164

في خطاب الرئاسة السنوي بقسم الفزيولوجي من جامعة أكسفورد عام 1936 ما فحواه أن كل خلية من البروتين تتألف من سلسلة فيها بضع مئات من الحلقات، وأن كل حلقة منها هي تركيبة من ذرات قوامها حمض من الأحماض النوشادرية، وهي أحماض يبلغ المعروف منها نحو العشرين، ويجوز أن يقع كل منها موقعه على اختلاف في النسبة والترتيب، ولكننا لا نراها في بعض الأنسجة إلا على ترتيب واحد ونسبة واحدة بغير شذوذ ولا اختلاف.

فهل نستطيع أن نتخيل مبلغ الدقة في هذه الإصابة بين احتمالات الخطأ التي لا تحصيها أرقامنا المألوفة؟

يكفي لتقريب هذه الدقة من الخيال أن نذكر أن الحروف الأبجدية في لغات البشر كافة لا تتجاوز الثلاثين، ويتألف من تراكيبها المتغيرة كل ما تلفظ به الأمم من الكلمات والعبارات، فإذا كانت خلية البروتين في حجمها الخفي قابلة لأضعاف ذلك التكرار ثم لا نشاهد فيها إلا كلمة واحدة في ترتيب واحد لا يتغير فقد عرفنا على التقريب معنى تلك الإصابة في التوفيق والتركيب.

يقول الأستاذ ليثز لتقريب هذا الخيال: إن الضوء يصل من طرف المجرة إلى الطرف الآخر في ثلاثمائة ألف سنة، فإذا أردنا أن نشبه إصابة الخلية في تركيبها بمثل مفهوم - فهذه الإصابة تضارع إصابة الرصاصة التي تنطلق من الأرض فتصيب هدفا في نهر المجرة بحجم عين الثور ولا تخطئه مرة من المرات، وهذا على فرض أن حلقات الخلية خمسون فقط وليست بضع مئات!

لقد بطل معنى القصد في لغة العقل إن كان هذا كله مصادفة لا تستلزم الخلق والتدبير.

ونحن مع هذا لا نبلغ غاية التعجب من هذا التركيب المحكم المصيب؛ لأن الجسم الحي الذي تتكرر فيه هذه المعجزات كل لحظة من لحظاته لا تزال فيه بقية للعجب لعلها أعجب من كل ما تخيلناه، وهي أن هذه الذرات الخفية تتجمع وتتفرق وتلتئم وتنفصل على نحو يضمن لها التجدد أو يضمن الدوام للحياة، فيتألف كل حي من جنسين، وتخرج من كل منهما خلية واحدة يتكون منهما حي جديد، وتنقسم هاتان الخليتان تارة أزواجا وتارة فرادى على الوضع المطلوب في المرحلة المطلوبة، ويتفق عددها في كل نوع من الأنواع الحية بغير زيادة ولا نقصان، وينطبع كل حيوان على عادات وغرائز تسوقه إلى التناسل في موعده المقدور، فيبني العش قبل أن ينسل إن كان من الطيور، ويفارق الماء الملح إلى مداخل الأنهار أو الخلجان قبل أن ينسل إن كان من سمك البحار، ويمتلئ بالشوق إلى شريكه في التوليد قبل موعد التوليد على اختلاف الأنواع والأجناس.

ونعود فنقول مرة أخرى: إن معنى القصد قد بطل في عقل الإنسان إن كان القول بالمصادفة هنا أيسر من القول بالخلق والتدبير.

فالقرآن الكريم قد خاطب الأحياء بلغة الحياة، وخاطب العقلاء بلغة العقل، حين كرر برهان الحياة وبرهان النسل في إثبات وجود الخالق الحكيم.

وبرهانه على وحدة هذا الخالق يضارع برهان الحياة وبرهان النسل على وجوده وحكمته وتدبيره.

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .

Bog aan la aqoon