وما بقي من مكافأة أبي استعنت به بعد رحيل أمي على شراء حانوت صغير على القارعة لبيع الفاكهة. •••
ومرت بي ثمانية أعوام طوال عنيفة جاهدة، دأبت فيها على الخدمة في الحانوت، وبرعت في استهواء زبائني، واكتسبت خبرة برغباتهم، فاستطعت أن أجعل الصبية «ج» الحسناء رافلة أبدا في المطارف الناعمة، تزيدها حسنا، وتكسبها تفتحا وازدهارا.
وفي المساء، إذا لم يكن حفل ولا خروج إلى النزهة، اعتدت أن أكب في البيت على الخيط والإبرة، أحيك في معزل ثوبا جديدا لأختي تريده للظهور غانية حالية في محفل منتظر أو وليمة وشيكة. ومن خلال الظلال لا ألبث أن أرى عينين ناعمتين براقتين مصقولتين تطالعانني ضاحكتين متهللتين، وهما مترعتان مراحا بالحب، واسترواحا إلى الصبابة، وقد تحقق أمل الشباب، وصحت في الصبا الأحلام.
وكان حبيبها فتى ممتشق القد مكتمل العضل، ذا فم حلو ومعارف عليها من الصباحة آيات بينات. وفيما كانت تلك الإنسانة الصغيرة الخيالية البديعة تذوب متلاشية في تلك الأحضان القوية الرقيقة المفتولة، كنت أذهب أسائل النفس في حسرات: لماذا لم تقدر لي السعادة، ولم قد حرمت ذلك الهناء ...؟
وأذكر ليلة دعاني فيها شاب مليح إلى الذهاب معه إلى العشاء في مطعم فخم والانطلاق بعد نعمة المائدة إلى الملهى، فخفق فؤادي سرورا وطربا لتخيل قضاء بضع ساعات في رفقة ذلك الأغيد المليح، ولكني تذكرت أن أختي ستذهب في تلك الليلة بالذات إلى مرقص بديع، ولم أتم بعد ثوب زينتها، فاستعفيت ولم أقبل المقترح. وكان هذا آخر العهد بيني وبين ذلك الفتى.
وجاء اليوم الذي كاشفتني أختي الطفلة الغريرة اللدنة الناعمة كأمها بعزمها على القران، ففي تلك الليلة أطلت الجلوس إلى المرآة فأدركت أنني مدانية حدود الكهولة، وأنني من فرط حناني عليها ورعايتي تركت الحياة تمر بي مرا، حتى أصبحت ولم أعد غير فتاة عانس انمحت مسحة جمالها فغدت خلية من سمات الحسن ومعالم الحداثة.
واها لي، وحسرة على الشباب، لقد كنت أحلم بالحب ولا أزال به حالمة، فيأسا أيتها المسكينة وهيهات؛ فإن الحب لم يخلق لمثلك، وإنما أنت عون أبيك وخليفته في عشيرته ... •••
وكذلك لبثت عشرين سنة بجانب «ج» أرعى لها بيتها وهي متعلقة بي كما كانت أمنا تتعلق بأبينا، وكانت هي تقول إنها لا تستطيع العيش مستغنية عن عوني، فظللت في عونها، وكانت - وا حسرتاه عليها - لا تزال في ربق الشباب عندما عاجلها الموت فذهبت للقاء أمها وأبيها، وكان زوجها يحبها ويعجب بها، ولكن قبل أن تتفتح أكمام الزهر والأعواد التي زرعناها حول قبرها، وكانت تلك الأزاهر أحب شيء إلى نفسها، جاء زوجها إلى البيت بزوج أخرى، ولم تكن هذه تحتاج إلى سناد تترامى عليه، وعماد تنهض فوقه، فلم ألبث أن أدركت أنه لم تعد بأحد حاجة إلى بقائي.
لقد كنت من الحداثة ضرورية لا غناء لأبي عني، ولا لأمي من بعده، ولا للصغيرة «ج» التي تركاها لرعايتي وعوني. فإذا بي على رأس الأربعين، وحيدة لا حاجة بأحد إلي، ولا مكان لي عند أحد.
وجاءني يقول وهو متكره متردد: إنه قد أعد العدة لإيوائي إلى دار هادئة يعيش فيها نساء مثلي لا يعملن عملا مجهدا، ولكن يجدن رفاهية ورعاية بقية آجالهن.
Bog aan la aqoon