لقد كنت أحسب أن الأربعين إذا بلغتها توفي بي على سن الكمال؛ فإنها السن التي كان الأنبياء يبعثون فيها. ولكني لم أجد في نفسي تبدلا وقد بلغتها؛ فما زلت كما كنت حائرا خائبا أهيم في خيالي، ولا أعرف من أمور الحياة أمرا.
لقد تعودت أن أصارح نفسي ولا أخادعها، وأنظر إلى عيوبي فلا أسترها، ولست أدري كلما تأملت أحوالي، أأبكي أم أضحك منها. لست أحسن في الحياة إلا أن أهيم فيها على وجهي قانعا بما تقع عليه عيناي من مجالي هذا الكون العجيب الذي يهزني بجماله وجلاله. فإذا غمرتني الهزة أنطقتني قائلا: «سبحان ربي!» وأبعد في التأمل حتى أغيب عن وعيي. والناس ينظرون إلي وهم يسعون ويكدون ويتزاحمون على ما أسميه حطام الدنيا، فأراهم يمضون عني ويبسمون سخرا، فأوشك أن أسخر منهم وأضحك من جهالتهم، ولكني أعود سريعا إلى نفسي فأردها عن السخرية؛ فإني لا أدري أأنا خير منهم أم هم خير مني.
وأضيق أحيانا بما ألقاه في مصبحي وممساي، وأنكر ظلم الأحياء، وأمتلئ عليهم بالحنق أحيانا، فإذا ما أذهلتني ضربات الحياة وعثراتها وقفت بين الناس أضحك حتى يتحلقوا حولي ويضحكوا لضحكي. فإذا نطقت بما في قرارة قلبي حسبوا أنني أهرف وأخلط فيزدادون مني ضحكا. أهذا قضاء الله الذي قدره لي؟
لم يهب لي الله ما وهبه لهؤلاء الذين يضطربون في الحياة فيصارعونها، لم يهب لي مالا أسند إليه ظهري، ولا حيلة أكيد بها وأعتمد عليها، ولا جمالا في خلقتي ولا بسطة في قوتي. ولكنه وهب لي قلبا يحس عظمته وجلال خلقه، وكفاني هذا وحسبي!
ولست أملك من دنياي إلا هذه الدار التي خلفها لي أبي من تراث أجدادي، وقد كانت بها حديقة أدركت خضرتها في صباي، ولكنها اليوم صحراء جرداء بلقع؛ فليس بها من آثار الخضرة إلا جذوع كالحة ونخلات شعثاء، وقد تهدمت ساقيتها وكسرت قواديسها وانقطع ثمرها. ومع ذلك فإنني أحبها ولا أرضى أن أبيع منها قيراطا، وحسبي من الحديقة سعتها. بل إنني لست أرضى أن ينقطع دوران الساقية، فلا يزال الثور يدور بها ويعجبني أن أسمع نعيرها إذا صفا الليل وهدأ الكون وسطع البدر؛ فإن صوتها يقع في أذني أشهى من الألحان، وحسبي من ساقيتي نعيرها.
وقد تهدم سور البيت فصار لا يحجب أهل الفضول ولا يمنع الدخيل، ولكن ما ضرني من ذلك والأسوار لا تقام إلا إذا كان صاحبها يخشى على ذهب عنده أو جوهر؟! وأنا بحمد الله ليس عندي منها ما ينغص علي عيشي.
خرجت يوم بلغت الأربعين إلى ظاهر ماهوش لعلني أستوحي في ذلك اليوم ما يحيل جدبي إلى خصب، أو يدخل نورا إلى ظلام القلب. وكان الربيع يخلع على الريف رداءه، وحقول البرسيم الخضراء تتموج تحت أذيال النسيم رطبة يانعة، والفول يملأ الهواء عطرا من نواره الجميل، ومروج القمح كأنها لوحة فنان أبدع في مزج ألوانه فهي زبرجد في ذهب، وحوافي النهر ترقص بما عليها من أعشاب وأزهار. فلو شئت أن أتغنى بما وقعت عيني عليه من الجمال لما أبقيت موضعا لغيره من الحديث. وحسبي أن أقول إنه السحر الساحر، وسبحان مبدع الكائنات. فسرت صامتا وقلبي يثرثر وروحي يحلق حتى بدا لي العالم كله كأنه ذرة على ساحل المحيط، وهانت عندي الحياة وما فيها من هموم صغيرة. حقا ما أصغر هموم الحياة!
كنت أميل إلى العود الضئيل من العشب فأرفعه إلى عيني وأحاول أن أرى ما فيه من جلال الإبداع، فيرتد عنه بصري حسيرا. وأرى الذبابة على العود أو البعوضة فوق الورقة أو النحلة ترف على الزهر فأتأمل الإبداع بعد الإبداع، وأغمض عيني خوف أن يعشيها نور الجلال، فأصيح بغير وعي: «يا ألله!»
ورأيت شجرة جميز على جانب الطريق، وكنت كثيرا ما أستريح فوقها إذا تعبت من طول جولتي؛ وتلك عادة تعودتها منذ صغري؛ فقد طالما كنت أقضي الليل راقدا بين الغصون كأنني بعض الطيور في أوكارها.
وجلست أقلب نظري في الأفق البعيد وفي ظل الشجرة القريب، فما وقع إلا على جليل من المعاني تومض في ومضات كنار الجبل إذ آنسها موسى؛ فلا أكاد أسمو بنظري إلى قبس منها حتى يرتد طرفي كليلا.
Bog aan la aqoon