وهو إذن مضطر إلى أن يقرأ سخفا كثيرا، وإلى أن يسمع سخفا كثيرا، وإلى أن يتحمل سخفا كثيرا، ليس له من ذلك بد إلا أن يكون رجلا قد قسا قلبه وغلظت كبده وآثر نفسه بالسلامة والعافية، واعتزل مواطنيه وازدرى ما يصيبهم من الكوارث والنازلات.
وهو إذا أصبح مضطر إلى أن يتجرع صحفا أربعا أو خمسا، وإذا أمسى مضطر إلى أن يتجرع مثل ذلك، وإذا دار الأسبوع مضطر إلى أن يتجرع في كل يوم صحيفة أو صحيفتين من هذه الصحف التي تقصد إلى المزاح، ولكنها تمعن بمزاحها في الجد إمعانا خطيرا في كثير من الأحيان.
ثم هو إذا لقي الناس مضطر إلى أن يسمع منهم ويقول لهم، وويل لعقله وقلبه مما يسمع! وويل لعقله وقلبه مما يقول! وهو بفضل هذا كله مصروف عن العمل المنتج والقراءة الممتعة والعناية بما يغذو العقول والقلوب، فهو يبدأ يومه بالسخف، ويقضي يومه في السخف، ويختم يومه بالسخف، وهو سعيد إذا لم ينغص عليه السخف راحة النوم ولذة الأحلام.
أليس من الطبيعي أن أفكر في هذا كله إذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها، وأن أبتسم لهذه الأيام التي يمكن أن أقضيها دون أن أقرأ الصحف مصبحا وممسيا، ودون أن أتحدث إلى الناس أو أسمع أحاديث الناس عن مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، وما يحيط بهما وبنا من الظروف!
كل هذا ولم أذكر العمل الأساسي الذي أقيم حياتي عليه؛ لأني لا أجد في هذا العمل جهدا ولا مشقة ولا عناء، وإنما أجد الجهد والمشقة والعناء في أني مصروف عن هذا العمل على شدة ظمئي إليه وكلفي به، وعلى كثرة دعائه لي وإلحاحه علي؛ فأنا أشبه الناس بالمسافر الذي يكاد قلبه يتقطع من الظمأ، والماء بين يديه عذب صفو زلال، ولكنه لا يستطيع أن يدني منه شفتيه ...
فإذا ذكرت الراحة أو سعيت إليها فإنما أذكر راضي النفس مطمئن القلب مبتهج الضمير أن هذه الراحة قد تتيح لي شيئا من هذا التعب الحلو الذي أتحرق كلفا به وشوقا إليه. وقد يصدقني القارئ أو لا يصدقني، ولكني أعلم أني أنفقت أيام السفينة عاكفا على قراءة كتاب في حياة عثمان لا صلة بينه وبين الراحة والدعة والفراغ، وما أعرف أني استمتعت بشيء طوال هذا العام كما استمتعت بهذه القراءة التي استطعت أن أفرغ لها دون أن تصرفني عنها صلصلة التليفون، أو الزيارة المفاجئة، أو الأسئلة التي لا غناء فيها، أو قراءة السخف السياسي والمشاركة فيه.
أترى إلى هذا النوع من معاني الراحة كما عرضته عليك في هذه السذاجة التي لا تكلف فيها أنه معنى إضافي مقصور علي أو يوشك أن يكون مقصورا علي، فغيري من الناس يذهبون في الراحة غير مذهبي، ويبتغون بها غير ما أبتغي، وينتظرون منها غير ما أنتظر، تتقارب آراؤنا وأهواؤنا في ذلك وتتباعد، ولكنها تختلف على كل حال باختلاف أمزجتنا وطبائعنا وآمالنا وما نسعد أو نشقى به من ضروب الحياة.
فإذا ذكرت الدعة فأمرها في ذلك كأمر الراحة يختلف معناها باختلاف طلابها، فليست الدعة عندي ترفا ولا شيئا يشبه الترف، وأكاد أقطع بأني أجد من الترف في داري بالقاهرة ما لا أجده بل ما لا أجد قريبا منه في أي مكان آخر من الأرض، وإنما الدعة التي أطمع فيها وأطمح إليها حين أمنح نفسي الإجازة من عام إلى عام هي التخفف من أثقال التكاليف التي تفرضها حياتنا اليومية المنظمة، هي التخلص من العادات المألوفة والنظم المقررة الملحة التي تلقاك إذا خرجت من نومك مع الصبح، وأقبلت على طعامك تصيب منه على نحو لا يتغير أو لا يكاد يتغير، ثم على ثيابك تلبسها على نحو لا ينبغي أن تحيد عنه قليلا ولا كثيرا، ثم على مكتبك ثم على مكانك في هذا المكتب، ثم على عملك في هذا المكان، ثم على ما يلم بك من هذه الأحداث المتشابهة التي تكاد تتنبأ بها قبل أن تنسل من سريرك، وتكاد تحدد لها أوقاتها من النهار أو من الليل لا يفاجئك إلا ما يكون من صلصلة التليفون وزيارة الزائرين، وأنت مع ذلك قد قدرتها وحسبت لها حسابها؛ لأنها أصبحت جزءا من حياتك وقطعة من سيرتك لا سبيل إلى أن تخلص منها أو تتخفف من أثقالها.
هذه الحياة المنظمة المضطربة التي تطرد، ولكنها لا تخلو مع ذلك من الأمت والاعوجاج، والنبو هنا وهناك، والتي تفرض نفسها عليك من أول العام إلى آخره، قد قدرت نفسها ودقائقها تقديرا مفصلا دقيقا مضنيا، هذه الحياة هي التي تضيق بك أو تضيق بها، أو تبادلك ضيقا بضيق حين يتقدم العام، وما تزال بك حتى تعجز عن احتمالها ، وما تزال أنت بها حتى تعجز هي عن احتمالك.
فإذا بلغ العام آخره أصبحت أنت مجهدا مكدودا لا تقدر على شيء، وأصبحت هي فارغة سخيفة لا تصلح لشيء، وأصبحت الدعة هي هذا الشعور الذي يلقي في روعك أنك فارقت هذه الحياة وأنها فارقتك، وأن كليكما قد تخفف من صاحبه إلى حين.
Bog aan la aqoon