التحقيب الزمني لكرازة يسوع
لا تقدم لنا الأناجيل الإزائية تحقيبا زمنيا واضحا للمدة الفاصلة بين أول ظهور علني ليسوع وزيارته الأولى والأخيرة لأورشليم حيث حوكم وصلب. ولكننا نستنتج من سياق الأحداث ومقاطعتها مع المصادر الخارجية، أن الفترة التي نشط فيها يسوع دامت سنة واحدة تقريبا (راجع بحثنا السابق: الإطار التاريخي للإنجيل). وقد دامت زيارته لأورشليم ستة أيام فقط، فقد دخلها في يوم الأحد وصلب في يوم الجمعة أول أيام عيد الفصح اليهودي. وخلال هذه المدة قصد الهيكل في ثلاثة أيام، هي: الأحد والإثنين والثلاثاء؛ حيث كان يعلم ويجادل اليهود ثم يعود للمبيت في قرية بيت عنيا. وهذه المدة القصيرة لم تكن كافية في اعتقادنا لكي يتمكن يسوع من إبلاغ رسالته إلى أهالي أورشليم، مثلما لم تكن كافية لكي ينتبه المجلس اليهودي (السنهدرين) إلى خطورة هذا المبشر الجديد ويتخذ قرارا بتصفيته.
أما إنجيل يوحنا فيمد فترة كرازة يسوع إلى سنتين، ويقدم لنا عددا من العلامات الزمنية نستطيع من خلالها متابعة التحقيب الزمني لحياته التبشيرية. وهذه العلامات عبارة عن أربع زيارات قام بها يسوع لأورشليم في ثلاثة أعياد فصح وفي عيد المظال مرتبة زمنيا وفق ما يلي: (1) فصح أول (2) فصح ثان (3) عيد المظال (4) الفصح الأخير، وخلال هذه الزيارات التي دامت إحداها ثلاثة أشهر، كان يسوع يعلم في الهيكل ويحاور الشيوخ والكتبة والفريسيين وجواسيس الهيكل الذين كان المجلس يدسهم بين الجمهور لكي يوقعوا بيسوع. وهذا التحقيب هو الذي سنتابعه فيما يلي باعتباره الأقرب إلى حقيقة ما جرى.
جاءت زيارة يسوع الأولى لأورشليم بعد وقت قصير من ظهوره العلني وقبل القبض على يوحنا المعمدان: «وانحدر إلى كفر ناحوم بعد ذلك ومعه أمه وإخوته وتلاميذه، وأقاموا هناك أياما ليست كثيرة. وكان فصح اليهود قريبا فصعد يسوع إلى أورشليم، فرأى في الهيكل باعة البقر والغنم والحمام والصيارفة جالسين إلى مناضدهم، فجدل سوطا من حبال وطرد الجميع من الهيكل» (يوحنا، 2: 12-17). على الرغم من أن هذه الزيارة المبكرة ليسوع إلى أورشليم محتملة جدا، إلا أنه من المستبعد أن يكون قد قام بهذا الفعل الاستفزازي الجريء بعد فترة قصيرة من ظهوره العلني، عندما لم تكن شهرته قد ذاعت ولم يكن مستعدا بعد للدخول في مواجهة مباشرة مع السنهدرين. كما أنه من المستبعد أن يكون السنهدرين قد غض الطرف، كما فعل، عن مثل هذا الشغب في الهيكل يقوم به جليلي متحمس لا يعرف أحد عنه شيئا. من هنا نرجح أن هذه الحادثة قد وقعت خلال زيارة عيد المظال، أو الزيارة الأخيرة على ما رواه لنا الإزائيون الثلاثة. وأغلب الظن أن هذا التقديم الزمني للحادثة يرجع إلى اضطراب ذاكرة التلميذ الحبيب الذي كان يملي ذكرياته وهو في نحو التسعين من عمره على يوحنا الشيخ.
على أن زيارته الأولى لأورشليم هذه لم تأت له بما كان يتوقعه، ولم يكن مطمئنا إلى الناس الذين أظهروا ميلا لتعاليمه، لما يعرفه من خبث اليهود ونفاقهم: «ولما كان في أورشليم مدة الفصح آمن باسمه كثير من الناس لما رأوا من الآيات التي يأتي بها (والنص هنا لا يخبرنا عن ماهية هذه الآيات)، لكن يسوع لم يطمئن إليهم لأنه كان يعرفهم كلهم ولا يحتاج إلى من يخبره عن أحد. فقد كان يعلم ما في الإنسان» (يوحنا، 2: 23-25). ومن الأحداث البارزة في هذه الزيارة ذلك الحوار بين يسوع وواحد من الفريسيين اسمه نيقوديمس، تخلله خطاب طويل ليسوع كشف فيه عن جانب مهم من تعاليمه (يوحنا، 3: 1-21). وسوف نلتقي بنيقوديمس هذا مرتين بعد أن صار تلميذا سريا ليسوع. فقد دافع عن يسوع أمام السنهدرين عندما كانوا يدرسون إمكانية التخلص منه في زيارته الثالثة لأورشليم (يوحنا، 7: 50-53). وبعد صلب يسوع عندما جاء التلميذ السري الآخر يوسف الرامي لاستلام جثمان يسوع وكان نيقوديمس معه وشارك في عملية الدفن (يوحنا، 19: 39-40).
بعد ذلك ترك يسوع أورشليم ونزل إلى حوض الأردن مع تلاميذه حيث كان يوحنا يعمد قبل أن يلقى في السجن، فأقام في المنطقة أياما حيث كان يعمد هو أيضا ويجمع حوله التلاميذ (يوحنا، 3: 22-24). ثم قفل عائدا إلى الجليل مرورا بأراضي السامرة. وفي مدينة سيخارة عند البئر جرى الحوار الشهير بينه وبين المرأة السامرية، وقوله لها: «صدقيني يا امرأة إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل (أي جبل جرزيم المقدس عند السامريين) ولا في أورشليم (حيث الهيكل) تسجدون للآب. أنتم تسجدون لما لستم تعلمون أما نحن فنسجد لما نعلم. لأن الخلاص هو آت من اليهود» (يوحنا، 4: 21-23).
لا يذكر لنا مؤلف الإنجيل من أعمال يسوع بعد عودته إلى الجليل من رحلته الأولى إلا شفاءه لابن عامل الملك هيرود أنتيباس بعد أن كان مشرفا على الموت (يوحنا، 4: 43-54). ثم ينتقل بعد ذلك مباشرة للحديث عن رحلته الثانية؛ حيث يقول: «وبعد هذا كان عيد لليهود (وفي بعض الأصول: كان عيد اليهود)، فصعد يسوع إلى أورشليم» (يوحنا، 5: 1). وعلى الرغم من أن المؤلف لم يسم لنا هذا العيد إلا أنه على الأرجح عيد فصح ثان يقصده يسوع ليلتقي بالناس هناك. ومرة أخرى لا نحصل إلا على قصة واحدة مما فعله يسوع في زيارته الثانية؛ فقد شفى رجلا مقعدا منذ ثمان وثلاثين سنة وكان ذلك في يوم السبت. وكأنه كان يتعمد دائما أن يقوم بعمليات الشفاء في يوم السبت الذي لا يحل فيه عمل من أي نوع. وعندما شغب الشعب عليه لاستباحته السبت قال لهم قوله الشهير الذي ينطوي على هزء مبطن من معتقداتهم الجامدة: «إن أبي ما يزال يعمل (في السبت) وأنا أيضا أعمل» (يوحنا، 5: 17). ثم أتبع ذلك بخطبة طويلة نقتبس منها قوله: «من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله الحياة الأبدية ولا يصير إلى الهلاك ... هذه الأعمال الذي أعملها تشهد لي بأن الآب أرسلني ... أنتم لم تسمعوا صوته ولا رأيتم وجهه، فكلامه لا يستقر فيكم لأنكم لا تصدقون من أرسل. تتصفحون الكتب (أي الأسفار التوراتية) تحسبون أن لكم فيها الحياة الأبدية. هي تشهد لي وأنتم لا تريدون المجيء إلي فتكون لكم الحياة» (يوحنا، 5: 19-47). فاشتد سعي اليهود لقتله ولكنه ترك أورشليم وعاد إلى الجليل.
وكما لاحظنا الآن وسنلاحظ فيما بعد، فإن مؤلف إنجيل يوحنا لم يتوقف كثيرا عند معجزات يسوع ولا عند شفائه للمرضى وطرده للشياطين من أجساد الممسوسين، بقدر ما توقف عند أقواله وخطبه الطويلة التي أوضح فيها علاقته المميزة بالآب السماوي ودوره في دراما الخلاص الإنسانية. وهذه الخطب تشغل الجزء الأكبر من إنجيل يوحنا.
بعد عودته إلى الجليل اجترح يسوع معجزة تكثير الخبز والسمك وبعدها معجزة السير على الماء. فقد عبر يسوع بحر الجليل من كفر ناحوم إلى الجهة الأخرى، فتبعه جمع كبير فصعد إلى الجبل وراح يعلمهم. وعندما تأخر الوقت قال يسوع لفيليبس: «من أين نشتري الخبز لنطعمهم؟» فأجابه فيليبس: «لو اشترينا خبزا بمائتي دينار لما كفى أن يحصل الواحد منهم على كسرة صغيرة» وهنا قال أندراوس: «هنا صبي معه خمسة أرغفة من شعير وسمكتان. ولكن ما نفعها لمثل هذا الجمع؟» فقال يسوع: «اجعلوا الناس يقعدون» وكان هناك عشب كثير فقعدوا نحو خمسة آلاف رجل. فأخذ يسوع الخبز وشكر ثم وزع الأرغفة على الحاضرين بقدر ما أرادوا، وفعل الشيء نفسه بالسمكتين، فأكلوا جميعا ولما شبعوا جمع التلاميذ ما زاد عنهم فملأ قفة من الكسر. فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: «حقا إن هذا هو النبي الآتي إلى العالم» وعرف يسوع أنهم يهمون باختطافه ليجعلوه ملكا، فابتعد وانصرف إلى الجبل وحده. ولما جاء المساء ركب التلاميذ السفينة وعادوا إلى كفر ناحوم، وبعدما قطعوا نحو ستة كيلومترات رأوا يسوع وقد أدركهم ماشيا على الماء فخافوا. فقال لهم: أنا هو لا تخافوا. وعندما أرادوا أن يصعدوه إلى القارب وجدوا أن القارب وصل إلى الشاطئ في لمح البصر. وفي الغد تبعه الجمع الذي بات على الشاطئ الآخر بعد المائدة التي أنزلها يسوع من السماء. وهنا قال لهم جملة تفصح عن فهمه لطبيعة انجذاب الجموع إليه، عندما قال لهم بمرارة: «الحق، الحق أقول لكم، أنتم لا تطلبوني لأنكم رأيتم الآيات بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم» وتلا ذلك حوار بين الطرفين نقتبس منه ما يلي: «لا تعملوا للقوت الفاني بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبدية. هذا الخبز يهبه لكم ابن الإنسان لأن الله الآب ختمه بختمه. قالوا له: كيف نعمل ما يريده الله؟ فأجابهم: أن تؤمنوا بمن أرسله. هذا ما يريده الله. فقالوا له: أرنا آية حتى نؤمن بك، ماذا تقدر أن تعمل؟ آباؤنا أكلوا المن في البرية كما جاء في الكتاب. فأجابهم يسوع: الحق، الحق أقول لكم، لم يعطكم موسى خبز السماء بل أبي يعطيكم خبز السماء الحق ... قالوا له: يا سيد أعطنا من هذا الخبز في كل حين. فقال لهم يسوع: أنا خبز الحياة من يأتني لا يجوع أبدا، ومن يؤمن بي لا يعطش ... آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هو ذا الخبز النازل من السماء ليأكل منه الإنسان فلا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء» (6: 1-60). وبهذه الطريقة فقد ألغى يسوع شريعة موسى القديمة باعتبارها شريعة موت، وأسس لشريعة الحياة الجديدة.
زيارة يسوع الثالثة لأورشليم جاءت في عيد المظال الذي يقام في الخريف. وقد دامت هذه الزيارة ثلاثة أشهر وذلك فيما بين شهر تشرين الأول/أكتوبر وشهر كانون الثاني/يناير. وكان اليهود يطلبونه في العيد ويقولون: أين هو. وعندما بلغ العيد أواسطه ظهر يسوع في باحة الهيكل وراح يعلم. فتعجب اليهود وقالوا: كيف يعرف هذا الكتب ولم يتعلم؟ فأجابهم: ليس تعليمي من عندي بل من عند الذي أرسلني. فقال أناس من أورشليم: أليس هذا الذي يطلبون قتله؟ وها هو يتكلم جهارا ولا يقولون له شيئا. في آخر يوم من أيام العيد أرسل الأحبار والفريسيون ثلة من حرس الهيكل للقبض على يسوع، وكان يعلم في الهيكل وبعد أن انتهى صاح بأعلى صوته: من كان عطشان فليأتني ليشرب، ومن آمن بي تفيض من بطنه أنهار ماء حي كما قال الكتاب. فقال بعض الجمع الذين سمعوا كلامه: هذا هو النبي حقا. وقال غيرهم: هذا هو المسيح. وقال آخرون: أمن الجليل يأتي المسيح؟ ألم يقل الكتاب إن المسيح يأتي من نسل داود من بيت لحم؟
Bog aan la aqoon