أما سبتيموس سيفيروس الذي انتقلت إليه من زوجته هذه الرؤية الدينية العالمية، فقد تأثر بعبادة شمولية أخرى هي عبادة الإله سيرابيس التي نشأت في مصر منذ أوائل عصر البطالمة الذين حاولوا أن يجمعوا في شخصه آلهة الشرق والغرب معا وتلتقي عنده خصائص الآلهة طرا، وهذا ما أسبغ عليه لقب بانثيوس، أي كل الآلهة. وقد انتقل هذا الإله إلى روما وطمحت عبادته لأن تكون عبادة أممية تجمع شعوب الإمبراطورية حول إيمان واحد، وكان عدد من الأباطرة الرومان ميالين إلى هذه العبادة مشجعين على انتشارها، وبينهم كاليجولا وتيتس وفيسبازيان. وتروي أخبار فيسبازيان أنه كان يشفي حالات العمى بقوة إلهه سيرابيس.
4
عندما ورث كركلا ابن جوليا دومنا عرش أبيه حافظ على عبادة سيرابيس، ولكنه بتأثير أمه طابق بينه وبين إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي كان إله الشمس السوري يختفي وراءه. وتظهر على نقوش كركلا الهالة المشرقة للشمس ورمزها التقليدي الآخر وهو الأسد، ويظهر القيصر وهو يرفع يده اليمني مشيرا إلى الشمس. في عهد كركلا لم يكن لإله الشمس اسم يدل على منشئه، غير أن أحدا لم يشك في أنه إله الشمس الحمصي لأن الأم كانت حمصية الأصل ومن نسب أسرة كهنة إيلاجا بال. ولكن هذا الإله أسفر عن وجهه السوري بعد اغتيال كركلا، عندما رفعت الفرق العسكرية المرابطة في سوريا إلى المنصب الإمبراطوري الفتى باسيان حفيد جوليا ميسا الأخت الصغرى لجوليا دومنا، والذي أطلق عليه اسم جده الكاهن باسيان وكان وريثه في منصب كاهن الشمس.
وصل باسيان إلى روما بزيه الكهنوتي الشرقي، ولم يرتد بعد ذلك الزي الروماني إلا مكرها وفي مناسبات قليلة. بعد استقراره في العاصمة تفرغ باسيان لخدمة إلهه إيلاجا بال والتبشير بديانته، فاستقدم الحجر الأسود من حمص وبنى له معبدا في روما، وراح يقود بنفسه وبصفته الكاهن الأعلى طقوس المعبد، ويرقص حول المحاريب على ألحان الجوقات المؤلفة من نساء سوريات وإيقاع الطبول والصنوج. وكان من بين مشاهدي هذه الطقوس كبار أعضاء مجلس الشيوخ وطبقة الفرسان، وكان ذوو المناصب العليا في الدولة يشاركون فيها.
لقد كان باسيان تحت تأثير التصورات الدينية لوطنه، وكل ما حرك عواطفه كان له أصل في الطقوس السورية أو الشرقية بشكل عام، وهو يظهر فيما وصلنا إليه من صور على هيئة شاب بوجه ناعم وشفتين ممتلئتين ونظرة عميقة حالمة تعكس استغراقا في التأملات الصوفية. غير أن جهود القيصر الكاهن لم تتوقف عند عرض الطقوس الشرقية الغريبة على الطبع الروماني، بل كان همه يتجه بشكل أساسي إلى نشر ديانة الشمس ورفع إلهها ربا أوحد للإمبراطورية الرومانية. وخلال ثلاث سنوات فيما بين 220 و222م، بذل القيصر السوري كل جهد تبشيري ممكن، إلا أن سعيه آل إلى الفشل وتخلى عنه في النهاية كل نصير، حتى إن جدته جوليا ميسا نصحته بالاعتزال والتنازل عن صلاحياته تدريجيا لألكسيان ابن ابنتها الثانية جوليا ممايا. وفي إحدى الليالي من شهر آذار عام 222م هاجمه الجنود وقتلوه في قصره مع أمه، ونودي بألكسيان آخر أفراد الأسرة السورية إمبراطورا تحت اسم أليكسندر سيفيروس. أما القيصر القتيل فقد خلده التاريخ تحت اسم إلهه ودعاه إيلاجا بال.
بعد وفاة إيلاجا بال وانهيار مشروعه كان على ديانة الشمس السورية أن تسلك طرقا غير مباشرة في التبشير. وقد تمحورت جهودها أخيرا في اتجاهين معتمدة على الرواية الأدبية والفلسفة الأفلاطونية المحدثة. (2) هيليودور الحمصي
كان هيليودور الحمصي من الأدباء البارزين في أواسط القرن الثالث الميلادي، وقد كتب رواية عنوانها الإثيوبيكا (أي الإثيوبية) لقيت انتشارا واسعا في العالم الروماني، ثم ابتعثت مجددا في العصور الحديثة ولقيت تقديرا كبيرا بين مثقفي عصر النهضة الأوروبية وعصر الباروك، وكانت محل إعجاب كل من رفائيل، وتاسو، وسيرفانتس، وكالديرون، وشكسبير، وراسين. تعود هذه الرواية إلى الفترة التي تلت مباشرة سقوط الإمبراطور إيلاجا بال، أي إلى زمن كان الإله الحمصي فيه معروفا للقارئ، وتدور أحداثها بين مصر وإثيوبيا، ويلعب الدور الرئيسي فيها إله الشمس الكلاسيكي هيليوس الذي لا يربطه الكاتب بمكان معين، فهو الإله المطلق الذي يعبر عن حضوره في العالم من خلال قرص الشمس الذي يشرف من عليائه على كل الأقطار، وبذلك يخرج هيليودور إلهه من معبده ومن حجره الأسود في حمص ويبشر به إلها كونيا. وفي نهاية الرواية فإن القارئ الذي مال قلبه إلى هذا الإله لكونه أنقى الآلهة، ولما سمع عن أعماله وانتشار عبادته إلى بلاد الإثيوبيين، يفاجأ بأن إله الرواية هو الإله الحمصي. عندما يشير المؤلف في النهاية إلى أنه مواطن حمصي ينتمي إلى أسرة هيليوس. لقد حفظ هيليودور هذه المفاجأة لآخر القصة، وهي خدعة فنية ماهرة ومؤثرة، ولكنها تدل على ما تركه تهور الإمبراطور السوري الشاب من آثار سلبية دعت إلى توخي الحذر في الدعوة إلى الإله الحمصي القديم في حلته الجديدة.
5 (3) الأفلاطونية المحدثة
على التوازي مع الرواية كان فلاسفة سوريون من تلاميذ أفلوطين الإسكندري مؤسس الفلسفة الأفلاطونية المحدثة (205-270م) يمزجون تعاليم معلمهم مع ديانة إله الشمس السوري التي أخذت بالتقاطع مع الفكر الفلسفي اليوناني إبان فترته الخريفية.
يمثل فكر أفلوطين نهاية التفكير الفلسفي القديم، ويؤذن ببداية تفكير جديد يندمج فيه الدين بالتفكير العقلي إلى أبعد الحدود. يقوم النظام الفلسفي لهذا المعلم الكبير (الذي ما زال فكره فاعلا في الديانات المشرقية) على فكرة تدرج الموجودات هبوطا من المبدأ الأول عبر ثلاث مراتب آخرها مرتبة المادة التي تعتبر أدنى الموجودات. هذا المبدأ الأول يسميه أفلوطين بالواحد الخير، ويندر جدا أن يطلق عليه اسم الله. ونحن إذا أردنا أن ننسب للواحد الخير صفات لما استطعنا وصفه إلا أنه بخلاف كل ما نعلم، لأنه الكمال المطلق بالقياس إلى كل ما عداه. ولأفلوطين في وصف صدور مراتب الوجود عن الواحد صور وتشبيهات مختلفة؛ إنه أشبه بفيض النور عن الشمس، أو فيض الماء عن النبع، أو صدور الأقطار عن مركز الدائرة. والصفة المشتركة بين هذه التشبيهات هي تأكيدها على بقاء المصدر ثابتا مع صدور غيره عنه، واحتفاظه بوحدته الأصلية. وقد كانت أول المراتب صدورا عن الواحد الخير هي مرتبة العقل الذي يرى الواحد من خلاله ذاته؛ وعن العقل فأضحت المرتبة الثانية وهي النفس التي تتصف بطبيعة مزدوجة؛ ففي جانبها الداخلي تتجه إلى أعلى صوب العقل، أما مظهرها الخارجي فيهبط إلى عالم الحسن الذي تكون خالقة له، فهي أصل العالم المادي.
Bog aan la aqoon