Jarmalka Naasiga
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Noocyada
Tito » يقود القوات «الوطنية» وسمي جيشه بجيش التحرير، واستطاع أن يقض مضاجع الألمان، حتى تمكن جيشه - إلى جانب القوات الوطنية الأخرى - أن يشغل ما لا يقل عن أربع عشرة فرقة ألمانية، واضطر الألمان إلى جلب إمدادات من اليونان وألبانيا لا تقل عن خمس فرق. وفي بداية عام 1944 كان القتال لا يزال محتدما في جميع ساحات الجبهة في شرقي البوسنة وفي كرواتيا وبالقرب من زغرب وفي دلماسيا وغيرها.
وقد نجم عن نجاح هذه الجيوش الوطنية تعطيل السكك الحديدية الرئيسية والخطوط الاحتياطية الممتدة صوب الجنوب الشرقي إلى البلقان واليونان، كما عطلت الملاحة في نهر الدانوب بإغراق السفن في مجرى هذا النهر، فاختل النقل من جراء ذلك بين ألمانيا وبلاد البلقان اختلالا كبيرا. وهكذا لم يلبث أن وجد الألمان الذين بنوا آمالا عريضة على إمكان الاستفادة من استغلال ثروة يوغوسلافيا المعدنية والاستيلاء على غلاتها الزراعية أن الفشل يحيق بخططهم جميعا.
وقد سبقت الإشارة إلى الأساليب التي اتبعها النازيون في إبادة البولنديين واليهود منهم خاصة؛ ولذلك فقد ظلت بولندة منذ سقوطها في أيدي النازيين مركزا رئيسيا من مراكز المقاومة الإيجابية والسلبية في أوروبا النازية. ومع أن الألمانيين ارتكبوا مع أهل هذه البلاد فظائع تقشعر من هولها الأبدان، إلا أن ذلك لم يخفف شيئا من حدة هذه المقاومة، بل على العكس من ذلك، قويت هذه المقاومة وزادت عنفا من جراء هذه الفظائع. وكان من المنتظر بعد الغزو، منذ أن تم للنازيين ما أرادوا من تنظيمات تضمن لهم السيطرة وبخاصة في أثناء عامي 1940، 1941 أن يرتفع قليلا ذلك الكابوس الجاثم على صدور البولنديين، ولكن هروب الكثيرين منهم إلى الخارج للقتال مع جيوش الأمم المتحدة، ثم إصرارهم على المقاومة في داخل بلادهم، وزيادة مشاغل الألمان من جانب آخر منذ اشتعلت الحرب الروسية الألمانية، كل ذلك جعل النازيين يمعنون في أساليبهم الوحشية لإبادة البولنديين، فأوقعوا بيهود وارسو مذابح كانت أقساها مذبحة شهر مايو 1943 المروعة، كما أكثروا من اعتقال المئات من المثقفين. وفي يونية اتهم حوالي السبعمائة شخص من هؤلاء بأنهم اشتركوا في هيئات سرية تعمل ضد الألمان. واشتد بطش النازيين فنسفوا بالديناميت أو أحرقوا 2000 «ورشة»، و3000 متجر، و100 ألف بيت في المنطقة المخصصة لليهود في مدينة وارسو وحدها. ومن بين المآسي التي وقعت في عام 1943 أن النازيين لم يلبثوا أن نقلوا الأطفال البولنديين الذين تزيد أعمارهم على اثنتي عشرة سنة مع غيرهم من المراهقين إلى معسكرات العمل الإجباري في ألمانيا. وحدث عندما وصلت في شهر مارس قوافل كثيرة من صغار الأطفال إلى بوميرانيا - وكانت أعمار أغلبهم تختلف بين أربع سنوات وعشر - أن هرع النساء البولنديات في هذه الجهات لتولي هؤلاء الصغار بعنايتهن، فقامت سوق لبيع الأطفال، وكان الحراس الألمان يبيعون الطفل الواحد بأربعين ماركا فحسب، ولم يكن غريبا بعد هذا كله أن تصبح بولندة من مراكز المقاومة الخطيرة في أوروبا المحتلة.
وقد حاول النازيون بشتى الوسائل أن يخمدوا هذه المقاومة بنوعيها «سلبية وإيجابية» وهي لا تزال في مهدها ولكنهم أخفقوا، فلم تلبث الصحف النازية أن نشرت أخبار المقاومة، وكان أهم ما شكت منه ظهور العصابات المسلحة من اللصوص وقطاع الطرق البولنديين الذين دأبوا على مفاجأة مراكز الشرطة الألمانية المنعزلة والحراس الألمان، ومقر قيادة الجستابو نفسه. بيد أنه لم يكن من أغراض هذه العصابات المسلحة الاستيلاء على المال أو الطعام، بالرغم من انتشار المجاعة في بولندة؛ بل إن أهم ما كان يعني هؤلاء اللصوص وقطاع الطرق العثور على أولئك «الجلادين» و«الجزارين» الألمان الذين أهلكوا ألوف البولنديين ليقتلوهم ويستولوا على سلاحهم وذخيرتهم. ومنذ خريف 1941 نظمت هذه العصابات المسلحة، ونجم عن هجومها المتكرر على مخازن الذخيرة والسلاح أن صارت بولندة تحتفظ بقدر وافر من الأسلحة والذخائر مخبأة في جهات متعددة؛ انتظارا لليوم الذي يستطيع البولنديون فيه رفع راية الخلاص والاقتصاص من «جلاديهم» وقت الهجوم على قلعة هتلر الأوروبية.
وكانت اليونان كذلك مركزا رئيسيا للمقاومة الإيجابية في أوروبا؛ فقد أنزل الألمانيون والإيطاليون الذين اشتركوا في احتلال هذه البلاد كما أنزل الألمانيون في كريت، والبلغاريون في مقدونيا صنوف العذاب بالأهلين. ولعل أقسى ما نزل بهم حرمانهم من الأطعمة واستيلاء سلطات الاحتلال على العقاقير الطبية والضمادات وما إلى ذلك، حتى انتشرت المجاعة المخيفة في اليونان وكريت، ومات الأطفال من الجوع والبرد والمرض، وسقط الرجال في شوارع المدن منهوكي القوى، وظلت جثث الموتى مبعثرة في الطرق. وقد بلغ عدد ضحايا الجوع والتعب والبرد والمرض خمسمائة في كل يوم من أيام سنة 1942، واشتدت وطأة المجاعة في العام التالي، حتى ذكرت المصادر العلمية في أنقرة أن حوالي خمسمائة يوناني من طبقة العمال في أثينا وبيريه ماتوا جوعا في النصف الأول من شهر أكتوبر «1943»، وفي نوفمبر كانت اليونان تواجه كارثة وطنية لا مثيل لها بسبب ما تعانيه من نقص في الأطعمة، أضف إلى ذلك أن «السادة» الألمان والإيطاليين ثم البلغاريين بعد ذلك ظلوا يتفننون في ابتكار الأساليب لإلحاق الأذى بالأهلين، كأنما الغرض من الاحتلال هو إبادة الشعب اليوناني عن بكرة أبيه؛ ولذلك كله لم يكن هناك بد من أن تكون اليونان من مراكز المقاومة الشديدة في البلقان، فإن فلول الجيش اليوناني الباسل ظلت تحارب في جبال «أبيروس» ومقدونيا وتساليا وطراقية وكريت، حتى اضطر الإيطاليون بسبب هذه المقاومة العنيدة إلى الاحتفاظ (1942) بعدد من الفرق لا يقل عن ست عشرة فرقة في اليونان وكريت، وأرغم الألمان على الاحتفاظ بثماني فرق. وفضلا عن ذلك فقد عمد الألمان إلى اعتقال عدد كبير من أهل القرى - وبخاصة في كريت - بمثابة رهائن، وأعدموا معظمهم، ثم صاروا يحرقون القرى كلما نشبت بينهم وبين العصابات اليونانية أو الكريتية معركة من المعارك، أو اعتدى اليونانيون على ضباط الاحتلال الألمان أو الإيطاليين، أو أتلفت عصاباتهم القطارات أو عطلت النقل العسكري. ومع ذلك أعد رجال العصابات بجزيرة كريت في شهر سبتمبر 1943 جيشا من 15000 محارب، بينهم جنود من البريطانيين والنيوزيلنديين للهجوم على حاميات المحور عندما يغزو الحلفاء هذه الجزيرة وتتصدع أركان القلعة الهتلرية، واستطاعت العصابات الكريتية إنشاء مستودع للأسلحة بفضل الهجوم على حاميات المحور وقوافله، وألفوا لهم قيادة عامة تحت أوامر الجنرال «ماندا كاس». وقد استمرت أعمال المقاومة في اليونان على شدتها، ثم لم تلبث أن امتدت إلى المناطق التي كان يشملها الاحتلال البلغاري في شمال اليونان، ثم احتج اليونان على الاحتلال البلغاري لمقدونيا، ونزح كثيرون من سكان هذه المناطق المحتلة إلى الجبال حيث ألفوا العصابات تحت قيادة ضباط الجيش اليوناني. ومع أن النازيين عندما غزوا بلاد اليونان واجتاحوها صادروا جميع السفن الشراعية، فقد استولى رجال العصابات على عدد من هذه السفن وسلحوها بالمدافع السريعة وصاروا يستخدمونها لنقل الإمدادات إلى الأسر الجائعة. وفي نوفمبر شرع الألمان يعدون العدو للقيام بأعمال حربية هجومية ضد خمسين ألف جندي من رجال العصابات اليونانية المرابطين في المنطقة الجبلية بين تساليا وأبيروس. •••
وكان من أساليب المقاومة الإيجابية، ما يعرف باسم «حركة الإبطاء المتعمد» في العمل والانتاج
Go Slow Movement ، وكذلك أعمال التخريب
Sbotage ، وهذان النوعان في الحقيقة من أشد ضروب المقاومة الإيجابية خطرا على النازيين، في وقت اشتدت فيه حاجتهم إلى كل ما يمكن إنتاجه من أغذية وأردية صوفية وقطنية وأسلحة وذخائر ومصنوعات وغيرها؛ لإعداد التعبئة العامة ومساعدة النازيين على إحراز السيطرة الجرمانية في القارة الأوروبية، ثم دعم هذه السيطرة في النهاية.
فمن المعروف أنه كان يوجد لدى الألمان في الحرب العالمية الثانية من الأغذية الاحتياطية - بفضل ما سلبوه من الدول الخاضعة لسيطرتهم - كمية تزيد على ما كان لديهم من الأغذية في الحرب الأولى. بيد أن «التخريب» الذي كان يحدث في أدوات الإنتاج كان أعظم خطرا عليها - بلا مراء - من تخريب أعوام الحرب الأولى (1914-1918م). وكذلك أدت حاجة الألمان الملحة إلى المنسوجات الصوفية والقطنية إلى تدبير حملة الشتاء المعروفة في عام (1941-1942) من أجل جمع الملابس الصوفية والقطنية، ودل اهتمام الألمان بهذه الحملة على أن مخازنهم ومصانعهم في الريخ وفي البلدان الخاضعة لهم، قد أصبحت خالية من الصوف والقطن، حتى كان الجنود الألمان المرسلون للقتال في الميدان الروسي يرتدون ملابس النساء الداخلية من صوفية وقطنية طلبا للتدفئة.
وعدا ذلك دلت الحملة الروسية على أن القيادة العسكرية الألمانية أخطأت التقدير إلى مدى بعيد؛ فقد ظل القتال على شدته منذ نشوب الحرب مع الروسيا في صيف 1941؛ ولذلك لم يستطع الهر هتلر الاستغناء عن مقاتلته في شتاء (1941-1942) لإرسالهم من ميدان القتال إلى المصانع والمناجم وغيرها لإنتاج الأسلحة والذخائر الضرورية لهجوم الربيع، بل على العكس من ذلك أرسل النازيون منذ يناير 1942 سيلا من القوات الجديدة إلى الجبهة الشرقية، حتى أقفرت المصانع تماما من العمال الألمان واضطر النازيون إلى الاعتماد كل الاعتماد على الصناع والعمال الأجانب الذين جلبوهم بكثرة عظيمة من البلدان المحتلة للعمل في المصنع والمنجم والحقل، مع العلم بأن الألمان كانوا حتى صيف 1941 يستخدمون من هؤلاء العمال - ومن بينهم أسرى الحرب - حوالي 3000000 رجل كما سبق ذكره.
Bog aan la aqoon