Jarmalka Naasiga
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Noocyada
وفي الواقع كان الأفراد، وحدهم في أول الأمر هم الذين أخذوا على عاتقهم نشر الدعاوة المضادة وترويجها، ووجد الفرد في اعتماده على نفسه فحسب فيما يريد فعله أو إذاعته وسيلة تخلصه من الوقوع في قبضة الجستابو. فظهر من ثم إلى عالم الوجود في أوروبا المحتلة فريق من الأفراد «أو الأشخاص» الذين ظل سرهم مكتوما إلى يومنا هذا، وكان بعض هؤلاء أصحاب جرأة عظيمة؛ إذ قاموا بعمليات التخريب والتدمير في الحقول والمصانع ومحطات السكك الحديدية وأحواض السفن وما إليها. ثم ظهر إلى جانبهم فريق من نوع آخر اكتفى أفراده بنقل الأنباء التي منعت الرقابة ذيوعها ونشرها بين مواطنيهم، حتى إذا وجد الناقل أو المتحدث مستمعا له، جمعت بين الاثنين روابط الكراهية للحكم النازي، ثم لم يلبث أن ينضم إليهم ثالث، ثم رابع، وهكذا حتى تكبر جماعتهم ويتعاون جميعهم في نقل الأخبار بعد أن يسلكوا كل الطرق في سبيل الحصول عليها. ومن أهم تلك الطرق الاستماع إلى الإذاعات الأجنبية «المحرمة» وعلى وجه الخصوص الإذاعة البريطانية المشهورة
B. B. C.
وهم في الأقبية ووراء جدران البيوت المغلقة، وكلهم عيون وآذان حتى لا تأخذهم الغفلة فيفتضح أمرهم ويكون نصيبهم الموت.
ومع أنه قد يسهل على المرء أن يعترف بأن الجماعة المخربة المدمرة كانت أكثر الجماعات جرأة وشجاعة، فإن ناشري الأخبار المسيئة إلى سمعة النازيين، ومروجي الدعاوة المضادة كانوا أيضا أصحاب جرأة وشجاعة فما كان في مقدورهم أن يفلتوا من أقسى العقوبات النازية إذا قدر لهم الوقوع في قبضة سلطات الاحتلال الألمانية.
ولم يكتف هذا الفريق من أنصار الدعاية الخفية بأن يظل نشاطهم مقصورا على نقل الأحاديث أو الاستماع إلى الإذاعة المحرمة، بل إنهم سرعان ما صاروا يجدون طرقا منوعة للهزء بالألمان والسخر بهم وإظهار أباطيلهم في كل فرصة مناسبة، وكانت فرنسا في طليعة الأمم التي أتقن أبناؤها هذا النوع من أساليب الدعاية الخفية، وعلى الخصوص في شهور الاحتلال الأولى، فمن ذلك أنه كثيرا ما كان يحدث أن يجد الألمان في باريس مكتوبا على إعلانات السيارات: «زوروا إيطاليا!» أو «تطوعوا في الجيش اليوناني!» وكثيرا ما كانوا يعثرون في مدن أخرى على عبارات مخطوطة على جدران المنازل وغيرها: «أيها اليونانيون قفوا هنا؛ لأن هذه فرنسا!» وحدث عقب معركة بريطانيا أن قرأ الباريسيون - ومعهم بطبيعة الحال رجال الجستابو وسلطات الاحتلال - عبارات بالطباشير على الجدران تنادي بحياة فرنسا وحياة إنجلترا، وحياة تشرشل والروسيا، كما وجد الألمان أن كثيرا من أعلام الصليب المعقوف قد أنزلت، ورفعت بدلا منها أعلام الجمهورية الفرنسية، ولم يستطع الألمان مكافحة هذه «الحملة الطباشيرية»، بل زاد أصحابها جرأة، ثم صاروا يصوغون عبارات جديدة مثل «يحيا ديجول، ويسقط الألمان!» ووجد أنصار الدعاية الخفية ميدانا واسعا لنشاطهم في داخل المصانع المشتغلة لحساب النازيين في فرنسا، فوزعت المنشورات العدة بين الصناع، وعنيت هذه المنشورات على وجه الخصوص بإذاعة أنباء هزيمة الألمان في معركة بريطانيا. وحدث ذات صباح أن قرأ الباريسيون بين مجموعة الإعلانات التي أجازها الألمان إعلانا طريفا فات ذكاء النازيين إدراك معنى ما به من عبارات التهكم اللازع؛ لأنه كان يحمل عنوانا جذابا: «إني أتهم إنجلترا!» أما بقية الإعلان فكان كالآتي:
إني أتهم إنجلترا؛ لأن إنجلترا هي التي غزت فرنسا في عام 1940؛ ولأن إنجلترا هي التي أخرجت إلى عالم الوجود فكرة ألمانيا العظمى أو الكبرى؛ ولأن إنجلترا هي التي ضمت إليها النمسا؛ ولأن إنجلترا هي التي اغتالت مانجان، وماجينو ، وبارتو، والملك إسكندر الأول «ملك يوغسلافيا»؛ ولأن إنجلترا هي التي قامت بتسليح نفسها تسليحا خطيرا وعبأت جيشها كله، بما في ذلك الرقيق؛ ولأن إنجلترا هي التي غزت النمسا وتشيكوسلوفاكيا، وهولندة، وبولندة وبلجيكا والنرويج؛ ولأن إنجلترا ... أوه ياللعجب من هؤلاء الإنجليز!
ولم يفطن النازيون إلى حقيقة ما يحمله هذا الإعلان من دعاوة مضادة إلا بعد أن شاهدوا الباريسيين يستغرقون في الضحك بعد قراءته، فأزالوه بعد مضي أربع وعشرين ساعة.
وفي بقية أوروبا النازية لم يقل أنصار هذا النوع من الدعاوة المضادة عن زملائهم في فرنسا؛ فالحملة «الطباشيرية» كانت تجد ميدانا فسيحا في كل بلد مقهور. ومن الحكايات المشهورة الواقعية ما حدث في بروكسل عاصمة بلجيكا، ذلك بأن الألمان علقوا ذات مرة في شوارع هذه المدينة إعلانا يحمل رسم «ونستون تشرشل» واقفا يطل على أسرة من أم وأولاد صغار أضناهم الجوع ولا يجدون على مائدتهم سوى صحاف فارغة، ثم كتبوا تحت هذه الصورة: «أيها الوحش! إنك تسقينا من العذاب كئوسا مرة؟» وكان الغرض من لصق هذا الإعلان إظهار أن بريطانيا وحدها هي المسئولة بسبب الحصار البحري الذي ضربته على أوروبا النازية، عن انتشار المجاعة في بلجيكا. ولكن حدث أن انتهز الأهالي فرصة الظلام الدامس فأجروا تغييرا في الصورة، حتى بدت رأس المستر تشرشل في الصباح التالي، وقد أعطيت «قصة» عجيبة كما نبت له شارب صغير، فظهر «أدولف هتلر» بدلا من المستر تشرشل يطل على هؤلاء الأطفال الجياع، وانطبق عليه القول: «أيها الوحش! إنك تسقينا من العذاب كئوسا مرة!»
ومن أمثلة هذه الدعاوة المضادة، ما كان يحدث في الدانمرك على نحو ما سبقت الإشارة إليه؛ فقد وجد أهلها أن خير وسيلة لبعث الثقة في النفوس وإشعال جذوة الوطنية إحياء الأناشيد والأغاني القومية الشعبية، وخصوصا في جوتلند الجنوبية «أو شلزويج»، حيث يعتز القوم هناك بهذه الأغاني القديمة ويجدون في ترديدها عزاء وسلوى؛ ولذلك صار مئات منهم يجتمعون للإنشاد في الهواء الطلق، وذاع خبر هذه الأناشيد القومية في أنحاء الدانمرك وسرت العدوى إلى كل مدينة وقرية، وخرج الأهلون في كل مكان لترديدها. وهكذا حدث في سبتمبر من عام 1940 أن قامت أكبر مظاهرة «غنائية» في كوبنهاجن، عندما اجتمع حوالي 150000 دانمركي في ساحة
Faelled Park
Bog aan la aqoon