حرص أبو سريع أن يرد الأمانات إلى أصحابها عند طلبهم لها، فاشتهر في القرية بالأمانة شهرة عامة، فتزاحم عليه أصحاب الأمانات حتى شعر أنه قد آن له أن ينفذ ما ينتوي عليه فقصد إلى وجدي بك. - يا وجدي بك لي عندك رجاء. - خيرا. - تامر أطال الله عمره تزوج وأنجب لك وجدي الصغير. - ألا تفكر أن تقدم له هدية؟ - قل ما تريد دون لف ولا تحايل. - أنا لم يعد لي عيشة هنا، ابني الوحيد مقيم بمصر ومعه زوجته وهي حامل، وأريد أن أكون إلى جانبه. - وأرضك؟ - هذا ما جئت إليك فيه. - أتريدني أن أشتريها؟ - أنت تعرف ثمن الفدان الآن أصبح مرتفعا، ولا يستطيع أحد أن يشتريها إلا أنت. - أنا أعرف أنها أرض خصبة، وتصلح لزراعة الفواكه. - ومجاورة لأرضك. - كم تقدر ثمنا للفدان؟ - سعادتك تعرف أثمان الأرض عندنا. - وأنا اشتريت. - وأنا بعت. - أتريد الثمن كله دفعة واحدة؟ - أنا لا أريد أن تكون لي صلة بالدلجمونة، فليس لي إلا ابني وزوجتي سلمى التي تتوق أن تكون بجانب ابنها. - الكلام معقول. ولو أنني أريدك أن تظل رقيبا على حساباتي. - ميخائيل وسعيد في غاية الأمانة والدربة، وأنت لا تحتاج إلي. - اكتب العقد. - اسمح لي أسأل بكم؟ - الثمن معروف. - لكي يطمئن قلبي. - أربعمائة ألف جنيه. - ونعم الرجال أنت. - وسأعطيها لك كاملة عند التسجيل. - سأبدأ في الإجراءات من الغد، ولن آخذ منك عربونا. - أنت تعرفني. - كلمتك عقد وشيك معا؛ إني أعرفك حياتي كلها.
الشيخ عبد الحميد أبو جريشة شاب كفيف البصر يقرأ القرآن في المآتم وفوق القبور بقرية الدلجمونة أمله في الحياة أن يتزوج، ولهذا راح يدخر الجنيه فوق الجنيه، حتى إذا تقدم للزواج وجد عنده ما يستطيع أن يقيم به حياته وحياة بنيه، وكان الشيخ عبد الحميد حريصا أن يجالس أهل القرية، ويتعرف على أخبارهم، فالوقت على الكفيف متطاول ثقيل، ولهذا كان عبد الحميد يعتبر زواجه موضوع حياة أو موت.
وكان يسمع فيما يسمع من أهل القرية بعضهم يقول للآخر: لقد تزوج فلان من زوجة وقاك الله النظر إليها. إنها أقبح من قمر العوراء.
فاستقر عزم عبد الحميد على الزواج من قمر العوراء، وهل يصلح للعوراء إلا كفيف مثلي؟ خاصة أنها فقيرة معدمة تقوم بالخدمة في بيوت الأعيان، وعين واحدة تكفي كلينا.
ولم يتمهل عبد الحميد.
كان لعبد الحميد صديق قارئ قرآن مثله، ولكنه كان بصيرا، وكان اسمه سلامة مرسي، وكان عبد الحميد وصديقه سلامة يتسمان بالظرف والفكاهة الذكية، ومن العجب أن عبد الحميد كان أكثر أهل القرية سخرية من أناسها، فكان كثير من الشباب يستحبون أن يتحلقوا حوله في أوقات فراغهم، فتتعالى منهم الضحكات لتعليقاته اللاذعة المتجددة. وكان يجالسه مع سلامة، الورداني عوض وغيرهما من شباب القرية. وفي جلسة من هذه الجلسات تخافت الصوت حوله حتى أحس أنه لم يبق معه إلا سلامة. - سلامة. - ما لك؟ - هل نحن وحدنا؟ - نعم. - فقم بنا. - إلى أين؟ - فقط هيا بنا، وسأخبرك في الطريق. - هيا بنا.
وحين بدأ بهما الطريق قال عبد الحميد: هل يسمعنا أحد؟ - لا، انطق ماذا تعوز؟ - أعوز أن أذهب إلى قمر العوراء. - أعوذ بالله. - أعوذ بالله منك. - فيم تريدها؟ - إذا قلت لك لا تضحك. - لعلك تريد أن تتزوجها. - وأي عجيبة في ذلك. - إن قبحها لا يتصوره بشر. - فما فائدة العمى إذا لم أظفر بالزواج بها؟ - وأنا ما ذنبي حتى أراها؟ - إنك صديق لأعمى فلا عليك أن تذهب به إلى عوراء. - والله إنك على شدة قبحك أكثر صباحة منها. - حتى تعرف ميزات العمى يا مغفل. - كتر خيرك. - قل لي، الولد زردق الشنواني. - ماله؟ - كثير المجيء إلينا في هذه الأيام، كان في جلستنا اليوم، وكان هنا أيضا من يومين. - يريد أن يتزوج هو الآخر مثلك. - هكذا، ومن العروس؟ - نبوية بنت الشيخ عبد الفتاح أبو إسماعيل. - وتمت الخطبة؟ - هو طلبها. - وطلبه معناه أن الخطبة قد تمت. - لك حق. - الشيخ عبد الفتاح كما تعرفه يخاف من خياله ويرتعد إذا ذكر أحد أمامه أنه يملك ثمانية أفدنة مخافة أن يخطف منه فدانا. - يقولون إنهما قريبا سيتزوجان. - لا بارك الله في هذا الزواج. - إي والله لا بارك الله فيه. - زواج سفاح من أرض لا من عروس. - يقولون إن سيده عيدروس مقتر عليه وعلى إخوانه من سفاحي عصابته. - فلماذا لا يتركه زردق؟ - هل جننت؟ - وماذا في ذلك، فإن لم يكن عيدروس يعطيهم ما يكفيهم، فهناك مائة عيدروس غيره. - يظهر أن زواجك من قمر العورة سيذهب بعقلك. - لماذا؟ - أولا زردق وشمندي وسرور وعبادة الذين يكونون عصابة عيدروس لا يجرؤ واحد منهم أن يتركه؛ لأنه سيأمر الثلاثة الآخرين بقتله على الفور. - وثانيا؟ - ليس في الجهة أحد يجسر على أن يستأجر واحدا كان من عصابة عيدروس، المسألة فيها رقاب يا سيدنا. - لك حق. - نحن لنا مدة طويلة نمشي، ألم نصل؟ - وصلنا. - فلماذا لم نذهب إلى البيت؟ - قلت أدور بك بعض الوقت لعلك تعدل عن فكرتك. - والله لا أعدل أبدا، ولو مشيت بي إلى الآخرة. - الأمر لله، انتظر حتى أطرق الباب.
وجاء الصوت. - من؟ - افتحي يا قمر أنا عبد الحميد. - عبد الحميد من؟ - عبد الحميد أبو جريشة. - أهلا وسهلا.
وفتحت الباب وما إن رأت الشيخين حتى صاحت: والشيخ سلامة. - كيف حالك يا قمر؟ - يسلم حالك، كان علي أن أتوقع، فأنتما لا تفترقان. - إن كنا نفترق أحيانا، فاليوم لا بد أن أكون معه. - أهلا شرفتما، أحضر لكما كوبين من الشاي.
وقال عبد الحميد: اقعدي بلا شاي بلا غيره، وهل كنا قادمين من أجل شايك؟ - قعدت، إنما الزيارة غريبة يعني. - بعد قليل تعرفين أنه لا غريب إلا الشيطان. - أعوذ بالله، خيرا يا مشايخ.
Bog aan la aqoon