قرأت الطبعة الإنكليزية من الكتاب بعد صدورها في لندن ببضع سنوات ولم أجد فيه سوى حبكة بوليسية بعيدة كل البعد عن البحث الأكاديمي الرصين وقد التقط أحد مؤلفي روايات التشويق في أميركا هذه الحبكة، وجعل من الكتاب رواية تحت عنوان «شيفرة دافينشي»، لقيت بدورها إقبالا شديدا، وجرى تحويلها بعد ذلك إلى فيلم سينمائي، كما صدرت لها ترجمة رديئة في دمشق لقيت رواجا منقطع النظير. وبما أن القراء العرب قد اطلعوا على كتاب الدم المقدس والكأس المقدسة، وقرءوا رواية شيفرة دافنشي، وشاهدوا الفيلم المقتبس عنها، فقد رأيت من واجبي كباحث في كتاب العهد الجديد أن أضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالأفكار التي قامت عليها هذه الأعمال الثلاثة.
فيما يلي من هذه الدراسة لن ألتفت إلى ما ورد في كتاب شيفرة دافنشي؛ لأن خيال المؤلف الروائي لا يشكل موضوعا للمناقشة، ولكني سوف أركز على ما ورد في الكتاب الذي قامت عليه هذه الرواية وأناقشه، مستندا إلى معطيات الأناجيل نفسها، ومبرهنا على أن المؤلفين قد قرءوا هذه الأناجيل بعيون يهودية، وبإصرار يهودي على النخر في أساسات الكنيسة المسيحية. وسيكون تركيزنا بشكل خاص على بعض خلاصات المؤلفين الواردة في الفصل الثاني عشر لأنها تقدم نموذجا عن الأسلوب الذي اتبعوه في تضليل القارئ العادي الذي لم يدرس الإنجيل ولم يطلع على تفاصيله ودقائقه. (1) هل قدس يسوع الزواج
يقول المؤلفون: لا يوجد في الأناجيل دليل واضح على أن يسوع لم يكن متزوجا، وكان العديد من حوارييه متزوجين مثل بطرس الذي دخل يسوع بيته وشفا حماته، وهناك من الدلائل ما يشير إلى أنه لم يأمر بالعزوبية، بل وأنه قد قدس الزواج وحض عليه. فعندما جاء إليه قوم من الفريسيين ليجربوه وقالوا له: «هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب؟ فأجاب وقال لهم: أما قرأتم (في التوراة) أن الذي خلق من البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟ وقال من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بزوجته ويكون الاثنان جسدا واحدا ؟ (إشارة إلى ما ورد في سفر التكوين: 2 عن خلق آدم وحواء) إذن ليس بعد اثنين بل هم جسد واحد. فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان» (متى، 19: 1-7).
الرد
لم يكن معظم حواريي يسوع الاثني عشر متزوجين. ولا يوجد لدينا في الأناجيل الأربعة دليل إلا على زواج بطرس، أما البقية فوضعهم العائلي مجهول. وفيما يتعلق بالمقطع الذي استشهد به المؤلفون من إنجيل متى، فقد قدموا لنا نصفه الأول وتركوا النصف الثاني الذي يحض على العزوبية لمن شاء من الرجال وقدر عليها. فقد قال له سائلوه بعد أن سمعوا جوابه: «فلماذا أوصى موسى أن يعطى كتاب طلاق فتطلق؟ قال لهم: إن موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولكن من البدء لم يكن هكذا. وأقول لكم: إن من طلق امرأته إلا بسبب الزنى وتزوج بأخرى يزني، والذي يتزوج بمطلقة يزني.» وهنا سأله تلاميذه عما إذا كان من المستحسن والحالة هذه الامتناع عن الزواج: «إن كان هكذا أمر الرجل من المرأة، فلا يوافق أن يتزوج!» فقال لهم بأن الامتناع عن الزواج وقف على الخاصة الذين نذروا أنفسهم لخدمة الرب: «ليس الجميع يقبلون هذا الكلام بل الذين أعطي لهم. لأنه يوجد خصيان ولدوا هكذا من بطون أمهاتهم، ويوجد خصيان خصاهم الناس، ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله. من شاء أن يقبل فليقبل» (متى، 19: 3-12). ويجب أن نلاحظ فيما يتعلق بجواب يسوع الأخير المتعلق بالاختيار الحر للعزوبية، أنه موجه إلى التلاميذ لا إلى سائليه من اليهود. وهذا يعني أنه يقر هنا شريعة مسيحية لأتباعه. فإذا كان هذا ما شرعه يسوع لأتباعه، أفلا يكون المشرع نفسه أولى باتباع شرعته؟ (2) دلائل على زواج يسوع
يقول المؤلفون: إذا كان يسوع لم يأمر بالعزوبية فليس لدينا مبرر للافتراض بأنه كان أعزب. وطبقا للتقاليد اليهودية في ذلك الزمن لم يكن الزواج مستحبا فقط وإنما كان إلزاميا تقريبا، وكان مفروضا على الأب أن يجد زوجة لابنه مثلما كان مفروضا عليه أن يختنه. وفي الحقيقة فإن عدم وجود إشارة واضحة في الأناجيل إلى عزوبية يسوع يدل بقوة على أنه كان متزوجا، وأنه قد التزم بثقافة وأعراف زمانه. ولو أن يسوع بقي أعزب إلى ما بعد سن الثلاثين لكان موضع نقد واستهجان ولأدى ذلك إلى عزله اجتماعيا باعتباره خارجا على الأعراف الدينية والاجتماعية.
الرد
في الرد على الشق الأول من هذا الطرح، أقول بأن يسوع قد حبب العزوبية إلى المختارين من جماعته عندما قال في المقتبس الذي أوردناه عن متى: «يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت الله من شاء أن يقبل فليقبل (وورد في الترجمة الكاثوليكية: فمن استطاع أن يفهم فليفهم)» (متى، 9: 12). أما في الرد على الشق الثاني، فأقول: إنه في أيام يسوع كان خاصة اليهود موزعين في ثلاث طوائف رئيسية وصف لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس بدقة اختلافها في المعتقدات والممارسات، وهم: الصدوقيون، والفريسيون، والأسينيون. وكانت الطهارة الجنسية والعزوف عن الزواج من القواعد الأساسية التي يتوجب على الأسينيين الالتزام بها. وهذا يعني أن قسما لا يستهان به من اليهود كانوا عازفين عن الزواج والعلاقات الجنسية أيام يسوع، وأن العفة الجنسية كانت أمرا عاديا وغير مستهجن لدى قطاعات من المجتمع، فلماذا تكون حالة يسوع وحده استثناء من القاعدة، ولماذا يجب أن يكون يسوع وحده مستهجنا بسبب عزوبيته؟ يضاف إلى ذلك أن العديد من الباحثين في مخطوطات البحر الميت التي تركتها لنا الطائفة الأسينية قد وجدوا الكثير من أوجه الشبه بين تعاليم يسوع والتعاليم الأسينية، ووصل بعضهم حد القول بأن يسوع ربما كان أسينيا قبل أن يخرج عن الطائفة ويختط لنفسه نهجا خاصا. (3) عرس قانا باعتباره عرس يسوع
يقول المؤلفون: في الإنجيل الرابع هنالك قصة عرس تجري في بلدة قانا الجليل ربما كانت قصة عرس يسوع نفسه. فللوهلة الأولى يبدو أننا أمام حفلة عرس محلية بسيطة يبقى فيها العريس والعروس مجهولين. ولكن بعض التفاصيل الصغيرة في هذه الحفلة تطرح أسئلة تستحق التوقف عندها. فلقد دعي يسوع إلى الحفلة على الرغم من أنه لم يكن بعد قد باشر دعوته العلنية، وكانت أمه هناك دون أن يوضح لنا المؤلف السبب في ذلك. وعندما نفدت الخمر أمرت مريم ابنها أن يتصرف كما لو أنها كانت هي المضيفة: «ولما فرغت الخمر قالت أم يسوع له: ليس لهم خمر! فأجابها: ما لي ولك يا امرأة، لم تأت ساعتي بعد.» لكن مريم تتغاضى عن احتجاج ابنها برباطة جأش وتقول للخدم: «مهما قال لكم فافعلوه. فيمتثل الخدم لأوامرها كأنهم معتادون على ذلك منها ومن يسوع. وهكذا تفلح مريم على الرغم من محاولة يسوع المزعومة لرفض سلطتها، وينجز يسوع أولى معجزاته وهي تحويل الماء إلى خمر، على الرغم من أنه لم يكن بعد قد أظهر قدراته الخارقة، ولم يكن لدى مريم سبب يدعوها للافتراض بامتلاك يسوع لمثل هذه القدرات. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا كان على ضيفين في زفاف أن يكونا معنيين بمسألة نفاد الخمر على الرغم من أن تلك المسئولية تقع عادة على عاتق صاحب الدعوة، ما لم يكن عرس قانا هو حفل زفاف يسوع نفسه؟ وفي هذه الحالة فقط يكون هو المسئول عن إعادة ملء أوعية الخمر التي نفدت. وهناك دليل آخر على أن عرس قانا كان في واقع الأمر هو عرس يسوع نفسه. فبعد اجتراح معجزة تحويل الماء إلى خمر قال مشرف الحفلات الذي يدير شئون الضيافة في العرس للعريس: كل إنسان إنما يأتي بالخمر الجيدة أولا، فإذا سكروا يأتي بالتي هي دونها في الجودة، أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.» هذه الكلمات تبدو موجهة بشكل واضح إلى يسوع باعتباره العريس.
الرد
Bog aan la aqoon