أما الحقيقة فهي أن البيولوجيين يعرفون أعضاء الأجسام الحية ولكنهم في أمر الحياة نفسها لا يمتازون على أحد من العلماء، وليس من اللازم أن يكون النبوغ في التشريح ودراسة الوظائف العضوية مقارنا للنبوغ في الفلسفة والبحث عن الأصول الكونية الكبرى وأولها أصل الحياة، وعلى هذا المثال لا يجوز للكيماوي أن يستأثر بالقول في أصل المادة وقدم الزمان والمكان لأنه يعرف تراكيب الأجسام ويعرف النسب التي تختلف بها هذه التراكيب، ولا يجوز لمهندس الطباعة أن يستأثر بالحكم في معاني الحروف وأسرار الكلمات لأنه يصب الحروف ويدير الآلات ويخرج من بين يديه كل نسخة من الكتاب، ولا يجوز للنجار الذي يصنع الشطرنج أن يزعم أنه أقدر اللاعبين على تحريك هذه القطع في الرقعة وفقا للحساب وطبقا للقصد الذي يتوخاه اللاعب الماهر، وإن كان هذا اللاعب الماهر أعجز الناس عن صنع قطعة أو إصلاح رقعة أو التفرقة بين خشب وخشب في صنع القطع والرقاع.
على أن الماديين لا يعرفون من قوانين المادة وخصائص الأجسام ما يسوغ لهم الجزم بامتناع المؤثرات الأخرى في حركاتها؛ لأن المطابقة التامة في التجارب المادية لم تتقرر بعد بتجربة واحدة، فكل تجربة تعاد لا تأتي بالنتيجة نفسها على وجه الدقة الكاملة بالغا ما بلغ الإحكام في تركيب الآلات ويقظة المجربين ، وتعرف هذه الملاحظة بملاحظة هيزنبرج
Heisenberg
الذي ضبط مقدار الخلل في هذه الاختلافات على وجه التقريب، وهو مقدار - مهما يبلغ من صغره - كاف لفتح الباب وبقائه مفتوحا لاحتمال المداخلة الروحية في بعض الحالات.
وخلاصة الرأي في برهان الخلق أن القول بأن الحياة والعقل من عمل حي عاقل قضية عقلية لا غبار عليها، وأن القول بأن المادة هي مصدر كل شيء في الكون يلجئنا إلى فروض لا يقرها الحس ولا المنطق، ولا توافق القسطاس الذي جعله الماديون مرجعا لجميع الآراء والأحكام، وهو قسطاس المشاهدة والدليل المحسوس. •••
أما برهان الغاية
Teleological Argument
فهو في لبابه نمط موسع من برهان الخلق مع تصرف فيه زيادة عليه.
لأنه يتخذ من المخلوقات دليلا على وجود الخالق ويزيد على ذلك أن هذه المخلوقات تدل على قصد في تكوينها وحكمة في تسييرها وتدبيرها، فالكواكب في السماء تجري على نظام وتدور بحساب وتسكن بحساب، وعناصر المادة تتألف وتفترق، وتصلح في ائتلافها وافتراقها لنشوء الحياة ودوام الأحياء، وأعضاء الأجسام الحية تتكفل بأداء وظائفها المختلفة التي تتحقق الحياة بمجموعها وتكملة عضو منها لعضو ووظيفة لوظيفة، ومن عرف التركيب المحكم الذي يلزم لأداء وظيفة البصر في العين تعذر عليه أن يعزو ذلك كله إلى مجرد المصادفة والاتفاق، ويقال في كل حاسة من الحواس ما يقال في العين أو العيون التي تتعدد بتعدد الأحياء.
وقد توجهت لهذا البرهان ضروب شتى من النقد لم تصدر كلها من جانب الماديين أو القاطعين بالإلحاد.
Bog aan la aqoon