وفي الحقيقة فإن تاريخ يوم الميلاد هذا يتعارض مع رواية الميلاد في إنجيل لوقا التي تقول: إن رعاة مبتدين كانوا يحرسون قطعانهم عندما ظهر لهم ملاك الرب وقال لهم إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح (لوقا، 2: 8-11). فالكل يعرف أن شهر ديسمبر ليس الوقت المناسب لخروج الرعاة لرعي قطعانهم؛ لأن السهول في هذا الوقت تكون خالية من العشب والكلأ الصالح للرعي. فلماذا تم التغاضي عن هذا الخبر في النص المقدس، وصرف النظر عن الميلاد الربيعي إلى الميلاد الشتوي الذي يتوافق مع يوم الانقلاب الشتوي في 25 ديسمبر؟ قبل الشروع في الإجابة التفصيلية على هذا السؤال، سوف نلقي نظرة على معنى وأهمية هذا اليوم لدى العديد من الثقافات العالمية.
في القارة الهندية كان هذا اليوم مناسبة احتفالية كبرى قبل قرون عديدة من العصر المسيحي. وفي الصين اعتبر يوم الانقلاب الشتوي مقدسا، وكانت تغلق فيه الحوانيت ويتوقف الناس عن العمل. وفي فارس كانت تقام أفخم الاحتفالات في هذا اليوم الذي اعتبروه عيد ميلاد إله الشمس. وكان المصريون القدماء يعينون يوم حبل الإلهة إيزيس بابنها حوروس في اليوم الأخير من شهر مارس/آذار ويوم ولادتها به في 25 ديسمبر، عندما كان المحتفلون يخرجون من معبد حوروس وهم يحملون صورة الطفل الإلهي مثلما تحمل صورة البامبينو (أي الطفل الوليد) اليوم في روما لتعرض على المحتفلين بميلاد يسوع. وكان عباد الإله أدونيس والإله باخوس خلال العصر الهيلينستي والروماني يحتفلون بميلاد هذين الإلهين في يوم الانقلاب الشتوي. وتقول أسطورة ميلاد أدونيس إنه ولد في مغارة كما ولد يسوع في أناجيل الطفولة المنحولة. وكان للجرمان القدماء احتفال في يوم الانقلاب الشتوي يدعونه احتفال يولي
Yole ، فيه يتم تجديد العهود والمواثيق وتقدم القرابين إلى الآلهة وتشعل النار في جذوع أشجار مقطوعة. وقد بقيت كلمة يولي حتى الآن في اللغة الألمانية للدلالة على عيد ميلاد يسوع. وفي بريطانيا وإيرلندا كان السلتيون القدماء يحتفلون بالانقلاب الشتوي بإشعال الحرائق على رءوس الجبال والمرتفعات. ومن حضارة العالم الجديد في أميريكا لدينا العديد من الشواهد على قدسية يوم الانقلاب الشتوي والاحتفالات الدينية التي كانت تقام في هذا اليوم.
2
على أننا إذا أردنا فهم المؤثرات الثقافية المباشرة الكامنة وراء اختيار الكنيسة ليوم الانقلاب الشتوي باعتباره يوم ميلاد يسوع، علينا تضييق مساحة الخلفية الثقافية ذات الصلة بهذا الموضوع، وحصرها زمنيا في القرون الميلادية الثلاثة الأولى، ومكانيا في الرقعة الممتدة من نهر الفرات السوري شرقا إلى نهر التيبر الإيطالي غربا ومن البحر الأسود شمالا إلى مصر جنوبا. ففي هذا المتصل الزماني المكاني نشأت التصورات الفلسفية والدينية ذات الصلة بموضوعنا. (1) إله الشمس الحمصي
ابتدأ تدفق الآلهة الشرقية على روما منذ دخول القائد الروماني بومبي إلى سوريا عام 66ق.م. ولكن الطبع الروماني المحافظ لم يقبل طقوس الآلهة المستوردة إلا بعد تهذيبه للكثير من أصولها الشرقية وجعلها منسجمة إلى هذا الحد أو ذاك مع الطابع العام للديانة الرومانية التقليدية. في عام 193م وعقب اغتيال الإمبراطور كومودوس، نجح القائد العسكري سبتيموس سيفيروس ذو الأصول الفينيقية الأفريقية في القضاء على اثنين من منافسيه على العرش، ودخل روما منتصرا حيث سلمه مجلس الشيوخ الرداء الأرجواني القيصري، وحل في القصر الإمبراطوري مع زوجته السورية جوليا دومنا ابنة كاهن الشمس في حمص وملكها. وكان سيفيروس قد تزوجها عندما كان قائدا للفيلق العسكري الروماني الرابع المتمركز في سوريا.
كان الحكم في مدينة حمص بأيدي أسرة شمسي غرام العربية الأصل، والتي كان ملوكها يقبضون على زمام السلطة الزمنية والدينية بيد واحدة في ظل نظام حكم ثيوقراطي. ووفق التنظيم الإداري الجديد للمنطقة السورية؛ فقد تم تثبيت أسرة شمسي غرام الحاكمة في حمص تحت سلطة الوالي الروماني المقيم في أنطاكية. خلال الفترة التي نتحدث عنها هنا كانت حمص تحت حكم جوليوس باسيان الكاهن الأكبر لمعبد إله الشمس المدعو إيلاجا بال (=إله الجبل). وقد حافظت عبادة إله الشمس الحمصي على الطابع الأصلي للعبادات السامية التي لم تكن تصور آلهتها في هيئة بشرية تنزيها لها، وإنما ترمز إليها بحجر طبيعي غير منحوت غالبا ما يتخذ شكلا مخروطيا. كان حجر معبد حمص على ما يصفه المؤرخون حجرا أسود لا يزيد ارتفاعه عن ال 60سم، ذا رأس مستدق وقاعدة عريضة، وكان الكهنة يجللونه برداء مزركش صقيل عليه صورة نسر وهو الرمز الشائع للألوهة الشمسية، ويقيمون أمامه الطقوس في قدس أقداس المعبد.
لم يرزق الكاهن باسيان بأولاد ذكور وإنما بابنتين، الأولى جوليا دومنا وهي الكبرى والثانية جوليا ميسا (= ميساء). وقد عمل ما في وسعه ليقدم لابنتيه ثقافة منفتحة جمعت بين الحكمة الشرقية والفلسفة اليونانية، وأوكل إليهما منذ صغرهما خدمة إله الشمس في معبده، وهكذا فقد تشربت جوليا دومنا ديانة إيلا جابال التي ضربت جذورها في أعماق نفسها وزودتها بنظرة شمولية عالمية. فقد كانت عبادة الشمس في حمص عبادة توحيدية، ولكنها لم تكن بالتوحيدية المتعصبة التي لا تعترف بالديانات الأخرى، وإنما توحيدية منفتحة ترى أن كل أشكال العبادة هي طرق تؤدي إلى معرفة الله الحق.
عندما استقرت جوليا دومنا في روما وراحت تشارك زوجها شئون الحكم، أجبرها حسها البراجماتي كإمبراطورة على إخفاء ميولها الدينية، ولكن أفكارها الإنسانية العالمية تبدت في سلوكها العام. فقد راحت تتصل بالأدباء والفلاسفة وأحاطت نفسها بهم، وكان يحضر مجلسها في بيتها الصيفي مفكرون من مختلف الشيع والمدارس الفلسفية. من بين كل هؤلاء كان فيلوسترات هو الصديق المقرب إليها، وقد وضع بإيحاء منها وبالتعاون معها كتابا دعاه «حياة أبولونيوس»، عبر فيه عن أفكار جوليا دومنا في احترام جميع الأديان، والنظر إليها كصيغ فكرية تسعى إلى غاية واحدة.
3
Bog aan la aqoon