18

Al-Wajiz fi Fiqh al-Imam al-Shafi'i

الوجيز في فقه الإمام الشافعي

Baare

علي معوض وعادل عبد الموجود

Daabacaha

شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

1418 AH

Goobta Daabacaadda

بيروت

لُقْمَةٌ، وتعدَّى إلى ضعف القُوَى؛ حتى قَطَع الأطبّاءِ طَمَعَهُمْ من العلاج، وقالوا: هذا أمْرٌ نزل بالقلب، ومنه سَرَى إلى المِزَاجِ، فلا سبيلَ إلَيْهِ بالعلاج، إلا بأن يتروَّحَ السِّرُّ عن الهَمِّ المُلِمِّ. ثم لما أحسستُ بِعَجْزِي، وسقَطَ بالكَلِيَّة اختياري، التجأتُ إلى الله - تعالى - الْتِجَاءَ المضطَرِّ الذي لا حِيلَةَ له، فأجابَني الذي يجيب المضطَرَّ؛ إذا دعاه، وسَهَّلَ عَلَى قلبى الإغْرَاضَ عن الجاهِ، والمالِ، والأولادِ، والأصحاب، وأظهرتُ عزْمَ الخروج إلى ((مَكّة))، وأنا أدبّر في نفْسِي سفَر الشَّام؛ حذراً من أن يَطَّلِعَ الخليفَةُ، وجملةُ الأصحابِ على عَزْمَي في المُقَامِ بِالشَّام.

فتلطَّتُ بلَطَائفِ الحَيَلِ في الخروجِ من ((بَغْدَاد)) على عَزْمٍ ألاَّ أعاودَهَا أبداً، واستهدفْتُ لأثمَّة أهل ((العراقِ)) كافَّة، إذْ لم يَكُنْ فيهم من يجوز أن يكونُ الإعراضُ عمَّا كنت فيه سبباً دينيّاً، إذ ظَنُّوا أن ذلك هو المنْصِبُ الأعلَى في الدِّين، وكان ذلك مَبْلَغَهُمْ من العِلْمِ.

ثم آرْتَبَكَ الناسُ في الاستثباطَاتِ، وظَنَّ مَنْ بَعُدَ ((العراق))؛ أن ذلك كان لاستشعار من جهة الوُّلاَةِ، وأمَّا من قَرُبَ من الوُّلاَةِ، فكان يشاهد إلحاحَهُم في التعلُّقِ بي، والانكبابِ علَيّ، وإعراضِي عنهم، وعن الالتفاتِ إلَى قولهم، فيقولُونَ: هذا أَمْرٌ سماوىّ، وليس له سَبَبٌ إلا عَيْنٌ أصابت أهْلَ الإسْلام، وزُمْرَة العِلْمِ.

ففارقْتُ ((بَغْدَاد)) وفَرَّقْتُ ما كان معي من المالِ، ولم أدَّخِرْ إلا قَدْرَ الكَفَافِ، وقوتَ الأطفالِ؛ ترخُّصاً بأن مَالَ ((العراق)) مرصدٌ للمصالِحِ، لكونِهِ وَقفاً على المسلمين، فلم أرَ في العالَمِ مالاً يأخذه العالِمُ لعيالِهِ أصلَحَ منه)) وهكذا رحل الإمَامُ الغزّاليُّ من ((بَغْدَاد))؛ كما وصفها بنفسه من كتابه العظيم ((المُنْقِذِ من الضَّلال))، وانتقلَ بعد ذلك من مكانٍ إلَى آخر، لا يدفَعُه إلا البَحْثُ عن الحقيقة واليقين، والوصول إلى اللَّه الذي كان غايَتَهُ الأُولَى، وكم جاهَدَ - رحمه الله - فيْ سَبِيلِ تحقيقِ هذه الغايَةِ.

رِحْلَتُهُ إِلَى «دمَشْقَ»:

رحلَ الغزَّالِيُّ إلى الشام وأقام بها سنَتَيْنٍ، ولم يكن له همّ سوَى العبادة والتأمُّل والخَلْوَةِ وتَصْفِيَة القلبِ بذكْرِ اللَّهِ - عز وجل -، والرياضةِ والمجاهدةِ.

وكان يعتكفُ في مسْجِد ((دِمَشْق»، ويصعد منَارَةَ المَسْجِد طولَ النَّهار، ويغلق بابَها على نَفْسِهِ، وقد سُمِّيَتْ تلك المنارةُ فيما بعد بِالمَنَارَةِ الغَزَّالِيَّةِ.

وحكى السُّبْكِيُّ في ((طبقات الشَّافِعِيَّةِ)) أن الغزّاليَّ كان يكثر الجلوسَ في زاوية الشَّيْخِ نَصْرٍ المَقْدِسي، بالجامع الأموي المعروفة اليَوْم بالغَزَّلِيَّة نسْبةً إليه، وكانتْ تُعْرَفُ قبله بالشَّيْخِ نَصْرٍ المَقْدِسِيِّ.

ويُرْوَى أيضاً أنَّ الغَزَّالِيَّ جلَسَ، يوماً في صَحْن الجامع الأمويِّ، وجماعةٌ من المفتينَ يتمشُّون في الصَّحْن، وإذا بقَرَوِيٍّ أتاهم مستفتياً، ولم يَرُدُّوا عليه جواباً، والغَزَّاليُّ يتأمَّل، فلما رأى الغزّاليُّ أنه لا أحَدَ عنده جوابُهُ، ويعزُّ عليه عَدَمُ إرشادِهِ، دعاه، وأجابه.

18