لو كنت لا أعاني إلا ما يجره عليه طبعي لهان الأمر عندي، ولكني كلما تلفت إلى ما مضى وما حضر من أيامي لم أجد إلا أحمالا حملتها لم يكن لي وزر فيها. كانت كلها أحمالا ألقيت على كاهلي إلقاء؛ لأنني لم أقو على ردها عن عاتقي.
وقد شبهت نفسي بصديقي العزيز «البطل الصامت» الذي يسميه الناس «حماري»؛ فهو يقضي كل حياته يحمل أحمالا ليس له في حملها مصلحة، ويقطع عمره في جهد قاطع متصل لا يصيب منه لنفسه خيرا.
لقد تعود الناس أن يسب بعضهم بعضا بوصف الحمار؛ ولهذا فلست أرضى أن أشارك الناس في سوء الأدب، فلا أسمي ذلك الحمار إلا «البطل الصامت»؛ فهذا ما يقتضيه العدل مني. والناس يعجبون مني إذا سميته كذلك ويضحكون ويسخرون ويحسبون أنني أريد أن أسوق إليهم فكاهة. يا للغباء! ولكن ما ضرني إذا هم ضحكوا وسخروا؟ فلعل هذا يدخل إلى قلوبهم شيئا من السعادة البلهاء.
إن صديقي البطل الصامت أكرم عندي من كثير من هؤلاء الذين يحملونه أحمالهم ولا يتورعون عن إلحاق الأذى به ضربا ووخزا وشتما؛ وهو مع ذلك يبذل جهده صامتا صابرا قويا، حتى إذا ما تهدم وخارت قواه برك على الأرض، وتجلد على الضرب القاسي. وهؤلاء الجيران لا يزالون كل يوم يقصدونني لكي يستعيروا مني صديقي ليحمل لهم أحمالهم، فأخجل أن أردهم، فأذهب إليه أسأله عن رأيه، فإذا بهم يضحكون مني ويحسبون أنني أمازحهم، فإذا ما رأيته صامتا لا يجيب أذنت لهم به نائبا عنه؛ فإني أعرفه صديقا كريما. ولست أظن أنني خير منه حالا؛ فإن جيراني يأتون إلي في كل يوم يسألونني أنا أن أحمل لهم أحمالهم، فلا فرق بيني وبين البطل الصامت، إلا أنني أحمل أشياء من صنف آخر غير ما يحمل. ولا أذكر يوما أن جاءني واحد منهم ليؤدي ما عليه من دين، أو ليتطوع بإحسان أو مواساة. ووالله لو تطوعوا بالإحسان إلي لما رضيت منهم إحسانا؛ فإن نفسي تأنف أن تكون يدي السفلى.
ولكني أصف الحال كما هي، وأفضي إلى هذه الكراسة بما في نفسي.
قد يكون لي على بعضهم دين فأحتاج إليه وأسعى في طلب الوفاء، حتى لا أكلف المدين مشقة السير إلى داري، فإذا عثرت عليه يوما أزاغ بصره عني كأنه لم يرني.
كانت لي عند الشيخ عماد الدين أمانة من مالي أقرضته إياها في أيام محنته، فلما عادت إليه الدنيا قلت في نفسي إن هذه فرصة لي وأنا أقاسي مر الحياة وضيقها. فلما ذهبت إليه عثرت عليه في حلقة من الناس يلقي عليهم درسا. فما وقعت عينه علي حتى أخذ يهز لحيته في عنف ويبربر كما يبربر الأسد.
ومضت ساعة حتى فرغ الشيخ من درسه، ولكن بقي حيث كان حتى أتت طائفة أخرى فتحلقت حوله. وكان الشيخ ممن يعتقد الناس فيه، فكانوا يذهبون إليه طلبا للبركة وإن لم يأخذوا علما.
فلما طال بي الانتظار ضقت ذرعا وثارت نفسي، وكنت أسمع حديثه على مضض ولا أفهم منه حرفا؛ فقد كان الرجل يلقي هراء.
ورأيت بقائي عنده سفها؛ فإن ساعة أقضيها في ضوء الشمس أجدى علي وأشرح لصدري. وثار غضبي فصحت قائلا: يا سيدي الشيخ.
Bog aan la aqoon