ونحن هنا لا تعنينا مقارنات العقائد إلا من جانب واحد، وهو جانب التطور البشري في إدراك صفات الله.
ومتى قصرنا النظر على هذا الجانب فالثابت من تاريخ الديانة الإسرائيلية أنها انقلبت بعد عصر إبراهيم عليه السلام إلى وثنية كالوثنية البابلية، وأن التوحيد الذي بشر به إخناتون في مصر القديمة سابق لشيوع التوحيد في شعوب إسرائيل، ولكن العقيدة الإسرائيلية عاشت بعد اختفاء عقيدة إخناتون وبعد عصر موسى عليه السلام، فكانت هي كما تقدم نقطة التحول في تطور الاعتقاد بالله بين الأمم التي تؤمن اليوم بالأديان الكتابية.
الفلسفة
أول ما يقع في النفس من متابعة الأطوار الدينية كما أوجزناها كل الإيجاز فيما تقدم - أن مهمة الدين هي مهمة النوع الإنساني كله، قد تلمس فيها السبيل القويم من أقصى عصور ماضيه إلى حاضره الذي نحن فيه، وأنه كلما ترقى بتفكيره وترقى بأخلاقه وأحواله تهيأ لقبول عقيدة التوحيد، وترقى في هذا الاتجاه من تنزيه إلى تنزيه، ومن كمال إلى كمال.
وتتجلى هذه الظاهرة في الأديان القديمة التي أتمت نضجها وبلغت مستقرها في زمانها واستكملت من قبل جميع شعائرها، كالديانة المجوسية التي أسلفنا تلخيصها كما اعتقدها أهلها قبيل الميلاد وبعده بقليل، فإن أبناءها قد أخذوا بعقيدة التوحيد بعد احتكاكهم بالمسلمين، وأصبح المجوس الذين يسمون اليوم بالپارسيين يؤمنون بإله واحد: هو إله الخير يزدان ، ولا يشركون معه أهرمن كما فعل أسلافهم الأقدمون. قال العلامة جيمس دارمستتر
Darmesteter
في كلامه على زرادشت من كتاب حوادث العالم الكبرى: «إنهم قد انتهوا إلى الوحدانية، وإن الدكتور ويلسون حين كان مشغولا بمناقشة الپارسيين منذ أربعين سنة - نعت دينهم بالثنوية، فأنكر مجادلوه هذه التهمة، وقالوا: إن أهرمن لم يكن له وجود حقيقي، وإنما هو رمز لما يجيش بنفس الإنسان من خواطر السوء، فلم يعسر على الدكتور أن يبدي لهم أنهم يناقضون بذلك كتبهم المقدسة، ولم يزل النقاد الأوربيون حينا بعد حين يعجبون للتقدم الذي تقدمه الپارسيون في المذهب العقلي بعد مدرسة فولتير وجيبون، ولكن الواقع أنه ليس للمذاهب الأوربية تأثير وراء هذا التقدم، فإن الپارسيين قبل أن يسمعوا بأوربة والمسيحية وجد فيهم من فسر أسطورة تاموراث الذي امتطى هرمن ثلاثين سنة كما يمتطى الحصان - بأنها تعني أن ذلك الملك قد كبح شهواته وزجر نوازع الشر التي تحيك بسريرة الإنسان، وشاع فيهم هذا التفسير المثالي نحو القرن الخامس عشر للميلاد، ولا يزال شائعا اليوم بين المفسرين، وليس في الوسع أن نقرر على التحقيق مبلغ تأثير الديانة الإسلامية في هذا التحول، فقد نلمح هنالك علامات ضعيفة على ابتدائه منذ عهود المجوس الأقدمين.»
ولا بد أن نلاحظ هنا أن المهم هو تهيؤ الذهن للتوحيد، وليس المهم هو ما قصده الإنسان في نيته وعمله فعلا في هذا السبيل.
فلا الحقائق الدينية ولا الحقائق العلمية يقدح فيها ما قصده العقل أو قصدته النوازع النفسية قبل الوصول إليها.
فإن الإنسان قصد تسيير السفن وتنظيم الملاحة فعرف الفلك ورصد ظواهر السماء، وقصد قياس المزارع فعرف الهندسة، وقصد الذهب فعرف الكيمياء، وقصد الشعوذة فعرف الطب، وبدأ بالفلسفة من بداءات أعجب من بداءات الأديان، ولم يحسب ذلك عيبا على الحقائق التي انتهى إليها من هذا السبيل.
Bog aan la aqoon