا - هي علم تأويل الكتب المقدسة، لكنه قفز قفزة هائلة عبر المناهج المعاصرة، وأصبح الآن نظرية عن الخبرة الحية بالنص. لقد أصبحت علم فهم وقراءة النصوص على إطلاقها، لكن تظل تكتسب أهمية خاصة في النصوص الدينية والتراثية؛ لأن القراءة الهيرومنيوطيقية ينصهر فيها النص والقارئ معا، الماضي والحاضر في علاقة متجددة هي موقف أنطولوجي (أي وجودي) للقارئ المفسر، كما أنها جزء من تاريخ النص.
2
Bog aan la aqoon