التوجيهات الصحيحة للنوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا
التوجيهات الصحيحة للنوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا
Noocyada
التوجيهات الصحيحة
للنوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا
كوفيد ١٩ (COVID-١٩)
إعداد:
د. محمد بن صالح بن هادي الهمامي
1 / 1
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف.
١٤٤٣ هـ- ٢٠٢١ م.
رقم الفسح الإعلامي: ٥٨٣٢٥٦٢٠٢١٠٩٢١
1 / 2
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فحلول الوباء سنة ربانية اقتضتها حكمته ﷿، وشاء سبحانه بقضائه وقدره فيها، فلا يقع في هذا الكون إلا ما شاء الله وأراد، وهو سبحانه لا يرفع الضر والبلاء عن العباد والبلاد إلا إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء.
والوباء من جملة الابتلاء الذي يبتلي به الله عباده، فمن صبر فله الجزاء الحسن في الدنيا، والثواب الكبير في الآخرة، ومن جزع فقد خاب عمله في الدنيا، وخسر ثوابه في الآخرة.
ولابد للعباد عند حلول الوباء من الالتجاء إلى الله وحده، وطلب المعونة والرجاء منه دون سواه، ودعاؤه برفع البلاء دون غيره؛ فلا يقدر على هذا البلاء ولا يدفع هذا الوباء إلا الله، وما سوى ذلك ماهي إلا أسباب رضي بوقوعها وأذن بنفعها سبحانه.
كما يجب عليهم عند حلول الوباء من ضرورة العلم والبصيرة بالشرع فيما يقومون به من عبادات أو اعتقادات، ويجب عليهم الحذر من الابتداع أو فعل ما يخالف مسلمات الدين عند فعل هذه العبادات أو الاعتقادات؛ فبالعلم تزول الشبهات التي تحجب الحق، وتعرف المخالفات التي تسبب الانحراف عن الدين وتبعد عن السنة.
وقد حدثت الأوبئة في بلاد المسلمين في أزمان كثيرة وأماكن متعددة، وكان أول وباء حدث في تاريخ المسلمين هو طاعون عمواس (^١) الذي حدث في عهد الخليفة عمر ﵁.
_________
(^١) بلدة في فلسطين بالقرب من بيت المقدس، ومنها كان ابتداء الطاعون في أيام عمر بن الخطاب ﵁، ثم فشا في أرض الشام فمات فيه خلق كثير لا يحصى من الصحابة ﵃، ومن غيرهم، وذلك في سنة (١٨ هـ). ينظر: معجم البلدان، الحموي، (٤/ ١٥٧ - ١٥٨).
1 / 4
وقد تعامل الصحابة ﵃ مع هذا الطاعون بأمثل طريق وأفضله؛ فقد كان من عادة الصحابة ﵃ أنهم إذا نزلت بهم النازلة يجتمعون مع إمامهم ويتشاورون لها، ويتباحثون ويتناقشون فيها، ثم يخرجون عن رأي يوافقون فيه إمامهم ولا يعترضون عليه.
فعندما خرج عمر ﵁ إلى الشام، لقيه أمراء الأجناد، أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام. فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله ﷺ، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان، إحداهما خصبة، والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبدالرحمن بن عوف - وكان متغيبا في بعض حاجته - فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» قال: فحمد الله عمر ثم انصرف (^١).
وقد توفي في هذا الطاعون الكثير من الصحابة ﵃ منهم: أبو عبيده بن الجراح، ومعاذ ابن جبل، ويزيد بن أبى سفيان، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل ﵁ (^٢)، وقدَّر بعض المؤرخين أن الذي مات من المسلمين بهذا الوباء ما يقرب من خمسة وعشرين ألفًا (^٣).
_________
(^١) رواه البخاري، في كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون ح (٥٧٢٩)، (٧/ ١٣٠)، ومسلم، في كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، ح (٢٢١٩)، (٤/ ١٧٤٠).
(^٢) ينظر: تاريخ الطبري، (٤/ ٦٠).
(^٣) ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير، (٧/ ١٠٧).
1 / 5
وهذا الطاعون يعتبر هو أول النوازل العقدية المتعلقة بالأوبئة في حياة الصحابة ﵃ بعد وفاة النبي ﷺ، وقد كان تعاملهم ﵃ مع هذا الوباء التعامل الأمثل المبني على التشاور والاجتماع وعلى الاتباع وعدم الابتداع، فلم يحدث منهم أية مخالفة عقدية أو بدعة محدثة تخالف سنة النبي ﷺ.
وهذا التعامل يجب أن يكون قدوة للأمة عند حلول الأوبئة، ومثال يحتذى عند حصول الحوادث الكونية وتغير الأزمنة.
وبالاستعانة بالله ثم قراءة ما أمكن قراءته من النوازل فقد تم تحديد وحصر أهم هذه النوازل التي وقعت، وتتبع أهم هذه الحوادث التي حدثت مع حلول وباء كورونا.
والمسائل العقدية المتعلقة بوباء كورونا تحتاج إلى دقة في معرفة كونها نازلة أم لا، وإلى تحديد صحيح في كونها جديدة في وقوعها أم متجددة في مضمونها.
وسيتم التعريف بالمصطلحات، والفرق بين الوباء والطاعون، وبيان هذه النوازل، ومناقشة الانحرافات التي حدثت في هذه النوازل، والتوجيه العقدي الصحيح والرد العلمي المؤصل لهذه النوازل بإذن الله.
وهذا بيان بأهم النوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا وهي كالتالي:
* النازلة الأولى: المخالفات العقدية في القبور والأماكن؛ للتداوي من وباء كورونا.
* النازلة الثانية: التلفظ بالأدعية والأذكار المخالفة؛ للتداوي من وباء كورونا.
* النازلة الثالثة: التوسل بغير الله؛ لرفع بلاء وباء كورونا.
* النازلة الرابعة: التنزيل الخاطئ للأدلة الشرعية عند حلول وباء كورونا.
* النازلة الخامسة: ترك الأدلة الشرعية والاعتماد على الأدلة العقلية.
* النازلة السادسة: الدعوة إلى الاعتماد على العلاجات الطبية فقط، وترك كل ماله صلة بالدين.
* النازلة السابعة: الاعتقاد أن وباء كورونا مذكور في القرآن.
* النازلة الثامنة: الزعم بأن وباء كورونا من صنع البشر.
* النازلة التاسعة: التنجيم وادعاء علم الغيب في وباء كورونا.
* النازلة العاشرة: المسائل المتعلقة بالسمع والطاعة لولي الأمر.
1 / 6
التمهيد، وفيه مبحثان:
* أولًا: التعريف بالنوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا.
* ثانيًا: الفرق بين وباء كورونا والطاعون.
1 / 7
أولًا: التعريف بالنوازل العقدية المتعلقة بوباء كورونا
تعريف النوازل:
في اللغة: النون والزاء واللام كلمة صحيحة تدل على هبوط شيء ووقوعه (^١)، ونزل به الأمر أي: حل (^٢).
والنازلة هي الشديدة تنزل عليهم بأمر عظيم (^٣)، وقيل هي: المصيبة والشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس (^٤)، كما قال الشاعر:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج (^٥).
واصطلاحًا: استعمل بعض العلماء مصطلح النازلة على معناها اللغوي المتقدم، فقيل هي: الحادثة التي تحتاج لحكم شرعي (^٦)، أو الوقائع الجديدة التي لم يَسبق فيها نص أو اجتهاد (^٧).
وقيل هي: الواقعة والحادثة التي تنزل بالشخص سواء في مجال العبادات أو المعاملات أو السلوك والأخلاق؛ حيث يلجأ هذا الشخص إلى من يفتيه بحكم الشرع في نازلته (^٨).
وقيل: هي الأمور والقضايا الجديدة التي تحصل مع تطور الأوقات واختلاف الأزمان والأماكن (^٩).
ولابد في النازلة من أمورًا ثلاثة، هي: وقوعها وعدم افتراضها، وجِدَّتها وعدم تكررها، وشدة إلحاحها في طلب حكم شرعي لها؛ وبناء على ذلك فتعريفها يكون: هي ما استدعى حكمًا شرعيًّا من الوقائع المستجدة (^١٠).
_________
(^١) ينظر: مقاييس اللغة، ابن فارس، (٥/ ٤١٧).
(^٢) ينظر: المحكم والمحيط الأعظم، ابن سيده، (٩/ ٤٧).
(^٣) ينظر: تهذيب اللغة، الأزهري، (١/ ١٥٧).
(^٤) ينظر: لسان العرب، ابن منظور (١١/ ٦٥٩)، والمصباح المنير، الفيومي، (٢/ ٦٠٠).
(^٥) القائل هو إبراهيم بن العباس الصولي كما ذكر ذلك التنوخي في كتاب الفرج بعد الشدة، (٥/ ١٥).
(^٦) ينظر: معجم لغة الفقهاء، قلعه جي وقنيبي، ص (٤٧١).
(^٧) ينظر: منهج استنباط أحكام النوازل الفقهية المعاصرة، مسفر القحطاني، ص (٨٩).
(^٨) ينظر: فقه النوازل وقيمته التشريعية والفكرية، حسن الفيلالي، ص (٢٣٠).
(^٩) ينظر: الفقه العقدي للنوازل، عبدالرحيم صمايل السلمي، ص (٣).
(^١٠) ينظر: فقه النوازل دراسة تأصيلية تطبيقية، محمد بن حسين الجيزاني، (١/ ٢٢ - ٢٤).
1 / 8
ولكن مفهوم النوازل في القضايا والمسائل المعاصرة نادرًا ما ينطبق انطباقًا تامًا على وصف النازلة بالجدة المحضة، أي مما لم يسبق وقوعه؛ فالغالب فيما يذكره العلماء في المسائل المعاصرة من نوازل قد يطلق عليها الجدة النسبية، أي تكون مما سبق وقوعه ولكنها متجددة، فبعضها سبق وقوعه ولكنها تطورت أو تغير الواقع المحيط بها أو تغيرت أسبابها أو واحتاج لها الناس من باب الضرورة أو المصلحة؛ فأصبحت بحاجة ماسة لبحثها مرة أخرى.
وعلى ذلك يمكن أن يطلق على أي مسألة عقدية نازلة إذا تحقق فيها سبب من الأسباب التالية:
الأول: تباين أصل المسألة العقدية من بعض الوجوه؛ كتغير أسبابها، وتطورها، وتغير الواقع المحيط بها.
الثاني: وقوع التجدد في أحوال بعض المسائل العقدية، حتى أصبحت كنازلة جديدة.
الثالث: بعض المسائل العقدية الجديدة قد تكون نوازل في عرف بعض العلماء؛ حسب نظرتهم الخاصة للمسألة.
الرابع: عند وجود الحاجة الملحة في تطلب حل شاف لموضوع المسألة العقدية أو مضمونها.
تعريف العقيدة:
في اللغة: مأخوذة من العقد: وهو الربط والشد بقوة، أو العهد، أو الملازمة، أو التأكيد (^١)، وعقد قلبه على شيء: لم ينزع عنه (^٢)، واعتقدت كذا: أي عقدت عليه القلب والضمير، حتى قيل: العقيدة ما يدين الإنسان به (^٣).
واصطلاحًا: هي الإيمان الجازم بالله، وما يجب له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وبكل ما جاءت به النصوص الصحيحة من أصول الدين وأمور الغيب وأخباره، وما أجمع عليه السلف الصالح، والتسليم لله تعالى في الحكم والأمر والقدر والشرع، ولرسوله ﷺ بالطاعة والاتباع (^٤).
_________
(^١) ينظر: تهذيب اللغة، ابن فارس، (١/ ١٣٤)، والقاموس المحيط، الفيروز آبادي، ص (٣٠٠)، ولسان العرب، (٣/ ٢٩٦).
(^٢) ينظر: العين، الفراهيدي، (١/ ١٤٠).
(^٣) ينظر: المصباح المنير، (٢/ ٤٢١).
(^٤) ينظر: مباحث في عقيدة أهل السنة والجماعة، ناصر العقل، ص (٨).
1 / 9
تعريف الأوبئة:
في اللغة: مصدر وبؤ ووبئ ووبئ، وأرض وبئة أي: كثيرة الوباء، واستوبأ الأرض: استوخمها ووبأ إليه (^١).
واصطلاحًا: هو سرعة الموت وكثرته في الناس (^٢).
وقيل: كل مرض شديد العدوى، سريع الانتشار من مكان إلى مكان، يصيب الإنسان والحيوان والنبات (^٣).
والوباء في التعريف الطبي: هو مرض غير مألوف، سريع الانتشار، يصيب جماعة من الناس في منطقة معينة أو مناطق جغرافية معينة في وقت محدد (^٤).
وبحسب المختصين بعلم الأوبئة لا يطلق على المرض وباءً إلا إذا اجتمعت فيه عدة أمور، هي كالتالي:
١ - أن يكون سريع الانتشار.
٢ - أن يصيب جماعة من الناس.
٣ - أن يكون في منطقة أو مناطق معينة.
٤ - أن يكون في وقت محدد.
٥ - أن يكون غير مألوف.
٦ - أن يفضي إلى الموت في الغالب (^٥).
تعريف كورونا:
هي مجموعة من الفيروسات التي يمكنها أن تسبب أمراضًا مثل الزكام والالتهاب التنفسي الحاد الوخيم سارس (SARS)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية ميرس (MERS)، وقد تم اكتشاف نوع جديد من فيروسات كورونا بعد أن تم التعرف عليه كمسبب لانتشار أحد
_________
(^١) ينظر: المحكم والمحيط الأعظم، (١٠/ ٥٦٦).
(^٢) ينظر: تاج العروس، (١/ ٤٧٨).
(^٣) ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، (٣/ ٢٣٩٢).
(^٤) ينظر: معجم المصطلحات الطبية، (٢/ ١٤٥).
(^٥) ينظر: معجم الوبائيات، جون. م. لاست، ص (٨٧).
1 / 10
الأمراض التي بدأت في مديمة ووهان (WHAN) (^١) بالصين في عام ٢٠١٩ م، ويُعرف الفيروس الآن باسم: فيروس المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة كورونا ٢، ويسمى المرض الناتج عنه مرض فيروس كورونا (كوفيد ١٩) (^٢).
وتشمل العلامات التي تشير إلى مرض كورونا ما يلي: ضيق النفس، انعدام الشهية، التخليط أو التشوش، الألم المستمر أو الشعور بالضغط على الصدر، ارتفاع درجة الحرارة بأكثر من ٣٨ درجة مئوية (^٣).
_________
(^١) ووهان هي عاصمة مقاطعة هوبي وتقع في شرق الصين الأوسط على نهر يانغتزيه، يبلغ عدد سكانها أكثر من: (أحد عشر مليون نسمة)، وتعتبر سابع أكثر المدن الصينية اكتظاظًا بالسكان. ينظر: موقع ويكند https:// www.wikiwand.com/ ar
(^٢) ينظر: مايو كلينك https:// www.mayoclinic.org/ ar/ diseases-conditions/ coronavirus/ symptoms-causes/ syc-٢٠٤٧٩٩٦٣
(^٣) ينظر: موقع الصحة العالمية https:// www.who.int/ ar/ emergencies/ diseases/ novel-coronavirus-٢٠١٩/ question-and-answers-hub/ q-a-detail/ coronavirus-disease-covid-١
1 / 11
ثانيًا: الفرق بين وباء كورونا والطاعون:
اختلف العلماء قديمًا في مسألة التفرقة بين الوباء والطاعون على قولين، وهذه التفرقة تشمل الأوبئة بشكل عام وينطبق عليها وباء كورونا؛ لأنه مصنف من جملة الأوبئة.
وأقوال العلماء حول الفرق بين الطاعون والوباء كالتالي:
القول الأول: أن الطاعون هو الوباء: وهذا القول هو الذي عليه بعض العلماء من أهل اللغة والأطباء العرب المتقدمين.
قال الخليل ﵀: الوباء: الطاعون، وقيل: هو كل مرض عام (^١).
وقال ابن سيده ﵀: الوباء الطاعون، وقيل: هو كل مرض عام (^٢).
وقال ابن الأثير ﵀: المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة والأبدان (^٣).
وقال ابن منظور ﵀: الوبأ: الطاعون بالقصر والمد والهمز. وقيل هو كل مرض عام (^٤).
وقال الفيومي ﵀: والطاعون الموت من الوباء والجمع الطواعين وطعن الإنسان بالبناء للمفعول أصابه الطاعون فهو مطعون (^٥).
وقال ابن حجر ﵀: قال جماعة من الأطباء منهم أبو علي بن سيناء: الطاعون مادة سمية تحدث ورمًا قتالًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة. قال: وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه، ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فيحدث القيء والغثيان والغشي والخفقان وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس (^٦).
_________
(^١) العين، (٨/ ٤١٨).
(^٢) المحكم والمحيط الأعظم، (١٠/ ٥٦٦).
(^٣) النهاية في غريب الحديث والأثر، (٣/ ١٢٧).
(^٤) لسان العرب، (١/ ١٨٩).
(^٥) المصباح المنير، (٢/ ٣٧٣).
(^٦) فتح الباري، (١٠/ ١٨٠)، وهو ما ذكره ابن سينا في كتابه القانون، (٣/ ١٦٤ - ١٦٥).
1 / 12
كما قال بهذا القول بعض علماء المالكية والحنفية، يقول القاضي الباجي ﵀: الوباء هو الطاعون هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات دون غيرها بخلاف المعتاد من أحوال الناس وأمراضهم، ويكون مرضهم غالبًا مرضًا واحدًا بخلاف سائر الأوقات فإن أمراض الناس مختلفة (^١).
وقال ابن جزي ﵀: الطاعون وهو الوباء، وإذا وقع بأرض فلا يخرج منها من كان فيها فرارا منه، ولا يقدم عليها (^٢).
وقال ابن عابدين ﵀: الوباء اسم لكل مرض عام فكل طاعون في ذلك وباء (^٣).
القول الثاني: أن الطاعون غير الوباء: وهذا القول الذي عليه بعض علماء الشريعة المحققين من أهل الحديث والفقه.
قال القاضي عياض ﵀: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء: عموم الأمراض، فسميت طاعونًا؛ لشبهها بالهلاك بذلك، وإلا فكل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا (^٤).
وقال النووي ﵀: والصحيح الذي قاله المحققون أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفًا للمعتاد من أمراض في الكثرة وغيرها، ويكون مرضهم نوعًا واحدًا بخلاف سائر الأوقات فإن أمراضهم فيها مختلفة، قالوا: وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعونًا (^٥).
وقال ابن القيم ﵀: والتحقيق أن بين الوباء والطاعون عمومًا وخصوصًا، فكل طاعون وباء، وليس كل وباءً طاعونًا، وكذلك الأمراض العامة أعم من الطاعون، فإنه واحد منها، والطواعين خراجات وقروح وأورام رديئة حادثة في المواضع (^٦).
_________
(^١) المنتقى شرح الموطأ، (٧/ ١٩٨).
(^٢) القوانين الفقهية، ص (٢٩٥).
(^٣) رد المحتار على الدر المختار، (٢/ ١٨١).
(^٤) إكمال المعلم بفوائد مسلم، (٧/ ١٣٢).
(^٥) المنهاج شرح صحيح مسلم، (١٤/ ٢٠٤).
(^٦) الطب النبوي، ص (٣٢).
1 / 13
وقال ابن حجر ﵀: أما الوباء فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده، قلت: فهذا ما بلغنا هذا ما بلغنا من كلام أهل اللغة وأهل الفقه والأطباء في تعريفه، والحاصل أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم، أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده، وإن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونًا بطريق المجاز؛ لاشتراكهما في عموم المرض، أو كثرة الموت (^١).
وقال السيوطي ﵀: الوباء غير الطاعون ..، والطاعون اختص بكونه شهادة ورحمة ودعوة النبي ﷺ بخلاف الوباء (^٢).
وقال الهيتمي ﵀: وبه يعلم أن الطاعون أخص من الوباء مطلقًا، فكل طاعون وباء، ولا عكس، .. واستدل بعضهم بأنه صح أن المدينة لا يدخلها الطاعون، وصح عن عائشة ﵂ عنها أن المدينة أوبى أرض الله، وعن بلال ﵁ أن المدينة أرض الوباء؛ فيلزم أن الطاعون غير الوباء (^٣).
والذي يترجح في هذه المسألة والله أعلم هو القول الثاني، أي: قول علماء الشريعة من أهل الحديث والفقه الذين قالوا بالتفريق بين الطاعون والوباء، وأن كل طاعون وباء، وليس كل وباء طاعونًا، وأن الوباء يشمل الطاعون وغيره من الأمراض، وبينهما عموم وخصوص.
ومن الأدلة التي تؤيد هذا القول ما يلي:
أولًا: الطاعون لا يدخل المدينة: فثبت في الأحاديث أن الطاعون لا يدخل المدينة، بينما الوباء يدخل المدينة، وقد ورد أنه دخل المدينة في عهد النبي ﷺ، كما في الأحاديث التالية:
فعن أبي عسيب ﵁ مولى رسول الله ﷺ، قال: قال رسول الله ﷺ: «أتاني جبريل بالحمى، والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي، ورحمة، ورجس على الكافر» (^٤).
_________
(^١) فتح الباري، (١٠/ ١٨٠ - ١٨١).
(^٢) ما رواه الواعون في أخبار الطاعون، ص (١٦٨).
(^٣) الفتاوى الفقهية الكبرى، (٤/ ٢١).
(^٤) رواه أحمد في مسنده، ح (٢٠٧٦٧)، (٣٤/ ٣٦٦)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، ح (٤٦٦)، (١/ ٣٤٢)، والدولابي في الكنى والأسماء، ح (٢٦٨)، (١/ ١٣١)، والطبراني في الكبير، ح (٩٧٤)، (٢٢/ ٣٩١)، وقال الألباني في صحيح الجامع، (١/ ٧٣): صحيح، وقال الأرناؤوط في حاشية المسند، (٣٤/ ٣٦٦): إسناده صحيح.
1 / 14
وعن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «لا يدخل المدينة الطاعون ولا الدجال» (^١).
وفي رواية: «المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منها ملك لا يدخلها الدجال، ولا الطاعون» (^٢).
وورد حديث عن أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ دخول الطاعون لم يكن بالجزم بل بتعليق بالمشيئة: «المدينة يأتيها الدجال، فيجد الملائكة يحرسونها، فلا يقربها الدجال» قال: «ولا الطاعون إن شاء الله» (^٣).
واختُلِف في استثناء «إن شاء الله تعالى»، فقيل: هو للتبرك فيشملهما، وقيل: هو للتعليق، وأنه يختص بالطاعون، وأن مقتضاه جواز دخول الطاعون المدينة (^٤).
وقيل: عدم دخول الدجال في المدينة متيقنٌ، أما الطاعون فلم يدخل بعدُ فيها، وهو المرجو فيما يأتي (^٥).
وقد ذكر جمعٌ من العلماء أن الطاعون العام دخل مكة، أما المدينة فلم يُذكر أنه دخلها، وهذا من معجزاته؛ لأن الأطباء عجزوا عن دفع الطاعون عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة في العصور المتطاولة (^٦).
بينما الوباء ورد أنه قد دخل المدينة في عهد النبي ﷺ، فعن عائشة ﵂، قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة، وعك أبو بكر، وبلال ...، فكان بلال بقول: اللهم العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء، ثم قال رسول ﷺ: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة» (^٧).
_________
(^١) رواه البخاري، ح (١٨٨٠)، (٣/ ٢٢)، ومسلم، ح (١٣٧٩)، (٢/ ١٠٠٥).
(^٢) رواه أحمد في المسند، ح (١٠٢٦٥)، (١٦/ ١٨٤)، وقال الهيثمي في المجمع، (٣/ ٣٠٩): رواه أحمد، ورجاله ثقات، وقال السيوطي في ما رواه الواعون في أخبار الطاعون، ص (١٦٠): إسناده جيد.
(^٣) رواه البخاري، في كتاب الفتن، باب: لا يدخل الدجال المدينة، ح (٧١٣٤)، (٩/ ٦١).
(^٤) ينظر: فتح الباري، (١٠/ ١٨١، ١٩١).
(^٥) ينظر: فيض الباري على صحيح البخاري، الكشميري، (٦/ ٥٧).
(^٦) ينظر: فيض القدير المناوي، (٤/ ٣٢١).
(^٧) رواه البخاري، في كتاب فضائل المدينة، باب كراهية النبي ﷺ أن تعرى المدينة، ح (١٨٨٩)، (٣/ ٢٣).
1 / 15
وفي رواية قالت ﵂: قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله ﷺ شكوى أصحابه، قال: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة» (^١).
وعن عبد الله بن عمرو ﵄ أنه قال: لما قدمنا المدينة، نالنا وباء من وعكها شديد. فخرج رسول الله ﷺ على الناس، وهم يصلون في سبحتهم قعودا. فقال رسول الله ﷺ: «صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم» (^٢)، وفي رواية: فشا الوجع على عهد رسول الله ﷺ، فكثر من يصلي وهو قاعد، فقال رسول الله ﷺ: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم» (^٣).
وعن أنس بن مالك ﵁ قال: قدم النبي ﷺ المدينة وهي محمة (^٤)، فحم الناس، فدخل النبي ﷺ المسجد، والناس قعود يصلون. فقال النبي ﷺ: «صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قيامًا» (^٥).
وفي زمننا هذا انتشر وباء كورونا في أكثر دول العالم، ودخل هذا الوباء المدينة كغيرها من المدن، وتم رصد إصابات ووفيات كثيرة في المدينة بعد إصابتهم بهذا الوباء، بينما ذكر بعض العلماء كما تقدم سابقًا أن الطاعون لم يدخل المدينة.
ثانيًا: أن الطاعون من وخز الجن: وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح عن أبي موسى ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «فناء أمتي بالطعن (^٦) والطاعون». فقيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «وخز (^٧) أعدائكم من الجن وفي كل شهداء» (^٨).
_________
(^١) رواه مسلم، في كتاب الحج، باب الترغيب في سكن المدينة والصبر على لأوائها، ح (١٣٧٦)، (٢/ ١٠٠٢).
(^٢) رواه مالك في الموطأ، ح (٤٥١)، (٢/ ١٨٨).
(^٣) رواه الطبراني في الكبير، ح (١٤٢٦١)، (١٢/ ٤٢٠).
(^٤) محمة: أي ذات حمى، يقال: أحمت الأرض: أي صارت ذات حمى. ينظر: النهاية في غريب الحديث، (١/ ٤٤٦).
(^٥) رواه أحمد في مسنده، ح (١٢٣٩٥)، (١٩/ ٣٨٧)، والبزار في مسنده، ح (٦٣٥٣)، (١٣/ ٤٠)، وأبو يعلى في مسنده، ح (٣٥٨٣)، (٦/ ٢٧٥)، وقال الأرناؤوط في حاشية المسند، (١٩/ ٣٨٧): حديث صحيح.
(^٦) الطعن: هو النخس في الشيء بما ينفذه، من ذلك الطعن بالرمح. ينظر: مقاييس اللغة، (٣/ ٤١٣).
(^٧) الوخز: طعن ليس بنافذ. ينظر: النهاية في غريب الحديث، (٥/ ١٦٣).
(^٨) رواه أحمد في المسند، ح (١٩٥٢٨)، (٣٢/ ٢٩٣)، والبزار في مسنده، ح (٢٩٨٦)، (٨/ ١٦)، وأبو يعلى في مسنده، ح (٧٢٢٦)، (١٣/ ١٩٤)، والطبراني في الأوسط، ح (٣٤٢٢)، (٣/ ٣٦٧)، والحاكم في المستدرك، ح (١٥٨)، (١/ ١١٤)، وقال الحاكم حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة، (٤/ ٥٦١).
1 / 16
وعن عائشة ﵂ قالت: «ذُكر الطاعون فذكرت أن النبي ﷺ قال: وخزة تصيب أمتي من أعدائهم من الجن: غدة كغدة الإبل. من أقام عليه كان مرابطًا، ومن أصيب به كان شهيدًا، ومن فر منه كالفار من الزحف» (^١).
قال ابن حجر ﵀: ووصف طعن الجن بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولًا، ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولًا، ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ (^٢).
وقال الزبيدي ﵀: والذي عليه المحققون من الفقهاء والمحدثين أنهما متباينان، فالوباء: وخم يغير الهواء فتكثر بسببه الأمراض في الناس، والطاعون هو الضرب الذي يصيب الإنحس من الجن، وأيدوه بما في الحديث أنه وخز أعدائكم من الجن (^٣).
وقد حاول بعض الباحثين تفسير الوخز تفسيرًا طبيًا وذكر بأن المقصود به طعن البراغيث وليس طعن الجن.
فقال: الطعن غير نافد هو طعن البراغيث (^٤) المستترة، ووخزها المقصودة بلفظ الجن: والواقع أن هذه البراغيث التي تطعن في جلد الإنسان أو الحيوان بفكيها الحادين تطعن طعنًا نافذًا، ويسيل دم قليل لا يلاحظه المرء، ويتغذى عليه البرغوث، وفي أثناء ذلك يقيء ما في معدته المسدودة بميكروبات الطاعون التي تنساب من فيه إلى مكان الوخزة، ثم تنتقل عبر الأوعية اللمفاوية إلى الغدد اللمفاوية في المراق أو الإبط أو العنق حسب مكان الوخزة ..، ولا شك أن هذه البراغيث التي تسبب الطاعون، وهي مما لا يلاحظه الإنسان بل تستتر عنه وتختفي بين الملابس ولا يكاد يراها إلا بعد مشقة البحث عنها، ويمكن أن نطلق عليها لفظ الجن؛ لأن الجن كل مختفي ومستتر، والخلاصة أن لفظ الجن الوارد في الطاعون والمعبر عنه بلفظ وخز الجن، ينبغي أن ينصرف إلى هذه المخلوقات الصغيرة المختفية التي لا تكاد ترى إلا بالبحث عنها، وهي البراغيث. فهي التي تخز، وهي التي تسبب الطاعون وتنقله ... ولا علاقة
_________
(^١) رواه أبو يعلى في مسنده، ح (٤٦٦٤)، (٨/ ١٢٥)، وقال الألباني في صحيح الجامع، (٢/ ٧٣١): حسن.
(^٢) فتح الباري، (١٠/ ١٨٢).
(^٣) تاج العروس، (١/ ٤٧٨).
(^٤) البرغوث: نوع من الحشرات، من صغار الهوام من فصيلة البرغوثيات، عضوض شديد الوثب، يمتص دم الإنسان والحيوان وينقل إليه الأمراض الخبيثة. ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، (١/ ١٩١).
1 / 17
للجن، - المخلوقات النارية - بموضوع الطاعون مطلقًا، وهو الذي ينبغي أن يصار إليه، وإلا فإن العلم يناقض القول بأن سبب الطاعون مخلوقات نارية تسمى الجن؛ فالعلم والطب واللغة كلها تؤيد ما ذهبنا أن لفظ الجن في أحاديث الطاعون المرتبط بالوخز يشير إلى إليه، وهو البراغيث المختفية المتوارية والتي تخز الجلد وخزًا، وتنقل ميكروبات الطاعون في إفرازاتها ورجيعها (^١).
وقد رد العلماء قديمًا وحديثًا على مثل هذه الدعاوي وفندوها، فقد قال العيني ﵀: فإن قلت إن لشارع أخبر بأن الطاعون من وخز الجن فبينه وبين ما ذكر من الأقوال في تفسير الطاعون منافاة ظاهرًا، قلت: الحق ما قاله الشارع، والأطباء تكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وطعن الجن أمر لا يدرك بالعقل فلم يذكروه على أنه يحتمل أن تحدث هذه الأشياء فيمن يطعن عند وخز الجن، ومما يؤيد أن الطاعون من وخز الجن وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولو كان من فساد الهواء لعم الناس الذين يقع فيهم الطاعون ولطعنت الحيوانات أيضًا (^٢).
وقال ابن القيم ﵀: والرسل تخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفًا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء، وفساد الهواء، كما يجعل لها تصرفًا عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم، والمرة السوداء، وعند هيجان المني، فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر، والدعاء، والابتهال والتضرع، والصدقة، وقراءة القرآن، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة، ويبطل شرها ويدفع تأثيرها (^٣).
_________
(^١) ينظر: مقدمة د. محمد علي البار لكتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للسيوطي، ص (٤٦ - ٤٧).
(^٢) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، (٢١/ ٢٥٧).
(^٣) الطب النبوي، ص (٣٢).
1 / 18
وقال ابن حجر ﵀: كونه من طعن الجن ولا يخالف ذلك ما قال الأطباء من كون الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل وإنما يعرف من الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم (^١).
ثالثًا: من أوجه الاختلاف بين الطاعون والوباء ما ذكره أهل العلم والطب الحديث بأن هناك فرق بين منشأ الطاعون وتكوينه وبين منشأ الأوبئة وتكوينها ومنها وباء كورونا؛ فالطاعون منشؤه هو البكتيريا (^٢)، بينما الأوبئة قد يكون منشؤها البكتيريا أو الفيروسات (^٣).
وقد عرف أهل الطب الحديث الطاعون بأنه مرض يصيب البشر والثدييات وتسببه بكتيريا تسمى يرسينيا بيستيس، وعادة ما يصاب البشر بالطاعون بعد أن يلدغهم برغوث قارض يحمل بكتيريا الطاعون، أو عن طريق التعامل مع حيوان مصاب بالطاعون (^٤).
وقد يصاب بعض الأفراد بالطاعون الرئوي عن طريق استنشاق الهواء الملوث بميكروب الطاعون (^٥).
أما وباء كورونا فهو عبارة فيروس من فصيلة فيروسات كورونا الجديد؛ حيث ظهرت أغلب حالات الإصابة به في مدينة ووهان (WHAN) الصينية نهاية ديسمبر (٢٠١٩ م) على صورة التهاب رئوي حاد، ويُعتقد أن فيروس كورونا الجديد مرتبط بالحيوان؛ حيث إن أغلب الحالات الأولية كان لها ارتباط بسوق للبحريات والحيوانات في مدينة ووهان (WHAN)،
_________
(^١) فتح الباري، (١٠/ ١٨١).
(^٢) البكتيريا: كائنات مجهرية ذات خلية واحدة، شكلها مستطيل كالعصية أو مكور أو لولبي، تعيش في جميع أجواء البيئة من ماء وتربة وهواء ومواد عضوية حية وغير حية، وتتكاثر بالانقسام إلى شطرين: جرثومة، وميكروب. بعضها مفيد، والبعض الآخر ضار. ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، (١/ ٢٣٤).
(^٣) الفيروس: عبارة عن جزيئات معدية وليست خلايا، وتتألف من مواد وراثية محاطة بغشاء واق من البروتينات ولا تمتلك أجهزة خلوية؛ لتوليد الطاقة وإنتاج البروتينات أو للتكاثر، وهي ليست كائنات حية، ولا يمكن القضاء عليها بواسطة المضادات الحيوية. ينظر: موقع دي دبليو الطبي https:// www.dw.com/ ar
(^٤) ينظر: موقع سي دي سي الطبي https:// www.cdc.gov/ plague
(^٥) ينظر: مقدمة د. محمد علي البار لكتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للسيوطي، ص (٣٢ - ٣٥).
1 / 19
وينتقل الفيروس بين البشر من الشخص المصاب بالعدوى إلى شخص آخر عن طريق المخالطة القريبة دون حماية (^١).
وبذلك يتضح فيما مضى من أن هناك فرق بين الطاعون والوباء ودليل ذلك من جهة دخوله المدينة ومن جهة سببه ومن جهة الفرق بين منشأه وتكوينه.
_________
(^١) ينظر: موقع وزارة الصحة السعودي https:// www.moh.gov.sa/ HealthAwareness/ EducationalContent/ PublicHealth/ Pages/ corona.aspx
1 / 20
النازلة الأولى: المخالفات العقدية في القبور والأماكن؛ للتداوي من وباء كورونا
من المعتقدات الشركية والمخالفات العقدية التي حدثت مع حلول وباء كورونا: هو الاعتقاد أن زيارة قبور الأولياء والصالحين تمنع الإصابة بالوباء، وأن التمسح بالمراقد والمزارات سبب الشفاء من الأمراض والأوبئة، وأنها تدفع البلاء.
فمع وباء كورونا بادر بعض المخالفين إلى اقحام هذا الوباء ضمن الإنشاد الديني عندهم، ففي محافظة سوهاج بمصر ارتجل أحدهم خلال تواجده بمولد الصحابي عمار بن ياسر ﵁، وكان من ضمن ما قاله عن فضل آل البيت: هم شفاء ..، هم الأطباء من أي كورونا ..، أتينا رحابك يا شيخ الرجال في ساحة جرجا شدينا الرحال.
وختم برسالة إلى أتباعه ومريدية، فقال: يا مريد لا تخاف من أي كورونا (^١).
وفي العراق أصدر أحد مراجع الشيعة وهو قاسم الطائي فتوى دعا فيها إلى الاستمرار بزيارة الأماكن الدينية وإقامة صلوات الجماعة والجمعة، وفي رد على استفسار أرسل إليه من قبل أحد اتباعه بشأن غلق بعض المراقد؛ تحسبا من انتشار فايروس كورونا. فقال: إن الفيروس لا يصيب المؤمنين (^٢).
كما أبدى رجل الدين الشيعي علي الكوراني غضبه من إغلاق السلطات حرم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ﵁ من أجل تعقيمه كإجراء احترازي؛ للوقاية من فيروس كورونا.
وجاء ذلك في تسجيل مصور له تداولته وسائل التواصل الاجتماعي، وقال الكوراني غاضبًا: من الأمور التي لا ينقضي تعجبي منها أن حرم أمير المؤمنين ﵁ قد أغلقوا قسمًا منه حتى يعقمونه من ميكروب كورونا، وأضاف: الذي مصاب بكورونا يأتي يتمسح بالحرم وسيطيب (^٣).
_________
(^١) ينظر: بوابة الوفد https:// rosaelyoussef.com utm_campaign=nabdapp.com&utm_medium=referral&utm_source=nabdapp.com&ocid=Nabd_App
(^٢) ينظر: موقع قناة الحرة الإخباري https:// www.alhurra.com/ iraq/
(^٣) ينظر: موقع أورينت نيوز الإخباري https:// orient-news.net/ ar/ news_show
1 / 21