61 -
وأما نسبته، فإن هذه الصناعة قد يمكن أن تذهب الظنون فيها أنها جزء من صناعة الفلسفة، إذ كان ما تشتمل عليه هذه الصناعة هي أيضا أحد الأشياء الموجودة. لكن هذه الأشياء، وإن كانت أحد الموجودات، فإن هذه الصناعة ليست تنظر فيها ولا تعرفها من جهة ما هي أحد الموجودات، لكن بما هي آلة يقوى بها الإنسان على معرفة الموجودات، كما أن صناعة النحو تشتمل على الألفاظ، والألفاظ أحد الموجودات التي يمكن أن تعقل، لكن صناعة النحو ليست تنظر فيها على أنها أحد الأشياء المعقولة، وإلا فقد كانت تكون صناعة النحو والجملة صناعة علم اللغة تشتمل على المعاني المعقولة وليست كذلك. والألفاظ الدالة وإن كانت أحد الموجودات التي يمكن أن تعقل فإن صناعة النحو ليست تعرفها على أنها معان معقولة، لكن على أنها دالة على المعاني المعقولة، فنأخذها على أنها خارجة عن المعقولات أصلا، إذ كان ليس ننظر فيها من هذه الجهة. فكذلك صناعة المنطقة وإن كان ما تشتمل عليها هي أحد الموجودات فليست ننظر فيها على أنها أحد الموجودات، لكن على أنها آلة نتوصل بها إلى معرفة الموجودات، فنأخذها كأنها شيء آخر خارجة، وعلى أنها آلة لمعرفة الموجودات. فلذلك ليس ينبغي أن يعتقد في هذه الصناعة أنها جزء من صناعة الفلسفة، ولكنها صناعة قائمة بنفسها وليست جزءا لصناعة أخرى، ولا أنها آلة وجزء معا.
62 -
فأما مرتبة هذه الصناعة بحسب قياسها إلى سائر الصنائع فإنها تتقدم جميع الصنائع التي تشتمل عليها صناعة الفلسفة، وبالجملة جميع سائر الصنائع التي شأنها أن تتعلم بقول. ومرتبه الصناعة قد تؤخذ بحسب المقايسة بينها وبين صنائع أخر، وقد تؤخذ بالقياس إلى المتعلمين. وهذه الصنائع التي تستعمل الفكر. وأما بحسب قياسها إلى المتعلمين فإنه قد كادت أن تكون مراتب الصنائع بهذه الجهة غير محدودة. فإنه لا يمتنع أن تكون الصناعة متى قيست بأخرى لزم تقدمها على تلك الأخرى، وإذا قيستا جميعا بالمتعلم كانت المتأخرة منهما أسهل على المتعلم من المتقدمة. فلذلك لما رام قوم تحصيل مرتبة صناعة المنطق وتحصيل مراتب أجزاء الفلسفة وقعت لهم في مراتبها ظنون مختلفة، وكان نظرهم فيها لا بحسب قياس بعضها إلى بعض فقط لكن بحسب قياسها إلى المتعلمين. ولذلك جعل قوم منهم مرتبة هذه الصناعة متأخرة عن كثير من أجزاء الفلسفة، مثال ذلك تقديم من قدم الهندسة على هذه الصناعة.
63 -
Bogga 27