عندما رأى المعمدان يسوع مقبلا قال: «هذا هو حمل الله الذي يرفع خطية العالم». ولقب «حمل الله» الذي ينفرد به مؤلف إنجيل يوحنا، يحمل في طياته نوعا من المشابهة بين «حمل الفصح» الذي يريق اليهود دمه بعد ظهر اليوم السابق للفصح اليهودي وبين يسوع. فكما أن دم حمل الفصح يغسل خطايا اليهود في العيد، كذلك هو دم يسوع المسيح الذي قدم نفسه قربانا من أجل رفع خطيئة البشر أينما كانوا وتقديم الخلاص لهم. ولهذا فإن مؤلف إنجيل يوحنا يجعل حادثة صلب يسوع في اليوم السابق للفصح اليهودي لا في يوم الفصح نفسه كما فعل بقية الإنجيلين، ويجعل موته بعد ظهر هذا اليوم في توافق مع إراقة دم حمل الفصح في باحة هيكل أورشليم.
هذه الرمزية تترسخ بعد ذلك في فكر بولس الرسول المؤسس الحقيقي للاهوت المسيحي، فبولس يرى أن «عقاب الخطيئة هو الموت» (روما، 6: 23)، وبما أن مآل البشر جميعا إلى الموت، فإن ذلك يستتبع أن البشر كلهم خطاة. ولكن موت المسيح على الصليب قد حرر البشر من الخطيئة ومن الموت: «ألا تعلمون أننا حين تعمدنا لنتحد بالمسيح يسوع تعمدنا لنموت معه، فدفنا معه بالمعمودية وشاركناه في موته، حتى كما أقامه الآب بقدرته المجيدة من بين الأموات، نسلك نحن أيضا في حياة جديدة، فإذا كنا اتحدنا به في موت يشبه موته فكذلك نتحد به في قيامته. ونحن نعلم أن الإنسان القديم فينا (=جسد آدم) صلب مع المسيح حتى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا ... فإذا كنا متنا مع المسيح فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه» (روما، 6: 1-8).
بعد هذا اللقاء الأول والأخير بين يسوع والمعمدان، تم إلقاء القبض على المعمدان وأودع السجن، ولم يقيض للاثنين أن يلتقيا ثانية. وبعد أن سمع يسوع بالقبض على المعمدان باشر نشاطه التبشيري العلني. وعلى حد قول مرقس: «وبعدما أسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل» (مرقس، 1: 14). أي إن يسوع قد تبنى رسالة يوحنا الذي قال قبله : «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات» مضيفا إليها بشارته الخاصة. وعندما بدأ يسوع يظهر المعجزات، جاء تلاميذ يوحنا وأخبروا معلمهم بما رأوا وسمعوا. فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل إلى يسوع يسأله عما إذا كان المسيح المنتظر: «أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ فأجاب يسوع وقال لهما: اذهبا وأخبرا يوحنا بما رأيتما وسمعتما. إن العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون، وطوبى لمن لا يشك في» (متى، 11: 1-6). ويسوع هنا إنما يلمح إلى ما ورد في النبوءات التوراتية بخصوص مجيء المسيح (راجع سفر إشعيا، 26: 19، و29: 18، و35: 5، و60: 1)، ويرد على سؤال يوحنا بطريقة غير مباشرة. على أن المشكلة في هذا الخبر هي أن متى الذي جعل يوحنا يسأل يسوع عما إذا كان المسيح المنتظر (متى، 11: 3)، كان قد جعله في خبر العماد يتعرف على يسوع بصفته هذه عندما مانع في تعمده قائلا: وأنا محتاج أن اعتمد منك، وأنت تأتي إلي؟ (متى، 3: 14).
بعد انصراف تلميذي يوحنا يتوجه يسوع بخطاب لمن حوله من الناس ينطوي على مغزى يتعلق بطبيعة رسالته: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحركها الريح؟ ... بل ماذا خرجتم تنظروا؟ أنبيا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي ... لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبي أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه» (لوقا، 7: 24-28). في هذا الخطاب يعترف يسوع بدور يوحنا المعمدان، ولكنه في الوقت نفسه يعلن أن رسالته قد تجاوزت يوحنا، لأن أصغر المؤمنين بالبشارة، المؤهلين لدخول الملكوت القادم، هو أعظم من يوحنا.
هذا التجاوز يعبر عنه مشهد التعميد نفسه؛ فيسوع قد غطس في الماء ثم خرج منه تاركا يوحنا وراءه وراح يصلي في خلوة، وأثناء الصلاة انفتحت السماء ونزل عليه روح الله مثل حمامة واستقر عليه، وسمع صوتا من السماء قائلا: هذا هو النبي الحبيب الذي به سررت. وهنا يمثل المعمدان الحكمة القديمة التي تجاوزها يسوع بعد أن خرج من الماء، أما الحمامة والصوت السماوي الذي سمعه يسوع بينما هو يصلي ، فيعبران عن حالة الكشف الداخلي التي توصل إليها يسوع وهو في غمرة التأمل الباطني العميق. وهكذا فقد عبر العتبة التي تؤدي إلى طريق لا عودة منها، طريق حمل الله الذي يحمل خطيئة العالم ويقدم الخلاص لبني البشر.
مثل هذا الكشف قد حصل لبوذا وهو في حالة تأمل عميق تحت شجرة الاستنارة، على ما تخبرنا به قصة استنارة البوذا التي تشترك في عناصرها مع قصة استنارة يسوع، أو بالتعبير الظاهري هبوط الروح القدس عليه. فبعد أن ترك الأمير الشاب سيدهارتا (البوذا المقبل) قصر أبيه الملوكي وزوجته الشابة، شرع في رحلة طويلة بحثا عن أجوبة على الأسئلة الوجودية الكبرى التي كانت تؤرقه، نشد خلالها عددا من المعلمين الهندوس واستمع إليهم محاولا اتباع طرقهم الصوفية، ولكنه لم يصل إلى نتيجة ترضي فكره الحائر، فقرر السير وحيدا في طريق المعرفة. وصل سيدهارتا إلى غابة يجري عبرها نهر صاف، وهناك ألزم نفسه تدريبات نسكية قاسية مدة خمس سنوات، معتقدا أن الصوم وتعذيب الجسد سوف يجلب له صفاء الذهن الذي يقود إلى كشف البصيرة. وفي هذه الأثناء انضم إليه خمسة من النساك الذين ساروا على نهجه آملين منه أن يشاركهم معرفته. وأخيرا هزل جسده وتحول إلى عظم وجلد وبلغ حافة الموت دون أن يبلغ غايته، ثم سقط مغشيا عليه من شدة الضعف، وعندما أفاق عرف أن طريقة قهر الجسد قد أخفقت؛ فقبل قصعة من الأرز المسلوق بالحليب من يد فتاة تسكن قرية قريبة، وأكل منها فشعر بقوة في جسده. وهنا انفض عنه النساك الخمسة الذين اتهموه بالخور والضعف، أما هو فقد قام إلى النهر حيث غطس في الماء وانتعش، ثم تجاوزه إلى الضفة الأخرى وقصد شجرة تين هندي وارفة وجلس تحتها مستغرقا في تأمل باطني عميق، عازما ألا يبرح موضعه حتى يصل إلى المعرفة. وما إن حل المساء حتى بدأ قلبه يضيء بالاستنارة الكاملة، وتحول إلى بوذا، أي «المستيقظ» أو المستنير الذي أفاق من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وعرف سر الحياة وغايتها ومآلها.
وهنالك تفسير كوكبي لقصة معمودية يسوع يقول به بعض المفسرين الذين يرون أن المستويات السرانية الباطنية في فهم سيرة يسوع قد ربطته منذ البداية بالشمس التي تولد في يوم 25 ديسمبر، عندما تدخل في برج الجدي ويأخذ النهار بالطول على حساب الليل. فقد كان برج الجدي (
Capricon ) هو الشارة السماوية لإله الماء إنكي في ثقافة الشرق القديم، الذي كان يدعى منذ الفترة الهيلينستية أوانس، المعادل لاسم يوحنا الذي يلفظ باللغة اليونانية يوانس وباللاتينية جوهانس وبالعبرية يوحنان. وبما أن معمودية يسوع تعبر عن ولادته الثانية عقب لقائه بيوحنا المعمدان الذي يمثل هنا برج الجدي، فإن المشهد بكامله ليس إلا ترجمة ميثولوجية لدخول الشمس في برج الجدي وهو البرج العاشر في دائرة الأبراج السماوية، متوجهة نحو البرج الحادي عشر وهو برج الدلو. ثم يسير هؤلاء خطوة أبعد في هذا التفسير؛ فإذا كان يسوع وفق هذه الرمزية الكوكبية قد ولد في 25 ديسمبر، فإن مريم العذراء قد حبلت به قبل ذلك بتسعة أشهر أي في 25 مارس/آذار في يوم الانقلاب الربيعي عندما تدخل الشمس في برج العذراء. وهنالك جملة غامضة يضعها مؤلف إنجيل يوحنا على لسان المعمدان يمكن فهمها على ضوء هذا التفسير عندما يقول لتلامذته عن يسوع: «إذن فرحي قد كمل. ينبغي أن ذلك (= يسوع) يزيد وأنا أنقص» (يوحنا، 3: 30)، وذلك في إشارة إلى طول النهار وقصر الليل عقب دخول الشمس (أو يسوع) في برج الجدي (أي المعمدان).
10
من هو إله يسوع؟
Bog aan la aqoon