ويضيف متى ولوقا خطابا يضعانه على لسان يوحنا، نورده فيما يلي عن صيغة لوقا: «وكان يقول للجموع الذين خرجوا ليعتمدوا على يديه: يا أولاد الأفاعي، من علمكم أن تهربوا من الغضب الآتي؟ ألا اصنعوا أثمارا تليق بالتوبة، ولا تقولوا إن أبانا هو إبراهيم، لأني أقول لكم إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار. وسأله الجموع قائلين: فماذا نفعل؟ أجابهم: من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل كذلك. وجاء عشارون أيضا ليعتمدوا على يديه فقالوا له: يا معلم ماذا نفعل؟ فقال لهم: لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم. وسأله أيضا بعض الجنود: ونحن ماذا نفعل ؟ فقال: لا تظلموا أحدا ولا تشوا بأحد واكتفوا بأرزاقكم» (لوقا، 3: 7-14).
ولإنجيل يوحنا رواية خاصة به سوف نعرضها عند الحديث عن معمودية يسوع.
لم تدم فترة كرازة يوحنا المعمدان طويلا؛ فقد قبض عليه هيرود أنتيباس ملك الجليل لأنه كان يشجب زواجه من هيروديا امرأة أخيه. وعندما كان هيرود يحتفل بعيد ميلاده رقصت سالومي ابنة هيروديا أمام المدعوين فسر برقصها، وأقسم تحت تأثير الخمر أنه مهما طلبت يعطيها، فدفعتها أمها أن تطلب رأس يوحنا، فأسقط في يد هيرود وأرسل وقطع رأس يوحنا وأحضروه له على طبق (متى، 14: 3-12).
ولدينا خبر تاريخي واحد عن يوحنا المعمدان يتقاطع مع الأخبار الإنجيلية أورده المؤرخ اليهودي يوسيفوس في كتابه «عاديات اليهود» الذي وضعه في روما نحو عام 93 للميلاد، فقال «إن يوحنا الملقب بالمعمدان كان رجلا بارا، يأمر اليهود بالمعاملة الطيبة تجاه بعضهم بعضا وبتقوى الله. وكان يعمد بالماء من أجل تطهير الجسد بعد أن تطهرت الروح بالبر والتقوى. ولأن الجميع كانوا يتقاطرون إليه ويسمعون كلماته خاف هيرود من تأثيره على الناس ومن فتنة محتملة، فقبض عليه وسجنه في قلعة مخايروس ثم أمر بإعدامه.»
5
إن ما تقوله لنا هذه الأخبار الشحيحة هو أن تعاليم يوحنا المعمدان لم تخرج عن الإطار العام للعقيدة اليهودية في أشكالها المتأخرة. فيوحنا كان يبشر بقرب حلول ملكوت الرب الذي بشر به كبار الأنبياء من قبله مثل إشعيا وإرميا، وهو مملكة أرضية يحكمها الإله يهوه بنفسه. وكان يعمد بالماء لمغفرة الخطايا استعدادا لدخول المعتمدين في هذا الملكوت، ولاستقبال المسيح اليهودي الذي يفتتح الملكوت بظهوره. ومثل هذه الأفكار لم تكن بالشيء الجديد، وكان الأسينيون يبشرون بها، وهم طائفة يهودية طهرانية اعتزلت المدن وأقامت في البرية في انتظار قدوم المسيح، وكانت تمارس طقوس التعميد بالماء.
إلا أن ظهور بعض الطوائف الغنوصية منذ القرن الأول الميلادي، والتي تدعي انتسابها إلى يوحنا المعمدان، وتنسب إليه تعاليمها وطقوسها، يزودنا بمقاربة جديدة لتصور التعاليم الأصلية ليوحنا. فالغنوصية هي منظومة من الأفكار الدينية تبلورت فيما بين أواخر القرن الأول قبل الميلاد وأوائل القرن الأول الميلادي. وهي تقول بثنائية الجسد والروح؛ حيث ينتمي الجسد إلى عالم المادة المظلم، وتنتمي الروح إلى العالم الإلهي المنير، فهي قبس من روح ملك الأنوار احتبسها الديميرج (أي الإله الآخر الذي صنع العالم) في جسد صنعه من طين الأرض ونفخ فيه الحياة. وستبقى الروح أسيرة في هذا الجسد المادي وفي هذا العالم المادي، وأسيرة دورات تناسخ لا تنتهي، إلى أن يقودها الغنوص (أي العرفان الداخلي) إلى إدراك طبيعتها الإلهية، عندها فقط تستطيع الإفلات من دورة التناسخ والعودة إلى موطنها السماوي الذي جاءت منه.
وتحدثنا كتب التراث العربي، مثل كتاب الفهرس لابن النديم، عن أكثر من طائفة معمدانية كانت حية في أيامهم، ومنها طائفة «المغتسلة» (وهي تسمية مشتقة من طقس العماد بالماء) التي نشأ فيها ماني ثم انشق عنها وأسس الديانة المانوية. وقد بقي من هذه الطوائف اليوم طائفة الصابئة المندائيين التي تقيم في جنوب العراق والمناطق العربية من إيران. وكلمة صابئة مشتقة من الجذر صبأ، الذي يدل في اللغة المندائية الآرامية على التعميد والتطهر بالماء، وهو طقس الدخول في الدين. أما كلمة المندائية فمشتقة من كلمة مندا التي تعني معرفة أو علما، ويعادلها في اليونانية كلمة غنوص (
Gnosis ). وعلى ما نستشف من مصادر المندائيين أنفسهم، ومن كتب التراث العربي، ومن دراسات المستشرقين المحدثين، فإن الموطن الأصلي لهذه الطائفة كان في منطقة القدس وشواطئ نهر الأردن، ثم هاجروا شرقا نحو وادي الرافدين عقب الاضطرابات التي رافقت وتلت الحروب اليهودية الرومانية فيما بين عام 66 وعام 70 للميلاد، والتي انتهت بدمار أورشليم على يد القائد الروماني تيتس. وما زال اسم الأردن (أو يردنا باللغة المندائية) وهو النهر المقدس لديهم، يطلق على الماء الجاري الذي يستخدم في طقوس التعميد. وقد عثر في منطقة ميسان في الجنوب العراقي على قطع نقود تحمل كتابة مندائية تعود بتاريخها إلى نحو 150م، الأمر الذي يدل على قدم هذه الطائفة وقربها زمنيا من العصر الذي عاش فيه يوحنا المعمدان.
ينتسب المندائيون إلى النبي يوحنا الذي يدعونه بلغتهم يهنا أو يهيا، وتورد كتبهم المقدسة عن نسبه وميلاده أخبارا تشبه قصة إنجيل لوقا والقصة القرآنية. نقرأ في إحدى تراتيلهم: «باسم الحي ربي، النور السني. ولد يوحنا في القدس. أليصابات ولدت ولدا من الأب الشيخ زكريا. يوحنا ولد ولمس الأردن وكان نبيا. نور الإيمان قلبه، ونحن نتعمد بمائه، ونرتسم بالرسم الزكي. ونأكل من زاده ونشرب من مائه، فتنفتح قلوبنا إلى النور.» وطقس التعميد عندهم لا يتم إلا بالماء الجاري، وذلك على سنة يوحنا الذي كان يعمد في ماء الأردن. ويخضع للتعميد الصغار في طفولتهم، والكبار قبل الزواج، كما يتعمد من شاء أن يكسب أجرا. ويجري التعميد في يوم الأحد وهو اليوم المقدس عندهم. كما يجري في المناسبات الدينية. ويهدف هذا الطقس إلى تطهير الجسد والروح، ويكون الغطس الكامل في الماء رمزا لفناء الجسد الخاطئ، والخروج من الماء رمزا للجسد الذي انبعث روحيا. وخلال طقس المعمودية وبقية الاحتفالات الدينية يرتدي المندائي الثياب البيض التي ترمز إلى النور، ويتحاشى بشكل عام اللون الأسود الذي هو لون الظلام والخطيئة.
Bog aan la aqoon