9
أما تلاميذ زينون الذين ترأسوا المدرسة الرواقية على التوالي، فقد جاء معظمهم من آسيا الصغرى وبشكل خاص من منطقة كيليكيا على البحر المتوسط، وجاء بعضهم من سوريا. فقد ترأس الرواقية بعد زينون مباشرة تلميذه أراتوس من مدينة صولي القريبة من طرسوس عاصمة كيليكيا (315-240ق.م.)، ومن أشهر مؤلفاته كتاب الظواهر
الذي درس فيه أحوال الفلك، وعقد صلة لا تنفصم عراها بين الرواقية وأحوال السماء. وقد عاصر أراتوس واحدا من حلقة زينون يدعى آثينودوريوس وهو من مدينة صولي أيضا. ومن صولي جاء كريسبوس (280-207ق.م.) الذي قدم أول عرض منهجي للمذهب الرواقي. تلاه زينون من طرسوس، ثم سلوقس من منطقة الدجلة، ثم ديوجين البابلي، ثم انتيباتر من طرسوس واثنان من تلامذته الطرسوسيين أرخيديمس وهيراكليد، ثم بوسيدونيوس السوري الذي يوصف بأنه واحد من أهم المفكرين في التاريخ القديم، وكان أستاذا للكاتب الروماني الشهير شيشرون، ثم آثينودوريوس الكبير وأثينودوريوس الصغير وكلاهما من طرسوس، وقد عاصر الصغير الإمبراطور أوغسطس (27ق.م-14م) الذي تعلم على يديه، ثم صار حاكما لمدينة طرسوس، وتلاه في حكمها بعد ذلك رواقي آخر يدعى نسطور، وبذلك تحقق حلم أفلاطون في دولة يحكمها الفلاسفة.
10
لقد قاد اهتمام الرواقيين المتأخرين بعلم الفلك والتنجيم وإيمانهم بالقدر الذي يتحكم بكل الحوادث، إلى التبشير بنوع من العقيدة الكوكبية التي ترى أن الأجرام السماوية هي كائنات إلهية، ولكن الإله الحق الأعلى هو العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني، على حد قول كريسبوس. هذا العقل الشمولي يدعوه بوسيدونبوس السوري بالحنان الكوني الذي يجمع أجزاء العالم في وحدة لا تنفصم. ومن ناحية أخرى فقد أكد رواقيون آخرون على ألوهية الشمس واعتبروها بمثابة سيد الكون والمبدأ الناظم له. وعلى حد وصف الكاتب الروماني بليني لهذه العقيدة: «في الوسط تتحرك الشمس التي تفوق الجميع في الحجم والطاقة، وهي التي تنظم الفصول وحركة بقية النجوم في السماء، وعلى هذا يجب الاعتقاد بأنها روح الكون أو عقله.» ويقول شيسترون وهو أحد مصادرنا الرئيسية عن الرواقية المتأخرة في كتابه «حلم سكيبيو» ما يلي: «إن فلك النجوم الثابتة هو الحاوي على كل شيء وهو الإله الأعلى، وتحته سبعة أفلاك تتحرك في اتجاه معاكس لحركته. في وسط هذه الأفلاك هنالك الشمس سيدة الأنوار كلها، وهي العقل والمبدأ المتحكم بالكون.» «في هذه الصياغات المتعددة للعقيدة الرواقية المتأخرة، نجد أنفسنا أمام ألوهتين رئيسيتين توصف كل منهما بأنها حاكمة الكون وناظمته. فمن جهة هنالك «العقل الذي يتخلل الفراغ الكوني» أو «الحنان الكوني» أو «فلك النجوم الثابتة»، ومن جهة أخرى هناك «الشمس حاكمة العالم». ونحن لا نستطيع التوفيق بين هاتين الألوهتين إلا إذا اعتبرناهما ألوهة واحدة من حيث الجوهر، وأن إحداهما وهي الشمس قد صدرت عن الأخرى، على طريقة الأفلاطونية المحدثة، وصارت صورتها المرئية في العالم وقوتها الفاعلة فيه.»
11 (6) ميثرا والميثروية
خلال القرن الأول قبل الميلاد وفي الموطن الأصلي للفلسفة الرواقية (كيليكيا)، إبان عهد المملكة الفارسية التي أسسها ميثراديتس السادس في منطقة البنط وضمت إليها أجزاء واسعة من آسيا الصغرى، ظهرت في كيليكيا عبادة جديدة انتشرت في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية، من البحر الأسود إلى اسكتلندا غربا وإلى الصحراء الأفريقية الكبرى جنوبا. تركزت هذه العبادة حول إله قادم من إيران يدعى ميثرا. وتقول أسطورته الأصلية إنه ولد تحت شجرة تنمو قرب مجرى مائي؛ حيث انبثق من صخرة على هيئة طفل عار يحمل بإحدى يديه مشعلا يدل على أصله الشمسي،
12 (قارن مع ولادة عيسى في القرآن الكريم عند جذع نخلة يتدفق تحتها سريا، أي مجرى مائيا؛ مريم: 22-23).
وقد تمت مطابقة ميثرا مع إله الشمس الكلاسيكي هيليوس في صيغته الأخيرة باعتباره الشمس التي لا تقهر، وانتزع منه لقب «سول إنفيكتوس». ويعبر الفن المصور الميثروي عن هذه المطابقة في العديد من المنقوشات التي يظهر فيها الإلهان وهما يتصافحان بمودة. كما يعبر الفن المصور عن دور ميثرا كحاكم شمسي للكون بطرق شتى، فنجده أحيانا منبثقا من صخرة الميلاد وهو يحمل بيده كرة الكون، أو على هيئة شاب عار يحمل بيده اليسرى كرة الكون وباليمنى يسند دائرة الأبراج السماوية. وفي المشهد التقليدي لميثرا وهو يضحي بالثور السماوي نجد عباءته الشرقية منفتحة وراءه على هيئة قبة ترتسم عليها نجوم السماء وأبراجها، وقد يوضع هذا المشهد ضمن دائرة الأبراج، الأمر الذي يشير إلى الرمزية الكونية لمشهد القربان وصلته بالنظام السماوي. على أن ميثرا ما لبث حتى تحول تحت تأثير المفاهيم الرواقية المتأخرة إلى فكرة مجردة عن الألوهة المطلقة الخافية التي تتصل بالعالم عن طريق وسيط إلهي أدنى هو الشمس: العقل المدبر للكون وحاكمه المباشر. وهنا يعبر الفن المصور عن هذه العلاقة الجديدة من خلال مشاهد نجد فيها هيليوس راكعا أمام ميثرا الذي يضع يده على رأسه في حركة تدل على منحه لقبا وتخويله سلطانا.
13
Bog aan la aqoon