وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره، أنه يأتلف من عنصرين خطيرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي أنتجته، والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور، ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد، والتجديد.
فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم ما بذل الأدباء وما سيبذلون من الجهود الهائلة المضنية، مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرها في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائما عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التحول عنها؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها، فأنا لا أبحث الآن عن العلل والأسباب، وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلا. لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز بها الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، كل ذلك ممكن، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لا يستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها.
فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من الناس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث عن هذه اللغة المعربة الفصحى، فأنتجوا آثارا فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدبا، ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح، وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبنا العربي لا يهمل الأسماع إهمالا قليلا أو كثيرا، وإنما يعنى بها أشد العناية؛ فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدبا مكتوبا مقروءا، وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه.
وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه، أساسا لكل هذه الخصال.
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر، هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا عليه أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يقل في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع؛ فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائما بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزانا يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء، ثم لم يستطيعوا على كثرة ما عابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية على شعرائها البادين، وقد كان أبو نواس من أشد الناس عيبا للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم، ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولا، كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء، وحن حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الأعرابي القديم يحن إلى ديار هند وأسماء، فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ، وقد أنكر أبو نواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل، ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين، وقد هم الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا، ولكن تكلفهم يرد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء، كما أن مبالغتهم ترد إلى قصد القدماء واعتدالهم، أو تصبح مصدرا للسخر والاستهزاء.
وقد حاول الموشحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة، فيزاوجوا بين أوزان وأوزان، ويخالفوا بين قواف وقواف، ولكن فنهم لم يستطع أن يعمر طويلا، ففني في الزجل، وأصبح لونا من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين.
فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم أستقصها، وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها، وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئا من التجديد، فلا ينجحون نجاحا صحيحا إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار، والنثر مع أنه استحدث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام، قد اتخذ لنفسه أصولا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة المعربة، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصافة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالا ساذجا لا يخلو من روعة وجلال.
ومع أن كثيرا من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية، فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصا شديدا واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إماما أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك، وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء، واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم، ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء، وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية؛ فكما أنك لا تسمع قصيدة ولا تقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب، فأنت لا تقرأ كتابا ولا فصلا إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكاتب أو ذاك من كتاب العصر القديم.
ما زال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر: تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل، للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل ما يكون هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى، مع الحرص كل الحرص على الإعراب، والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظا غاليا في المحافظة، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحا معتدلا، وقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد، وقد يبلغ بهذا الغلو أقصاه، فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف، أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول، ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لا يخرج بالعربية عن أصولها، وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرب ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة، مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى، ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفا عناصر التجديد، وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لسانا ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها.
Bog aan la aqoon