ولا تزال غرائز الحيوان تدلنا على ضروب من الإحساس الخفي لا يعللها العلماء بأكثر من تسميتها باسم الغريزة، كأنهم إذا لجأوا إلى كلمة مبهمة لا يفهمونها كانوا أجدر بكرامة العلم من الجاهل الذي يفسر الأمر كله بقدرة إله.
وفي الغريزة عبر كثيرة لا تنسى في صدد الكلام على الحاسة الدينية وخطأ الإنسان في التعبير عنها وتمثيل موضوعاتها.
فقد يساء استخدام الغريزة ولا يقدح ذلك في نشأتها ولا في وجهتها، كالطير الذي يهاجر طلبا للسلامة أو للغذاء فيسقط في البحر من الإعياء لأنه يختار طريقا انقطع بطغيان البحر عليه منذ عصور، فباعث الغريزة موجود ومعقول، وحب السلامة موجود ومعقول، وخطأ المحاولة في استخدام الغريزة لا ينفي صدق هذا ولا صدق ذاك.
والإنسان في غريزته النوعية يخدع نفسه ويضل عن الغاية من حيث يشعر أو لا يشعر بانخداعه وضلاله: يخدع نفسه حين يحسب أنه يعمل للذته أو يعمل لذاته، ويضل ضلالا بعيدا حين يقتل عشرين رجلا كبيرا؛ ليكفل القوت أو السلامة لطفل واحد هو ابنه الذي لم يلده إلا لبقاء النوع كله، يقتل عشرين مخلوقا ناميا من النوع لبقاء مخلوق منه غير موثوق بنمائه، وهو يطاوع الغريزة النوعية بذلك ولا يناقضها في نهاية المطاف؛ لأن حب الأبناء لو توقف على الحساب العددي والموازنة بين الكثرة والقلة لما حرص الناس على الأبناء، ولا ظفر النوع بالبقاء.
وأدخل من ذلك في ضلال الغريزة وثبوتها في وقت واحد أن الأب الذي يدس عليه طفل غير ابنه ولا يخالجه الشك فيه يحبه ويرعاه ويفتدي بقاءه ببقاء الكثيرين، ولا يجوز من أجل ذلك أن يقال: إن الغريزة النوعية غير صحيحة؛ لأن الولد غير صحيح.
فالتعبيرات عن الحاسة الدينية تقبل الخطأ الكثير، ولا يستفاد من ذلك أن الحاسة الدينية غير لازمة أو أنها مكذوبة النشأة في أساس التكوين.
وهذا الذي سميناه «بالوعي الكوني» هو الذي يحس بوطأة الكون فيترجمها على قدر حظه من التصور والتصوير، فيقع الخطأ الكثير في التعبير وفي محاولة التعبير، ولا يمتنع من أجل ذلك أن نتلقى الكون بوعي لا شك في بواعثه وغاياته، وإن أحاطت بتعبيراته شكوك وراء شكوك.
وربما كان هذا «الوعي الكوني» فرضا صادقا أو راجحا ثم ينتهي به الأمر عند ذلك لو لم تكن ظاهرة التدين التي تترجم عنه ملازمة لبني آدم في جميع الأماكن ومن أقدم الأزمان، ولو لم ينبغ في الناس أفراد من ذوي العبقرية تملؤهم روعة المجهول، ولكن الأديان تعم البشر ولا تغنيهم عنها غريزة حب البقاء أو غريزة حب النوع أو حب المعرفة أو دواعي السياسة الاجتماعية، وقد وجدت أديان تبشر بالفناء ولا تبشر بالبقاء وتحرم على كهانها النسل ولا تعدهم شيئا في السماء، فهي - أي الأديان - من وعي غير وعي التحفظ والسلامة وغير وعي السياسة ودواعي الاجتماع، وقام في العالم عباقرة دينيون لا يهدأون بما يجيش في نفوسهم من قوة الشعور بالمجهول، ولو كان هذا المجهول المغيب عن الناس لا يستحق أن تجيش به نفس إنسانية لصرفنا سيرة هؤلاء العباقرة بكلمة واحدة: هي كلمة الجنون الذي وصفوا به كلما ظهروا بين قبيل من المعاندين، ولكن «المجهول المغيب» أحق من جميع الموجودات بهذا الجيشان العظيم؛ فالطبائع التي امتازت باستيعابه واتسعت لدوافعه لا تمتاز بخلل خلو من المعنى، بل تمتاز باستقامة في التكوين فيها كل معنى كبير من معاني الشعور العميق.
وقد أحس الإنسان قبل أن يفكر، فلا جرم ينقضي عليه ردح من الدهر في بداءة نشأته وهو يفكر حسيا أو يفكر «لمسيا» فلا يعرف معنى الوجود إلا مرادفا لمعنى المحسوس أو الملموس، فكل ما هو منظور أو ملموس أو مسموع فهو واقع لا شك فيه، وكل ما خفي على النظر أو دق عن السمع واللمس فهو والمعدوم سواء.
وقد كان «للحاسة الدينية» فضل الإنقاذ الأول من هذه الجهالة الحيوانية؛ لأنها جعلت عالم الخفاء مستقر وجود ولم تتركه مستقر فناء في الأخلاد والأوهام، فتعلم الإنسان أن يؤمن بوجود شيء لا يراه ولا يلمسه بيديه، وكان هذا «فتحا علميا» على نحو من الأنحاء، ولم ينحصر أمره في عالم التدين والاعتقاد؛ لأنه وسع آفاق الوجود وفتح البصيرة للبحث عنه في عالم غير عالم المحسوسات والملموسات، ولو ظل الإنسان ينكر كل شيء لا يحسه لما خسر بذلك الديانات وحدها، بل خسر معها العلوم والمعارف وقيم الآداب والأخلاق.
Bog aan la aqoon