في هذه الرواية، وأكثر من الروايات الثلاث السابقة، تبدو قضية يسوع بلا أساس يستند إليه بيلاطس في إدانة يسوع. ولم يكن استخدام بيلاطس لقب ملك اليهود في الإشارة إلى يسوع عندما قال: «أتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟» أو «هوذا ملككم» إلا من قبيل السخرية المرة من المسألة برمتها. فلماذا رضخ لضغط اليهود؟ إن كل الظروف المحيطة ببيلاطس في تلك الفترة كانت تدعوه لعدم إصدار حكم إعدام في حق بريء. فلقد اشتكى عليه اليهود أمام المفوض الروماني العام في دمشق بعد المجزرة التي قام بها ضد المحتجين على استيلائه على جزء من أموال الهيكل وصرفها على جر مياه الشرب إلى أورشليم. كما اشتكى عليه السامريون بسبب مجزرة مماثلة، ورفعت هذه الشكاوى إلى القيصر الذي كان يفكر بعزله من منصبه بسبب سوء استخدام السلطة والإفراط في العنف، وبالتالي فإن بيلاطس لم يكن ينقصه شكوى أخرى بإعدام بريء تضاف إلى تلك الشكاوى. ومن الملفت للنظر أنه في نهاية عام 36م (أي بعد عام على إعدام يسوع) استدعي بيلاطس إلى روما لاستجوابه بشأن التهم الموجهة إليه ولم يعد إلى فلسطين بعد ذلك. وفي عيد الفصح من عام 37م تم عزل رئيس الكهنة قيافا من منصبه.
1
فهل كان لإعدام يسوع علاقة بذلك؟
لماذا أدين يسوع؟
بعد أن عرضنا بالتفصيل في البحث السابق كل ما ورد في الروايات الإنجيلية الأربعة عن محاكمة يسوع، والتي بدت مجرد استجواب قصير قاد إلى إصدار حكم لم يكن القاضي نفسه مقتنعا به، هناك سؤالان لا يسعفنا النص بجواب مقنع عليهما. الأول هو لماذا رفعت سلطة الهيكل قضية يسوع إلى بيلاطس بتهمة التحريض السياسي ضد روما، وهي تهمة لم تستطع إثباتها عليه ولم تقدر على حشد الشهود لها؟ والسؤال الثاني هو لماذا رضخ بيلاطس لضغط اليهود بعد أن أعلن مرارا قناعته التامة ببراءته مما يتهمونه به؟ لقد قال بيلاطس لليهود وفق رواية مرقس بعد أن انتهى من استجواب يسوع: «أي شر عمل؟» (مرقس، 15: 14). وقال لهم وفق رواية لوقا: «لم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودوس أيضا» (لوقا، 23: 13). وقال في إنجيل يوحنا: «لم أجد سببا لتجريمه» (يوحنا، 18: 38). وأخيرا: «أخذ ماء وغسل به يديه قدام الجميع قائلا: إني بريء من دم هذا البار » (متى، 27: 24). فلماذا لم يحكم ببراءته بدلا من أن يغسل يديه من دمه، لا سيما وأن سلطة الهيكل لم تفلح في تقديم بينة واحدة على شكاويها المزعومة؟
ثم ما معنى قول اليهود لبيلاطس: «إن أخليت سبيله فلست محبا لقيصر»؟ (يوحنا، 19: 12). لقد أظهر بيلاطس ولاءه لقيصر قبل ذلك بأشهر قليلة، عندما هاجمت شرطته السرية المتظاهرين اليهود الذين خرجوا يحتجون على استيلائه على بعض من أموال خزينة الهيكل لتمويل مشروع لجر مياه الشرب إلى أورشليم، وقتلوا منهم عددا كبيرا. كما ارتكب قبل ذلك مجزرة في مقاطعة السامرة. فقد كان السامريون ينتظرون شخصية مسيحانية يدعونه «الطاحب»، سوف يأتي إلى جبلهم المقدس جزريم ويستخرج منه تابوت العهد المدفون هناك منذ القدم. ثم ظهر رجل ادعى بأنه الطاحب المنتظر فآمن به جمع كبير من الناس الذين توجه بهم إلى جبل جزريم لاستخراج التابوت. ولكن بيلاطس رأى في هذه الحركة بداية فتنة محتملة ووجه إليهم كتيبة من جنده هاجمت التجمع عند جبل جزريم وقتلت منهم عددا كبيرا، ثم قبضت على الطاحب المزيف وأركان دعوته وساقتهم مخفورين إلى بيلاطس الذي حاكمهم وأعدمهم.
1
ومن الملفت للنظر أن القيصر استدعى بيلاطس إلى روما لاستجوابه بشأن التهم التي وجهها إليه اليهود والسامريون بسوء استخدام السلطة والإفراط في العنف. فهل كان لإعدام يسوع علاقة بذلك أيضا؟
ولدينا جملة قالها بيلاطس في إنجيل لوقا بعد أن أعلن قناعته ببراءة يسوع وهي: «أنا أؤدبه وأطلقه» (لوقا، 23: 16). فلماذا لم يحكم عليه بالجلد ويطلقه مثلما فعل أحد خلفائه على كرسي الولاية في حادثة مشابهة؟ وملخص هذه الحادثة التي يرويها لنا المؤرخ يوسيفوس، هو أنه في عام 63 للميلاد وفي عهد الوالي الروماني ألبينوس، ظهر في أورشليم يسوع آخر يدعى يسوع بن حنانيا، راح في عيد المظال يقلد النبي إرميا في تنبؤه على أورشليم بالخراب ويرفع صوته في الهيكل قائلا: الويل لأورشليم والويل لهذا الهيكل. ولما أحست السلطة الدينية بالقلق من هذا الداعية الذي يسلك مثل نبي، قبضت عليه واستجوبته وأشبعته ضربا ثم أطلقته، ولكنه عاد سيرته الأولى . عند ذلك قررت أن ترفع عن نفسها مسئولية أي شغب يمكن أن ينتج في العيد جراء سلوك هذا الرجل، وأحالت القضية إلى الوالي ألبينوس. وعندما استجوبه الوالي بقي صامتا أمامه ولم يجبه بشيء عن أسئلته، تماما مثلما فعل يسوع المسيح قبل ذلك. وأخيرا قرر الوالي أن الشخص الماثل أمامه لا يشكل خطرا على أمن روما، وأطلقه قائلا إن سلوكه ناجم عن عدم سلامة عقله.
2
Bog aan la aqoon