وأطرقت أفكر في هذا النظام العجيب. فما أغلى هذه الأعلام التي لا يرفع أحدها إلا إذا كان تحته قدر من الذهب. وذهبت بي الأفكار مذاهب شتى في تصور حال جانبولاد، حتى هزني صاحبي وقال لي: «انظر إلى هذا المنزل.» وأشار إلى بيت على يساري، فوجهت نظري إليه فاترا فرأيته قصرا عظيما تلمع جدرانه وتبتسم بساتينه، ورأيت فوقه خمسين علما تخفق في الهواء في مرح وكبرياء. وقال «طوطاط»: «هذا بيت صاحب السيف. كلمة واحدة منه تكفي لأن تطيح الرأس عن الجسد؛ فهو صاحب الأعلام الخمسين، قاضي جانبولاد.»
فاعترتني قشعريرة من سماع هذا القول، وجعلت أفكر في أمري وأمر الناس، وموضعي في هذا البلد الذي تكفي فيه كلمة من صاحب الأعلام الخمسين لأن تطيح الرءوس عن الأجساد. ولكني ما لبثت أن هدأت نفسي؛ فإني جئت إلى جانبولاد لاجئا، ولا ينبغي لي أن أتكلم ولا أن أناقش، فإذا لم تعجبني هذه الحال فباب المدينة مفتوح أستطيع أن أخرج منه إلى حيث شئت. ولم يكن أولى بي من أن أضع لساني بين فكي وأطبق عليه شفتي. وعند ذلك تبين لي ما يعتري الغريب من الذلة، ولو كنت في ماهوش لما رضيت لنفسي إهدار الكرامة؛ فإني كنت هناك أتكلم وأنتقد وأسخر أحيانا، ولم أسمح لأحد أن يكم فمي . ولاحت لي الحياة في ماهوش عند ذلك أحب حياة على الأرض، واشتد حنيني إليها، وأطرقت حزينا أستعيد ذكراها.
ولاحظ صاحبي وجومي وإطراقي، فقال لي: أراك تعبت!
وكنت قد تعبت حقا، فقلت له: صدقت.
فأشار إلى مكان مزدحم في جانب السوق وقال: هلم نسترح قليلا.
فترددت قليلا؛ فما كان ينبغي لي أن أجلس على قارعة الطريق؛ فإن هذا مذهب للمروءة.
ولكن صاحبي مضى في وجهه حتى جلس، وأخذ يصفق بيديه فجلست معه ونظرت حولي أدير عيني في الجلوس، فلم أر فيهم شيئا يستحق التأمل. كانوا جميعا جالسين بعضهم مسترخ في صمت وبعضهم يتخاصم في صخب، فملت على «طوطاط» وقلت له: أليس في المدينة من يرى في هذا النظام رأيا؟
فقال في دهشة: ماذا تعني؟
فقلت: أعني أن جانبولاد مدينة عظيمة، وفيها خلق كثير لا أعلام لهم ولا ريش. فما حظ هؤلاء منها؟
فقال في بساطة: من تقصد؟ هؤلاء العامة؟
Bog aan la aqoon