وحقق أدبنا العربي الحديث هذه الصلة الرائعة بين حياتنا القديمة وبين الحياة الأوروبية الحديثة، واستؤنف الاتصال بين الأدب العربي وبين الشعب وحياته الواقعة العامة؛ فأصبح الأدباء مرآة للشعب حقا ينطقون بلسانه ويصورون آلامه وآماله، وقد حاول أديب أو أديبان الارتفاع بالأدب عن الشعب والاعتزال في البروج العاجية، فلم تظفر هذه المحاولة إلا بالإخفاق الفاحش الشنيع.
وكذلك اتصل التاريخ وأصبحت الحياة الحديثة صورة متقاربة للحياة القديمة على ما بينهما من الفروق الهائلة؛ فأدبنا الحديث متصل بحياتنا الواقعة، كما كان أدبنا القديم متصلا بالحياة القديمة الواقعة، والفرق بين الأدبين عظيم؛ لأن الفرق بين الحياتين عظيم جدا؛ حياتنا الواقعة شعبية أو تريد أن تكون شعبية لا يستأثر بها فريق من الناس دون فريق، وأدبنا الحديث شعبي أو يريد أن يكون شعبيا لا ينشئه قوم ممتازون لقوم ممتازين.
والحياة الواقعة القديمة أرستقراطية قد استتبعت أدبا يشبهها، ومن هنا نلاحظ هذه الظاهرة الطريفة ظاهرة الأدب المزدوج في الحياة الواقعة القديمة، والأدب الفرد في حياتنا الحديثة؛ في الحياة الواقعة القديمة أهمل الشعب فعاش عيشته الخاصة، وأنشأ أدبه الخاص، فشاع كتاب ألف ليلة وليلة، وما يشبهه من الأدب الشعبي، وفي حياتنا الحديثة عظم أمر الشعب وأصبح كل شيء، فعني به الأدباء، ولم يحتج إلى أدب شعبي خاص، وإنما اكتفى بهذا الأدب الرفيع الذي كان ينظر إليه من بعيد فأصبح الآن يذوقه، ويتخذه غذاء للعقول والقلوب.
هذه هي قصة الاتصال والانفصال بين الأدب والحياة الواقعة، تظهر خطيرة كل الخطورة حين ننظر إليها نظرا سطحيا، فإذا تعمقناها وبلونا حقائقها رأيناها يسيرة قريبة تنحل إلى شيء يسير قريب، وهو أن الأدب متصل دائما بالحياة الواقعة، فإذا أصبحت هذه الحياة الواقعة شعبية، فليس للأدب بد من أن يكون شعبيا أيضا، وهذا هو الذي تتجه إليه حياة الآداب؛ لأن هذا هو الذي تتجه إليه حياة الشعوب.
الأدب المظلم
ليست حياة الناس كلها وردا، وليست حياة الناس كلها شوكا، وقد أنبأنا شاعرنا القديم منذ عشرة قرون بأن العاقل يشقى بعقله في النعيم، وبأن الجاهل يسعد بجهله في الشقاء، ومعنى هذا أن الحياة شوك بالقياس إلى العاقل الذي يحلل ويعلل، ويحصي ويستقصي، ويحاول أن يرد كل شيء إلى علته، ويستخرج من كل شيء نتيجته، وأن الحياة ورد بالقياس إلى الجاهل الذي يأخذها كما تساق إليه لا يحاول لها فهما ولا تأويلا.
وتستطيع أن تعرض هذه القضية عرضا آخر فتقول: ليست الحياة كلها مشرقة كما يشرق النهار، وليست الحياة كلها مظلمة كما يدلهم الليل، وأكبر الظن أنها تظلم وتدلهم حين يريد العاقل أن يحياها عن بصيرة وفهم، وأنها تشرق وتضيء حين يريد الجاهل أن يقبلها كما تهدى إليه.
وأكبر الظن كذلك أن إشراقها بالقياس إلى الجاهل نفسه لا يخلو من ظلمة تغشاها بين حين وحين؛ فتخفي معالمها وتشوه محاسنها وترد صاحبها على جهله إلى الحيرة حينا وإلى القنوط حينا آخر؛ وأن ظلمتها بالقياس إلى العاقل لا تخلو من ضوء ضئيل نحيل ينفذ إليها أو ينفذ منها كما ينفذ السهم فتشرق له بعض جوانبها لحظات تقصر أو تطول.
وليس في ذلك شيء من الغرابة! فضوء الشمس يحجبه السحاب، وظلمة الليل يجلوها ضوء القمر أو تخترقها أشعة النجوم، والناس كلهم يعلمون أن حياتهم مزاج من الخير والشر، ومن السرور والحزن، ومن الرجاء واليأس، ومن الابتهاج والابتئاس، تختلف حظوظهم من هذه النقائض باختلاف الطباع والأمزجة، وباختلاف البيئة والظروف، وباختلاف هذه المزايا التي ركبت في نفوسهم والتي تعكس لهم الحياة نقية صافية حينا، وكدرة قاتمة حينا آخر.
ولكنهم بعد ذلك يختلفون، أو قل إن أدباءهم وفلاسفتهم يختلفون حين يريدون أن يصوروا لهم هذه الحياة فيما يحدثون من فلسفة، وفيما ينشئون من أدب؛ فبعضهم لا يصور من الحياة إلا صفوها وعفوها، وما يشيع فيها من نقاء وجمال، وبعضهم لا يصور من الحياة إلا شرها ونكرها وما يجثم عليها من فساد وضلال، وبعضهم يتوسط بين ذلك فيصورها شائقة رائقة حينا، ويصورها قاتمة بغيضة حينا آخر.
Bog aan la aqoon