لم يترك يسوع أثرا مكتوبا بل تعاليم شفوية وسيرة حياة، وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وأعماله كما وصلت إليها عن طريق تلامذته المباشرين ممن رافقوه عبر مسيرته التبشيرية القصيرة. وعندما مات معظم أفراد الجيل الذي عاصر يسوع حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، بدت الحاجة ماسة إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه. وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متى ويوحنا. وجميع هذه الأناجيل دونت باليونانية القديمة لغة الثقافة في ذلك العصر.
هنالك إجماع اليوم بين الباحثين في كتاب «العهد الجديد» على أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل وأنه دون نحو عام 70م، أي بعد وفاة يسوع بنحو أربعين سنة؛ يليه إنجيلا متى ولوقا اللذان دونا بين عام 80 وعام 90م، وأخيرا إنجيل يوحنا الذي دون فيما بين عام 100 و110م.
تدعى الأناجيل الثلاثة الأولى (مرقس ومتى ولوقا) بالأناجيل المتشابهة؛ لأنها تعكس وجهة نظر موحدة تقريبا بخصوص حياة يسوع ورسالته، كما تدعى بالإزائية (
Sinoptics ) لأن القصة تسير فيها عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث تستطيع المقارنة بينها عن طريق وضعها إزاء بعضها في أعمدة ثلاثة. أما رواية إنجيل يوحنا فتختلف عن هذه الروايات الثلاث سواء في أحداثها أم في المضمون اللاهوتي لهذه الأحداث.
وقد لاحظ الباحثون أن المادة التي قدمها مرقس تشكل قاسما مشتركا بين متى ولوقا عالجاها على هذه الدرجة أو تلك من التفصيل والإطالة. فقد اتضح من دراسة هذه النصوص الثلاثة أن 59٪ من الكلمات التي استخدمها متى في بناء جمله مأخوذة من لغة مرقس. وكذلك الأمر عند لوقا حيث تبلغ النسبة 55٪ فيما يتعلق بالمادة السردية، ولكنها ترتفع إلى 69٪ فيما يتعلق بأقوال يسوع. وعندما يختلف متى عن لوقا فإن الاثنين يختلفان مع بعضهما البعض، ولم يحدث أنهما اتفقا ضد مرقس. كما ويعتقد الباحثون أن متى ولوقا عندما يختلفان مع مرقس فإنهما يعتمدان في ذلك على مرجع آخر مفترض أشاروا إليه بالحرف
Q ، وهو اختصار للكلمة الألمانية
Quella ، التي تعني المصدر. ويبدو أن هذا المرجع كان عبارة عن مجموعة أقوال حكموية منسوبة ليسوع تشبه مجموعة الأقوال الواردة في إنجيل توما المنحول، الذي اكتشف بين وثائق نجع حمادي بمصر العليا عام 1948م، والذي اقتصر على إيراد 114 قولا ليسوع من غير ربطها بمناسباتها أو التطرق إلى مجريات سيرة يسوع.
وقد عمد بعض الباحثين مؤخرا إلى استخلاص مادة هذا المصدر من الأقوال الواردة عند متى ولوقا والتي لم ترد عند مرقس، واعتبروه بمثابة الإنجيل المفقود، الذي كان بين أيدي أتباع يسوع قبل ظهور الأناجيل السردية التي رسمت سيرة حياة يسوع.
1
هذه الأصالة التي تتمتع بها رواية مرقس خلقت ميلا لدى العديد من الباحثين لاعتمادها كمصدر أكثر مصداقية وقربا إلى واقع الحال عندما تختلف الأناجيل فيما بينها. وسوف أركز فيما يلي على الاختلافات في خاتمة الأناجيل الأربعة بعناصرها الثلاثة، وهي: (1) قيامة يسوع. (2) ظهوراته لتلاميذه. (3) صعوده إلى السماء.
Bog aan la aqoon