Jarmalka Naasiga
ألمانيا النازية: دراسة في التاريخ الأوروبي المعاصر (١٩٣٩–١٩٤٥)
Noocyada
لا شك في أن النازيين، مثلهم في ذلك مثل أية جماعة أخرى يعميها التعصب وتصم القسوة آذانها، فتمضي في تنفيذ برامجها لا تلوي على شيء، ولا شك في أنهم استطاعوا الحصول على تأييد شطر من المجتمع الألماني، وهم الذين تمكنوا من البقاء في الحكم سنوات أخمدوا في أثنائها كل مقاومة ، وهيمنوا على تصريف شئون الشعب المادية والروحية، وقد يكون هذا الشطر كبيرا حقا. ولكن سنة العمران وطبيعة التقدم والنمو لا يمكن أن تهيئ الفرصة للطغاة دائما حتى يمضوا في طغيانهم إلى ما لا نهاية له. وقديما في أشد عصور الطغيان والفساد كان تيار المقاومة الخفية يجري محجوبا عن الأنظار، ونشأ أفراد ووجدت جماعات ما كانت ترضى بالعيش في ظلال الجور، حتى إذا تضافرت عوامل الضعف والتفكك التي لا مناص منها في كل مجتمع يقوم على أساس متداع، بدأ تيار المقاومة ظاهرا جليا، ثم اشتد جريانه حتى يجرف كل ما يعترض سبيله. وليست ألمانيا إلا كغيرها من الدول التي حفظ التاريخ قصصها؛ فقد كانت عوامل المقاومة موجودة منذ وصول النازيين إلى الحكم، ثم بقيت على نشاطها رغم ما بذله النازيون من جهد للقضاء عليها. ومنذ بداية الحرب قويت هذه المقاومة، ثم زادت شدة وعنفا منذ تذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية وقذفتهم طائرات الأمم المتحالفة بقنابلها وحممها، وأقضت مضاجعهم مثابرة الشعوب المقهورة على المقاومة الإيجابية والسلبية في أرجاء أوروبا المحتلة، وظهر كأنما قد تخلت آلهة النصر نهائيا عن الشعب الألماني المختار. وفي الفصل التالي بيان لهذا كله، ودليل على أن الدولة الوطنية الاشتراكية قد أخفقت أيما إخفاق في تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي عدت تأليفها ووجودها في قلب الريخ الألماني شرطا أساسيا لإحراز السيطرة على أوروبا، ومن ثم على سائر أنحاء العالم.
الفصل الثامن
ألمانيا الأخرى «غير النازية»
كان غرض النازيين من فرض سلطانهم الصارم على الحياة في المجتمع الألماني أن يتمكنوا من تأليف تلك الكتلة الصلدة المتماسكة التي اعتبروا وجودها ضروريا من أجل إحراز السيطرة العالمية في النهاية. وقد سبق كيف أنه حتى يتسنى لهم ذلك طفقوا منذ وصولهم إلى الحكم في عام 1933 ينظمون الحياة الألمانية ويعملون على توجيهها وجهة خاصة قائمة على فلسفة معينة ذات مثل عليا أوحت بها قرائح زعمائهم وفلاسفتهم، وكانت متفقة في جوهرها وتفصيلاتها مع أغراضهم القريبة والبعيدة في ميادين الاجتماع والاقتصاد والسياسة.
وقد بذل النازيون كل جهودهم حتى يدعموا أركان ذلك «التوجيه المنظم» الذي أقرته فلسفتهم الجديدة والذي عرفه النازيون باسم
Weltanschauung ، ومعنى ذلك على حد قول الدكتور «دنكان جونز
Duncan Jones » تلك الفلسفة التي تفرض على صاحبها إدراكا خاصا لمعنى الحياة ووجود العالم على نحو يجعل نظره للحياة والعالم بمثابة العقيدة الدينية لديه، فيستمسك بها بكل ولاء وإخلاص وتشعل في نفسه جذوة التحمس الشديد لإذاعتها في كل مكان دون أن تعتاق نشاطه الحدود السياسية وغيرها من الحواجز التي تفصل بين بلدان العالم، كأنما مهمته في الواقع التبشير بدين جديد. وكان من وسائل دعم ذلك التوجيه المنظم، إرغام الشعب الألماني على قبوله، والقضاء على كل معارضة من جانب أولئك الذين ظلوا متشبثين بمثل الحياة العليا «القديمة»، ورفضوا هذه «البدعة» الجديدة، فألقى النازيون بهؤلاء المعارضين في غياهب السجون وأرسلوهم إلى معسكرات الاعتقال، ثم لجئوا إلى تطبيق قواعد العلوم النفسية لكسب معركة «التوجيه المنظم»؛ لما كانوا يعلمونه من أثر الدعاية المنظمة القوية في نفوس الأفراد وسلوكهم وأعمالهم، فغدت الدعاية النازية المتقنة من وسائل التبشير بهذه الفلسفة الجديدة بين الألمان وبين شعوب الأرض قاطبة، فادعوا أن النازية قد نجحت في مهمتها نجاحا عظيما إلى حد أن الريخ الثالث أصبح نازيا لحما ودما، فاستطاع الزعماء بفضل ذلك أن يوجدوا في قلب دولتهم الجديدة كتلة نازية صلدة متماسكة لا يتطرق الضعف إليها. وكان غرض الهتلريين المباشر من ترويج هذا الادعاء أن يرغموا الشعب الألماني نفسه على تصديق هذه المزاعم حتى إذا ظل هناك جماعة يتوقون إلى العيش الحر الطليق أسقط في أيديهم أمام هذا السيل الجارف من الدعابة، وأنكروا آمالهم وأحلامهم وراضوا أنفسهم على العيش في ظل السيطرة النازية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكان ادعاء النازيين أنهم أنشئوا كتلة نازية صلدة متماسكة في قلب الريخ الألماني من أكبر الأكاذيب التاريخية التي كاد ينخدع بها العالم؛ لأن الريخ الثالث لم يكن نازيا لحما ودما؛ ولأنه كانت هناك إلى جانب ألمانيا النازية، ألمانيا «أخرى» تتألف من كل أولئك الذين ظلوا على الرغم من بطش الجستابو بهم ويئسهم من الحياة في معسكرات الاعتقال يحملون في قلوبهم البغض والكراهية للنازيين ويتربصون بهم الدوائر، وينظمون حروبا من المقاومة الإيجابية والسلبية في داخل الريخ نفسه لا تقل في خطرها عن مقاومة الشعوب المقهورة في أوروبا النازية ذاتها.
والأدلة على ذلك كثيرة، فإنه على الرغم من نشاط الدعاية النازية أصر عدد من الألمان في السنوات التي سبقت نشوب الحرب الهتلرية على وضع الكتب وإعداد البحوث والمقالات وإصدار النشرات والإحصائيات التي حرص النازيون من جانبهم على مصادرتها وإتلافها وتوقيع العقوبة على أصحابها - إذا عرف الجستابو أسماء الناشرين والمؤلفين - وكان أصحاب هذه المطبوعات السرية يحاولون تهريبها عبر الحدود الألمانية حتى يقف العالم الخارجي على حقيقة ما كان يحدث في داخل الريخ الثالث. ولذلك شغل الجستابو ورجال الحدود بمهمة مصادرة هذه المطبوعات والمنشورات وإتلافها ثم معاقبة مهربيها.
وقد يخيل إلى المرء أن الانتصارات التي أحرزها النازيون في ميدان السياسة الخارجية خصوصا في عام 1937 كانت كفيلة باستمالة سواد الشعب الألماني إلى تأييد النظام القائم والقضاء على كل معارضة داخلية ضد النازيين. بيد أن الذي حدث كان على العكس من ذلك تماما، فقد ظلت هذه المعارضة «السرية» على شدتها حتى إن النازيين استطاعوا في عام 1937 إحصاء «120287» حالة طبعت فيها كتب ومنشورات سرية وغير ذلك من المطبوعات غير القانونية، حدثت في 426 حالة منها التحامات دموية وتبودل إطلاق الرصاص بين البوليس النازي والألمان الذين اختاروا التضحية بأنفسهم عن طيب خاطر في سبيل تهريب هذه المطبوعات عبر الحدود إلى العالم الخارجي.
Bog aan la aqoon