Al-Wajeez fi Iydah Qawaid al-Fiqh al-Kulliyah
الوجيز في إيضاح قواعد الفقة الكلية
Daabacaha
مؤسسة الرسالة العالمية
Lambarka Daabacaadda
الرابعة
Sanadka Daabacaadda
١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م
Goobta Daabacaadda
بيروت - لبنان
Noocyada
بسم الله الرحمن الرحيم.
اسم الكتاب:
الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية.
تأليف الشيخ الدكتور:
محمد صدقي بن أحمد بن محمد البورنو أبي الحارث الغزي.
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين.
مؤسسة الرسالة.
(المجلد الأول) .
Bog aan la aqoon
-- القسم الأول:
-- المقدمات والمبادئ
1 / 12
-- المقدمة الأولى:
-- معنى القواعد الفقهية والتعريف بها:
١. المعنى اللغوي للقواعد:
القواعد جمع قاعدة، ومعنى القاعدة: أصل الأُس، وأساس البناء والقواعد الإساس، وقواعد البيت إسَاسُه، ومنه قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبَّل منا) . البقرة، آية (١٢٧) .
ومنه قوله تعالى: (فأتى الله بنيانَهم من القواعد) . النحل، آية (٢٦) .
قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله تُرّكب عيدان الهودج فيها.
قال أبو عبيد: قواعد السحاب أصولها المعترضة في آفاق السماء، شُبهت بقواعد البناء.
قال ابن الأثير: أراد بالقواعد ما اعترض منها وسفل تشبيهًا بقواعد البناء.
1 / 13
قال ذلك في بيان حديث رسول الله ﷺ حين سأل عن سحابة مرَّت فقال: كيف ترون قواعدها وبواسقها. وقالوا في المرأة التي قعدت عن الحيض والأزواج قاعد والجمع قواعد، ومنه قوله تعالى: (والقواعد من النساء التي لا يرجون نِكاحًا) . النور، آية (٦٠) .
ومن معاني القاعدة في اللغة: الضابط وهو: الأمر الكلي ينطبق على جزئيات، مثل قولهم: كل أذون ولود وكل صموخ بيوض.
٢. المعنى الاصطلاحي للقاعدة:
وأما معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي فقد اختلف الفقهاء في تعريفها بناء على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ فمن نظر إلى أن القاعدة هي قضية كلية عرَّفها بما يدل على ذلك حيث قالوا في تعريفها: القاعدة هي:
١. قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها.
٢. قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها.
٣. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه.
1 / 14
٤. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف به أحكام الجزئيات والتي تندرج تحتها من الحكم الكلي.
٥. الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه.
٦. أمر كلي منطبق على جزئيات موضوعه.
٧. عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها.
٨. هي القضايا الكلية التي تعرف بالنظر فيها قضايا جزئية.
٩. قضية كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعها.
١٠. أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
١١. أصول ومبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكامًا تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
وهذه التعريفات كلها متقاربة تؤدي معنى متحدًا وإن اختلفت عباراتها حيث تفيد جميعها أن القاعدة هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام
1 / 15
الجزئيات التي تندرج تحت موضوعها وتنطبق عليها.
ومن نظر إلى أن القاعدة الفقهية قضية أغلبية نظرًا لما يستثنى منها عرَّفها بأنها حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه.
وقال في تهذيب الفروق: ومن المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية، والقول إن أكثر قواعد الفقه أغلبية مبني على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد تخالف أحكامها حكم القاعدة، ولذلك قيل: حينما أرجع المحققون المسائل الفقهية عن طريق الاستقراء إلى قواعد كلية كل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة، واتخذوها أدلة لإثبات أحكام تلك المسائل رأوا أن بعض فروع تلك القواعد يعارضه أثر أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثرة تخرجها عن الاطراد فتكون مستثناة من تلك القاعدة ومعدولًا بها عن سنن القياس فحكموا عليها بالأغلبية لا بالاطراد.
فمثال الاستثناء بالأثر جواز السلم والإجارة في بيع المعدوم الذي الأصل فيه عدم جوازه، ومثال الاستثناء بالإجماع عقد الاستصناع.
ومثال الاستثناء بالضرورة طهارة الحياض والآبار في الفلوات مع ما تلقيه الريح فيها من البعر والروث وغيره.
ولكن العلماء مع ذلك قالوا: إن هذا (أي الاستثناء وعدم الاطراد) لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها للأسباب الآتية:
1 / 16
أولًا: لما كان مقصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت القواعد التي قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى ذلك الوضع، كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا على العموم الكلي العام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما.
ويقول الشاطبي في موافقاته تأييدًا لهذا: إن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف بعض الجزئيات عن مقتضاه لا يخرجه عن كونه كليًا، وأيضًا فإن الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار القطعي.
ثانيًا: إن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت، وهذا شأن الكليات الاستقرائية، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات قادحًا في الكليات العقلية.
فالكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
كما يقال كل حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ، وهذه قاعدة كلية استقرائية خرج عنها: التمساح، حيث يقال: إنه يحرك فكه الأعلى حين المضغ فخروج التمساح عن القاعدة لا يخرجها عن كونها كلية. فكأنه قيل: كلي حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ إلا التمساح.
فالعموم العادي المبني على الاستقراء لا يوجب عدم التخلف بل الذي
1 / 17
يوجب عدم التخلف إنما هو العموم العقلي لأن العقليات طريقها البحث والنظر، وأما الشرعيات فطريقها الاستقراء ولا ينقضه تخلف بعض الجزئيات.
ثالثًا: ومن ناحية أخرى فإن تخلف مسألة ما عن حكم قاعدة ما يلزم منه اندراج هذه المسألة تحت حكم قاعدة أخرى، فالمسألة المخرَّجة تندرج ظاهرًا تحت حكم قاعدة، ولكنها في الحقيقة مندرجة تحت حكم قاعدة أخرى وهذا من باب تنازع المسألة بين قاعدتين.
فليس إذًا استثناء جزئية من قاعدة ما بقادح في كلية هذه القاعدة ولا بمخرج لتلك الجزئية عن الاندراج تحت قاعدة أخرى.
1 / 18
-- المقدمة الثانية:
-- الفروع بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:
علم الفقه وعلم أصول الفقه علمان مرتبطان بارتباط وثيق بحيث يكاد المرء يجزم بالوحدة بينهما، وكيف لا يكون ذلك وأحدهما أصل والآخر فرع لذلك الأصل، كأصل الشجرة وفرعها، فالأصولي ينبغي أن يكون فقيهًا، والفقيه ينبغي أن يكون أصوليًا وإلا كيف استنباط الحكم من الدليل؟ وكيف يكون مجتهدًا من لم يتبحر في علم الأصول؟
ومع ذلك يمكن أن يقال: إنهما علمان متمايزان فأحدهما مستقل عن الآخر من حيث موضوعه واستمداده وثمرته والغاية من دراسته.
وبالتالي فإن قواعد كل علم منهما تتميز عن قواعد الآخر تبعًا لتمايز موضوعي العلمين: فموضوع علم أصول الفقه هو أدلة الفقه الإجمالية والأحكام وما يعرض لكل منها، وأما موضوع علم الفقه فهو أفعال المكلفين وما يستحقه كل فعل من حكم شرعي عملي. وبالتالي فإن قواعد علم أصول الفقه تفترق وتتميز عن قواعد علم الفقه، وإن من أول من فرَّق بين قواعد هذين العلمين وميَّز بينهما الإمام شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه (الفروق) حيث قال: أما بعد فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفًا وعلوًا اشتملت على أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد
1 / 19
الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعر لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصبغة الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحِكَمِه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، إلخ ما قال:
وقال في موضع آخر: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا.
وإذا دققنا النظر في قواعد الأصول وقواعد الفقه لرأينا أن فروقًا عدة تميز بينهما منها.
١. أن قواعد الأصول إنما تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.
٢. أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة الإجمالية، وأما قواعد الفقه فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب برباط
1 / 20
متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.
٣. إن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.
وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلًا لها.
٤. إن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد الفقه العام والفتوى عند جميع المذاهب ولم تجمع للآن في إطار واحد، وكان هذا هو الدافع لتأليف موسوعة القواعد الفقهية التي أرجو الله سبحانه أن يعينني على إتمامها بمنه وكرمه.
٥. إن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء فهي قواعد كلية مطردة كقواعد العربية بلا خلاف.
وأما قواعد الفقه فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب كالاستثناء بالنص أو الإجماع أو الضرورة أو غير ذلك من أسباب الاستثناء ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة.
ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد قواعد مشتركة بين العلمين ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية ينظر إليها من حيث كونها دليلًا إجماليًا يستنبط منه حكم كلي، والقاعدة الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكمًا جزئيًا لفعل من أفعال المكلفين.
فمثلًا قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض) بمثله أو بالاجتهاد، ينظر إليها
1 / 21
الأصولي من حيث كونها دليلًا يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال.
وينظر إليها الفقه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين فيبين حكمه من خلالها، فإذا حكم حاكم أو قاض بنقض حكم في مسألة مجتهد فيها كالخلع هل هو فسخ للعقد أو طلاق، وقد كان حكم حاكم في مسألة بعينها بأن الخلع فسخ، وأجاز العقد على امرأة خالعها زوجها ثلاث مرات أو بعد طلقتين، ثم جاء حاكم آخر فأراد التفريق بين الزوجين؛ لأنه يرى أن الخلع طلاق فيقال له: لا يجوز ذلك؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
ولكن لك في مسألة أخرى متشابهة أن تحكم فيها باجتهادك لا أن تنقض حكمك أو حكم غيرك في مسألة اجتهادية لا نصية.
1 / 22
-- المقدمة الثالثة:
-- ميزة القواعد الفقهية ومكانتها في الشريعة وفوائد دراستها:
قال القرافي: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد كثيرة جدًا عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلًا.
هذه المقولة الصادقة من عالم مدقق فاحص تعطينا ميزات عظيمة من ميزات القواعد الفقهية وهي كونها قواعد كثيرة جدًا غير محصورة بعدد، وهي منثورة في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام، وهو رحمة الله قد أراد من تأليف كتابه الفروق جمع هذه القواعد في كتاب واحد يجمع شتاتها ويكشف أسرارها وحكمها، ولكنه ﵀ ما استوعب ولا قارب.
والميزة الثانية من ميزات القواعد أنها تمتاز بإيجاز عبارتها مع عموم معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية إذ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة مكونة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعد (العادة محكمة) وقاعدة: (الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها) وقاعدة (المشقة تجلب التيسير) فكل من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم إذ يندرج تحت كل منها ما لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.
والميزة الثالثة من ميزات القواعد أنها تمتاز بأن كلأ منها ضابط يضبط فروع الأحكام العملية ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها وأبوابها، قال الأستاذ مصطفى الزرقا مد الله في عمره في الخير: لولا هذه القواعد لبقيت الأحكام الفقهية فروعًا مشتتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول تمسك بها وتبرز من
1 / 23
خلالها العلل الجامعة.
وأما فوائد القواعد الفقهية فهي كثيرة جدًا نكتفي بذكر بعضٍ منها:
أولًا: ذكرنا أن من ميزات القواعد الفقهية أنها تضبط الفروع الفقهية وتجمع شتاتها تحت ضابط واحد مهما اختلفت موضوعاتها إذا اتحد حكمها. فهي بذلك تيسر على الفقهاء والمفتين ضبط الفقه بأحكامه فهو كما قال القرافي: (من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات) . لأن حفظ جزئيات الفقه وفروعه يستحيل أن يقدر عليه إنسان، لكن حفظ القواعد مهما كثرت يدخل تحت الإمكان.
ثانيًا: إن دراسة القواعد الفقهية تكوِّن عند الباحث ملكة فقهية قوية تنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة ومعرفة الأحكام الشرعية واستنباط الحلول للوقائع المتجددة والمسائل المتكررة.
ثالثًا: إن دراسة هذه القواعد الفقهية والإلمام بها واستيعابها يعين القضاة والمفتين والحكام عند البحث عن حلول للمسائل المعروضة والنوازل الطارئة بأيسر سبيل وأقرب طريق.
ولذلك قال بعضهم: إن حكم دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها على القضاة والمفتين فرض عين وعلى غيرهم فرض كفاية.
رابعًا: لما كانت القواعد الفقهية في أكثرها موضع اتفاق بين الأئمة المجتهدين ومواضع الخلاف فيها قليلة فإن دراسة القواعد والإلمام بها تربي عند الباحث
1 / 24
ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة وتوضح له وجهًا من وجوه الاختلاف وأسبابه بين المذاهب.
خامسًا: إن دراسة القواعد الفقهية وإبرازها تظهر مدى استيعاب الفقه الإسلامي للأحكام، ومراعاته للحقوق والواجبات، وتسهل على غير المختصين بالفقه الاطلاع على محاسن هذا الدين، وتبطل دعوة من ينتقصون الفقه الإسلامي ويتهمونه بأنه إنما يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية.
1 / 25
-- المقدمة الرابعة:
-- أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:
القواعد الفقهية ليست نوعًا واحدًا، ولا كلها في مرتبة واحدة، وإنما هي أنواع وراتب، ويرجع هذا التنوع إلى سببين رئيسيين:
الأول: من حيث شمول القاعدة وسعة استيعابها للفروع والمسائل الفقهية.
الثاني: من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة أو الاختلاف فيه.
فمن حيث الشمول والسعة تنقسم القواعد الفقهية إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: القواعد الكلية الكبرى ذوات الشمول العام والسعة العظيمة للفروع والمسائل حيث يندرج تحت كلِّ منها جُلُّ أبواب الفقه ومسائله وأفعال المكلفين إن لم يكن كلها.
وهذه القواعد ست هي:
١. قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها) .
٢. قاعدة (اليقين لا يزول، أو لا يرتفع بالشك) .
٣. قاعدة (المشقة تجلب التيسير) .
٤. قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو (الضرر يزال) .
٥. قاعدة (العادة محكَّمة) .
٦. قاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله) .
المرتبة الثانية: قواعد أضيق مجالًا من سابقاتها (وإن كانت ذوات شمول وسعة) حيث يندرج تحت كل منها أعداد لا تحصى من مسائل الفقه في الأبواب المختلفة، وهي
1 / 26
قسمان:
(ا) قسم يندرج تحت القواعد الكبرى ويتفرع عليها.
(ب) قسم آخر لا يندرج تحت أي منها.
فمثال القسم الأول: قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات، وهي تتفرع على قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية بتغير الأزمان) وهي مندرجة تحت قاعدة (العادة محكَّمة) .
ومثال القسم الثاني: قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، أو بمثله) .
وقاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) .
المرتبة الثالثة: القواعد ذوات المجال الضيق التي لا عموم فيها حيث تختص بباب أو جزء باب، وهذه التي تسمى بالضوابط جمع ضابط أو ضابطة، وفي هذا يقول الإمام عبد الوهاب بن السبكي ﵀ فالقاعدة: (الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها) . ومنها ما لا يختص بباب كقولنا: (اليقين لا يرفع بالشك) ومنها ما يختص كقولنا: (كل كفارة سببها معصية فهي على الفور) .
والغالب فيما قصد بباب وقُصد به نظم صور متشابهة أن يسمى (ضابطًا) . وأما من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة والاختلاف فيها فهي تنقسم إلى مرتبتين:
المرتبة الأولى: القواعد المتفق على مضمونها عند جميع الفقهاء ومختلف المذاهب.
فمن قواعد هذه المرتبة: كل القواعد الكلية الكبرى وأكثر القواعد الأخرى.
1 / 27
المرتبة الثانية: القواعد المذهبية التي تختص بمذهب دون مذهب أو يعمل بمضمونها بعض الفقهاء دون الآخرين مع شمولها وسعة استيعابها لكثير من مسائل الفقه من أبواب مختلفة.
وهذه تعتبر من أسباب اختلاف الفقهاء من إصدار الأحكام تبعًا لاختلاف النظرة في مجال تعليل الأحكام.
ومن أمثلة هذه المرتبة: قاعدة: (لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل) . وأساسها قولهم: (إن التهمة إذا تطرقت إلى فعل الفاعل حكم بفساد فعله) . وهذه القاعدة يعمل بها الحنفية والحنابلة دون الشافعية، وقد يعمل بها المالكية ضمن قيود، ومنها عند الحنفية: (الأصل أن جواز البيع يتبع الضمان) .
وأما عند الشافعي: (فإن جواز البيع يتبع الطهارة) . ويأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
مسألة: رأينا أن القواعد ذوات المجال الضيق (أي التي تختص بباب أو جزء باب) هي ضوابط إذ مجالها التطبيقي بعض الفروع الفقهية من باب واحد من أبواب الفقه، أو هي تختص بنوع من الأحكام الفرعية لا يعمم في غير مجاله.
ومثال الضابط: (إن المحرم إذا أخر النسك عن الوقت الموقت له أو قدَّمه لزمه دم) .
وهذا الضابط عند أبي حنيفة ﵀، وخالفه في ذلك الفقهاء الآخرون ومنهم تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
فما الفروق بين القاعدة والضابط؟
مع أن الفقهاء كثيرًا ما يستعملون لفظ (القاعدة) ويعنون بها الضابط،
1 / 28
ويستعملون لفظ (الضابط) ويعنون به القاعدة، فالملاحظ أن بين القاعدة والضابط فرقين رئيسين هما:
الفرق الأول: أن القاعدة (كما سبق) تجمع فروعًا من أبواب شتى ويندرج تحتها من مسائل الفقه ما لا يحصى، وأما الضابط فإنه مختص بباب واحد من أبواب الفقه تعلل به مسائله، أو يختص بفرع واحد فقط.
الفرق الثاني: أن القاعدة في الأعم الأغلب متفق على مضمونها بين المذاهب أو أكثرها.
وأما الضابط فهو يختص بمذهب معين (إلا ما ندر عمومه) بل منه ما يكون وجهة نظر فقيه واحد في مذهب معين قد يخالفه فيه فقهاء آخرون من نفس المذهب، كما سبق في الضابط المتقدم.
1 / 29
-- المقدمة الخامسة:
-- مصادر القواعد الفقهية:
أعني بمصادر القواعد الفقهية منشأ كل قاعدة منها وأساس ورودها.
تنقسم مصادر القواعد الفقهية إلى أقسام ثلاثة رئيسية:
القسم الأول: قواعد فقهية مصدرها النصوص الشرعية من كتاب وسنة، فما كان مصدره نصًا من الكتاب الكريم هو أعلى أنواع القواعد وأولاها بالاعتبار حيث إن الكتاب الكريم هو أصل الشريعة وكليتها وكل ما عداه من الأدلة راجع إليه، فمن آيات الكتاب التي جرت مجرى القواعد:
١. قوله تعالى: (وأحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِبا) . البقرة، آية (٢٧٥) فقد جمعت هذه الآية على وجازة لفظها أنواع البيوع ما أحل منها وما حرَّم عدا ما استثنى.
٢. ومنها قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكُم بينَكم بالباطل) . البقرة، آية (١٨٨) . فهذه قاعدة شاملة لتحريم كل تعامل وتصرف يؤدي إلى أكل أموال الناس وإتلافها بالباطل من غير وجه مشروع يحله الله ورسوله، كالسرقة والغصب، الربا، والجهالة، والضرر، والغرر، فكل عقد باطل يعتبر نوعًا من أكل أموال الناس بالباطل.
٣. ومنها قوله تعالى: (خُذِ العفو وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهلين) . الأعراف، آية (١٩٩) .
فكما قال القرطبي وغيره: هذه الآية من ثلاث كلمات (أي جُمَل) تضمنت قواعد
1 / 30