Al-Qisas Al-Qurani - Yasser Burhami
القصص القرآني - ياسر برهامي
Noocyada
قصة أصحاب الأخدود
من أعجب القصص قصة أصحاب الأخدود، وفيها بيان فضل العلم وأهمية الصبر عليه، وفضل ثبات المؤمن على الحق، وعدم قبوله للتنازلات التي تفسد دعوته ودينه، وفيها إشارة إلى نصر الله تعالى لأوليائه الصالحين على عدوهم حسيًا ومعنويًا، بل سماه فوزًا كبيرًا.
1 / 1
الهدف من الخلق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﵌.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعد: فإنه كلما ازدادت المحن على أمة الإسلام، وازداد ظلم أعدائها من الكفرة والمنافقين، احتاج الإنسان أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ﵌؛ ليراجع الأهداف والنتائج التي ينبغي أن تكون منه على بال، وأن يعلم الهدف الذي يسعى إليه أهل الإيمان، والذي من أجله يدعون إلى الله ﷾، إن وضوح الهدف بإذن الله ﵎ إذا كان فعلًا مستقى من الكتاب والسنة يبعد عن الإنسان شبح اليأس، ويمنعه من القنوط أو من الشعور بالفشل في تحقيق الأهداف، فكثير من الناس إذا لم ير بعض الأهداف تتحقق أمامه يغفل عن الهدف الأعلى والأسمى الذي يريده كل مؤمن، وهو عبادة الله ﷾، وأن يوفق في ذلك، فلابد أن يكون هذا الهدف واضحًا أمامنا، أما تحقيق نصر في موضع معين، أو زمن معين فهذا فضل الله ﷿ يؤتيه من يشاء.
وهو ﷾ لا يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة مستمرة، فقد يتأخر النصر، وقد تحصل هزيمة، وقد يقع للمسلمين قتل وأسر وجراح وآلام كثيرة، ولكنهم إذا فهموا قضيتهم وعلموا هدفهم الحقيقي، وأن النتائج التي تتحقق على أرض الواقع ليس مقياسها حصول التمكين من عدمه، بل حقيقة الأمر كما أخبر الله ﷾ عن الحكمة من وجود البشر بل وجود الإنس والجن فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦].
إذًا لابد أن يكون هدفنا هو تحقيق العبودية لله ﷿، وأنت أيها المؤمن لا يمنعك من ذلك مانع مهما كان الأمر، وسواء كنت ممكنًا على رءوس الناس أو كنت مستضعفًا في غياهب السجون، فأنت لا يمنعك مانع من عبودية الله ﷿، في فقرك أو غناك، في صحتك أو سقمك، في شبابك أو هرمك، أنت تعبد الله ﷾ على أي حال؛ لأنك علمت الهدف من وجودك، وكذلك أنت تسعى إلى أن يؤمن الناس حتى ولو قتل جميع أهل الإيمان، ونحن أيضًا نسعى إلى أن يؤمن الناس وأن يعبدوا ربهم ﷾، فهذه غايتنا التي نسعى إليها؛ لأن هذا أمر يحبه الله وشرع من أجله الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله، وأما أن تكون نهاية المطاف في حقنا أو في حق الطائفة التي نحيا وسطها أن يمكن لهذه الطائفة فهذا خطأ.
1 / 2
أسباب عدم تمكين أهل الحق
اعلم أن طائفة الحق قد لا تمكن لأمور: إما لأن الله ﷾ ادخر لهم من الفضل والإنعام ما لا يخطر ببالهم، ويرشدنا إلى ذلك النبي ﷺ فيقول: (ما من سرية تسلم وتغنم إلا قد تعجلوا ثلثي أجرهم، وما من سرية تخفق وتصاب إلا كان لهم أجرهم كاملًا)، أو كما قال ﷺ.
وإما أن يكون ذلك لقصور وجد في السائرين إلى الله ﷾ ويحتاج منهم إلى تعديل، وغالبًا لا يكون النظر في التعديل إلا عند أوقات الشدائد والمحن، فيفكر الإنسان من أين أصابنا ما أصابنا؟ كما قال الله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:١٦٥].
فهكذا يبين لنا كتاب ربنا ﷾ الحكم من وراء تقدير المحن، فيكون في ضمنها منح وفضائل على أهل الإسلام؛ ليراجعوا قلوبهم وأعمالهم ودعوتهم، ويتأملوا فيما يجري حولهم من تغير موازين القوى حتى تكون النهاية بفضل الله ﷾ حتمًا وقطعًا لصالح أهل الإسلام، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك لجيل أو طائفة، ولذلك نقول: عندما يشتد الأمر على المسلمين يحتاجون إلى الرجوع إلى كتاب الله والسنة؛ ليجدوا في الكتاب والسنة قصص الدعاة إلى الله ﷿، وقصص أنبياء الله ﷾.
ومن لم تثمر دعوته النتائج المرجوة التي قد يرجوها الإنسان، فلا يظن أن النتيجة هي أن يحصل التمكين وأن يظهر الدين ويعلو، فهذا ﴿فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [المائدة:٥٤]، وقد قص النبي ﵌ على أصحابه أنه عرضت عليه الأمم ﷺ فرأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.
وبعض الدعاة إلى الله ﷿ كانت نتيجة دعوتهم في الدنيا موت جميع المؤمنين بل قتلهم، وكان في ذلك الانتصار، وكان في ذلك الفوز العظيم، فقصة أصحاب الأخدود التي ذكرها الله ﷿ في كتابه ترشدنا إلى هذه النقطة العظيمة الأهمية، فنحن نريد أن يؤمن الناس مهما حصل بعد ذلك، وإذا حققنا معاني العبودية لله ﷾ فلا يضرنا ما جرى بعد ذلك، فإن الخطر الأعظم في فترات المحن أن يقع التنازل عن مفهوم من مفاهيم العبودية، أو أصل من أصول الإيمان، أو أن يحرف الدين ويبدل، أو أن يعتقد الناس خلاف الحق تحت ضغط الباطل، فنحن نعلم يقينًا أن الموازين بيد الله ﷾، وأن القوى ليست بأيدي البشر، بل الله هو الذي يهبهم الملك إذا أراد وينزعه منهم إذا شاء كما قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران:٢٦].
فإذا أيقنا بذلك، فإن القضية التي ابتلينا بها اليوم هي أن جعل الله ﷿ القوة بأيدي أعدائنا؛ لينظر كيف نثبت على الإيمان، وكيف نزداد لله إيمانًا وتسليمًا في فترات المحن والشدائد، وهو ﷾ يفعل ما يشاء ويقلب قلوب العباد بما أراد، ونحن نرى في واقع الحال من ينهار إيمانه، ويزول التزامه عندما يقف في محنة، وعندما يرى أمته مستضعفة ولا يدري ما المخرج لها مما يصيبها من أعدائها، فيختار لها طريق الذل والهوان، وهو طريق التبعية والخنوع لعدوها، وأن تقبل بما يصلها من ذلك العدو الذي كان بالأمس يترك الناس أن يقولوا ما يريدون، أما اليوم فهو يقول لهم: لا تتكلموا إلا بما أريد أنا، فلا تتكلموا بما يعاديني ويعارضني، قولوا كذا ولا تقولوا كذا، علموا أولادكم كذا ولا تعلموهم كذا، وهذا موطن الخطر العظيم.
لذلك نقول: يجب ثبات المؤمنين والدعاة إلى الله ﷿ على دينهم كاملًا غير منقوص لا يترك منه أي جزء، ولا يقال: إن الدين واسع، ويمكننا أن نتكلم في الدين بأشياء كثيرة بغير ما يغضب عدونا، وبغير ما يغضب من يخالفنا في ديننا كطريقة من يريد جعل إبليس والعياذ بالله من المؤمنين؛ لأنه يقر بالربوبية ويقول: ربي الله، ويدعو الله وحده حين يدعو، فلم يتوسل إليه بأموات ولا بملائكة وإنما كما قال الله عنه: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الحجر:٣٦]، وهو يقر بأن الله الخالق، ويقر بأن هناك يوم بعث فيجعله مؤمنًا بالله واليوم الآخر، ولا تتعجب، فإن من الزنادقة والمنافقين والكفرة الملحدين من يجعل أكفر الكفرة أعداء الله ورسله من أكمل الناس إيمانًا وتقوى، وأنهم ينبغي أن يقبل منهم كلما يقولون وما يعلنون، لذلك نحتاج إلى أن نتذاكر دائمًا، ونكرر ما في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من تلك القصص الذي تعطينا معنى الثبات، وتوضح لنا عدم قبول الاحتواء الذي يريده العدو والذي يريده من حارب الله ورسوله ﷺ وسعى في الأرض فسادًا، نريد أن نتذكر حتى لا نضيع في وسط هذا الخضم الهائل من الفتن المتلاطمة، والتي نعلم ونوقن أن المقصود الذي يقصده الأعداء هو أن يهدموا هذه الصورة الحقيقية لدين الله، فهم يجزمون أن القوة المادية التي بأيديهم لا يمكن أن تقف في وجه طائفة قليلة ضعيفة من أهل الحق، وأن النمو الأكيد والحقيقي والطبيعي الذي فطر الله العباد عليه هو أن الحق ينمو في قلوب الناس إذا وجد، ولا يقف الباطل أمامه، بل ينهار بكل قوته المادية إذا ثبت الحق، فالحق صخرة صلبة لا يمكن أن يقف في وجهها تلك الهشاشات الباطلة، لكن بشرط أن يكون ثابتًا في القلوب، نقيًا صافيًا، لا يقبل الاحتواء، ولا يقبل التوجيه المنكر الباطل، ونحن نعلم أن أهل الباطل لهم وسائلهم المتعددة لكي يفرضوا باطلهم.
وفي قصة أصحاب الأخدود ما نحتاج إلى تذكره دائمًا، نذكر به أنفسنا، ويذكر به بعضنا بعضًا، والقصة من قصص الكتاب ومن قصص السنة كذلك، وقد ذكرت نهايتها في القرآن العظيم، وذكر تفصيلها وبدايتها ونهايتها في سنة الرسول الكريم ﷺ.
فالله ﷿ إنما ذكر النهاية لكي تتضح لنا قضية الأهداف كما ذكرنا، ولكي نعلم أن تحقيق الإيمان هو الفوز وإن قتل من قتل من المسلمين، بل حتى لو قتلوا عن آخرهم.
1 / 3
تعريف أصحاب الأخدود الذين لعنهم الله في القرآن
قال ﷿: ﴿وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ [البروج:١ - ٤].
أصحاب الأخدود هم الكفرة الذين حفروا الأخاديد؛ لكي تضرم فيها النيران؛ فيحرق بها المؤمنون، فالله ﷿ ذكر أن الذي قتل -أي: لعن- والذي خاب وخسر هم هؤلاء الكفرة، رغم أن النهاية التي وجدت فيما يبدو للناس انتهاء أهل الإيمان عن آخرهم، وقتلهم بذراريهم في ذلك الأخدود، قال بعض السلف: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ﴾ [البروج:٤] بالفعل، وهو أن النار التي أحرقوا بها المؤمنين التفت عليهم حتى أحرقتهم وأهلكتهم بفضل الله ﷾.
فهم أحرقوا المؤمنين بالنار وما وجد المؤمنون من ذلك إلا كما قال النبي ﷺ: (لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كمس القرصة) أو كما قال ﷺ، فما وجد المؤمنون ألم الحرق الهائل الذي تصوره هؤلاء الكفرة، وإنما قتلوا هم بها، ومنهم من فسر قتل بلعن أي: طردوا من رحمة الله.
فالنهاية الأكيدة: أنه قد زال ملكهم ولو بعد حين، أو مباشرة بعد تلك الوقعة.
قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾ [البروج:٤ - ٧]، فهم مستحضرون جيدًا بما يفعلونه، فلا يصح أن يقال: حدثت في غفلة أو حدثت في خطأ منا، ولم نكن ندري أن هذا سيصيبهم، إنما أصبناهم بطريق الخطأ مثلًا، لا، بل هم شهود على ما يفعلون، يعلمون جيدًا ما يفعلون بالمؤمنين.
قال تعالى: ﴿وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:٧ - ٨] أي: ما كان ذنب المؤمنين إلا أن آمنوا بالله العزيز الحميد، فالمسألة واضحة ولم يكن هناك أدنى تهمة، فالمؤمنون لم يقتلوا أحدًا ولم يسفكوا دم أحد، ولم يجرحوا إنسانًا من هؤلاء الكفرة، وإنما كان ذنبهم عند الكفرة أنهم آمنوا بالله!
1 / 4
الله العزيز الحميد
قال الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:٨] تأمل هذه الصفات المذكورة في هذه الآيات القرآنية، فالله العزيز الذي قهر عباده، هو غالب على أمره، وهو ﷿ لا يمانع ولا مرام لجنابه، ولا ينال جنابه وعظمته، بل لا يقدر الخلق أن يتطلعوا إلى أن يكون لهم الملك والعز والسلطان في هذا الكون، فأقصى شيء أن يحاول الإنسان أن يثبت ملكه على قطعة من الأرض، وربما يتسع طمعه فتتسع تلك الرقعة معه، ولكنه يبهت دائمًا إذا قيل له: أتملك الشمس؟! أتملك القمر؟! أتملك أن تغير سير هذه الأرض؟! كما قال إبراهيم ﵇ للنمرود: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة:٢٥٨].
فالله العزيز في انتقامه من أعدائه، وهو سبحانه الحميد الذي يستحق الحمد، فله الحمد على ما قدر، وله الحمد على ما شرع ﷾، له الحمد في الأولى، وله الحمد في الآخرة، قدر ﷾ آلامًا ومحنًا، ولكنه جعل فيها من الحكم والمصالح والمنح والفضائل ما لا يحيط به عقل إنسان، ولذلك يحمد على المكروه كما يحمد على المحبوب.
وفي هذه القصة من أنواع الحمد والثناء على الله ﷿ ما لا تحيط به علوم العباد، وهو العزيز ﷾ الحميد الذي لا يجعل تسلط الكفرة على المؤمنين عزًا لهم أو ذلًا لعباده المؤمنين، بل إنما يجعل العزة لمن أطاعه، وهو يحمد على ما قدر من تسليط الكفرة على المؤمنين من غير أن يتمكنوا من إذلالهم، فإن الذل الحقيقي هو حين يغير الإنسان عقيدته وقوله وفعله على حسب ما يريد من غلبه، هذا هو الذي قد ذل بالفعل، هذا الذي لم يعز حين يخضع لعدوه ويقول له: افعل كذا فيفعل، قل كذا فيقول، اترك كذا فيترك، احلق لحيتك فيحلقها، اترك الصلاة فيتركها، وإذا أذن له بالصلاة صلى، وإذا أذن له في الإيمان آمن، هذا هو الذل الحقيقي، وفرعون إنما أغضبه أن يؤمن السحرة قبل أن يأذن لهم، فالناس إذا وصلوا إلى هذا الحال وصلوا إلى الذل، وأهل الإيمان أبوا أن يذلوا، وظلوا على عزتهم معتصمين بالله ﷿ إلى أن ماتوا، فكانوا أعزة بالفعل؛ ولذلك الله العزيز يظهر في هذه القصة من عزته ﷾ ما لا يدركه الناس وما لا يعلمونه، وما لو تأمل العبد بعضه لعلم أن الله ﷾ لا ممانع له، فأمره نافذ، وهو غالب على أمره ﷾، وله الحمد ﷿، وكما قال الله تعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [البروج:٨].
1 / 5
سعة ملك الله وعظمته
قال تعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [البروج:٩].
لا تظنوا -عباد الله- أنما جرى للمؤمنين في هذه القصة وفي غيرها أن ملك الله قد نقص، أو أن ملكه كان في السماوات دون الأرض، أو أن الكفرة أخذوا شيئًا من ملكه، فالملك لله ﷿ كما قال جل وعلا في علاه: «لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»، فالملك هو الذي أراد أن يجتبي بعض عباده ويختبرهم وينظر كيف يضحون في سبيله.
ووالله إن هذا الأمر لظاهر جلي لمن تأمل هذا الكون، أبعد أن ملك الكفرة ما ملكوا من أنواع القوة أهم يملكون شيئًا في السماوات؟! أيملكون أن يمنعوا سقوط مطر أو حصباء عليهم من السماء؟! أهم يملكون شيئًا في هذه الأرض التي تحت أرجلهم؟ لو أنها اقتربت من الشمس قليلًا أهم يستطيعون إبعادها؟! لو اقتربت من الشهب والنيازك المدمرة أهم يستطيعون منعها؟! وهذه الأرض التي نسير عليها أيملك أحد أن يوقفها عن الاهتزاز والاضطراب إذا أمرها الله بالزلزلة، وأوحى لها بأن تتزلزل وأن تخرج ما فيها؟ لا والله لا يملك أحد ذلك، وأنى للعباد أن يملكوا؟ فحقيقة أكيدة أن الله له ملك السماوات والأرض، ولكنه ﷿ إذا أراد أن يجتبي طائفة من عباده ألقاهم وسط عدوهم وجنده محيط بالعدو من كل جانب، وأعداد جنده لا يحيط علمًا بها سواه، كما قال تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر:٣١].
ففي السماء ما من موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد، ويدخل البيت المعمور كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وقال جل في علاه: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا﴾ [الجن:٢٤]، فهم الأقلون عددًا وجند الله أكثر، ولكنه ﷾ أراد أن يختبر عباده المؤمنين لينظر ماذا يفعلون؟ أيظلون على إيمانهم وإسلامهم وطاعتهم له وسط هذه الظروف أم يتخلون عن ذلك؟ والله يحب أن يعبد ﷾ في الشدة كما يعبد في الرخاء، ويحب أن يعبد في السراء والضراء، ويحب أن يرى من عباده المؤمنين الصبر والثبات رغم شدة المنازعة والمدافعة، ولذلك ألقى بعباده المؤمنين -الذين هم عنده في الآخرة أفضل من ملائكته، بل يجعل الملائكة تسلم عليهم وتدخل عليهم من كل باب- ألقاهم وسط هذا الجو المليء بالفتنة والمحنة، ولذلك لا تظن أبدًا أن ملك الله قد نقص أو قد زال عن بقعة من الأرض، بل هو «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ».
ولا تظنن أيضًا أن هذا الأمر قد وقع في غياب من الله ﷿ فلا يظن ذلك إلا كافر، قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ﴾ [الأعراف:٧]، ويقول تعالى: ﴿اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج:١٧]، ويقول تعالى: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [سبأ:٤٧] فهو يشهد ما يقع وما يجري من قتل المسلمين، ومن أذيتهم، ومن إحراقهم هم وصبيانهم بالنار رجالًا ونساء وأطفالًا يحرقون بالنار؛ لأنهم قالوا: آمنا بالله رب الغلام، وإنما ترك هذا الأمر وفي قدرته وعزته وحمده وملكه أن يغير هذا الأمر؛ لأنه يريد أن يتخذ شهداء، ويريد أن يمحص عباده المؤمنين، فهو يحب أن يعبد بأنواع من العبادات لا تقع إلا في مثل هذه الأحوال، قال ﷾: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [البروج:٩].
1 / 6
الوعيد الشديد لمن آذى المؤمنين
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج:١٠].
انظر إلى حقيقة الأمر، فإن الكفرة أرادوا إحراق المؤمنين، فجعل الله ﷿ لهم عذاب الحريق، وأرادوا أن يدخلوا المؤمنين النار فأدخلهم الله ﷿ نار جهنم، ولكنه استثنى ﷾ فقال: «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا»، قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم قتلوا أولياءه، ثم هو يدعوهم إلى التوبة! فلا تنزلن الناس شيئًا من جنة أو نار، فأنت عبد تعبد الله في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في المنشط والمكره، وتعبد الله على أي حال، فلا تقل: عدوي لابد أن ينتقم الله منه، ومن آذاني فلابد أن يصيبه الله بأنواع الأذى، بل الأمر كما قال الله تعالى: ﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾ [إبراهيم:٢٧]، إذا أراد أن يهدي عبدًا هداه، ألم يقل النبي ﷺ: (يوم شج في وجهه وكسرت رباعيته: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم)؛ فأنزل الله ﷿: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران:١٢٨])، وتاب الله ﷿ على بعض من لعنهم الرسول ﷺ، فكان يلعنهم في الصلاة ويقول: اللهم العن فلانًا وفلانًا وفلانًا، ومنهم صفوان بن أمية وعكرمة وغير واحد، وكانوا ممن تاب الله ﷿ عليهم، فالأمر لله ﷾.
والذي يعذب المؤمنين والمؤمنات بأي درجة من درجات الفتنة؛ ليمنعه من طاعة وعبودية الله ﷿، ولم يتب إلى الله ﷿ قبل موته، فإنه متوعد بعذاب جهنم وعذاب الحريق؛ لينال أشد أنواع العذاب، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج:١١].
إذًا: النجاح قد تحقق للطائفة المؤمنة مع أنها قتلت وأبيدت، ومع ذلك فقد فازت الفوز العظيم، الفوز الكبير، النجاح الأكبر الأتم، وهذا هو الهدف عباد الله! لذلك نقول: لنراجع أهدافنا، وماذا نريد؟ فنحن نريد الجنة ونريد مرضاة الله من خلال تحقيق العبودية له، بل حقيقة الأمر أن تحقيق العبودية مقصود لذاته، بمعنى: أن فيها الراحة والنعيم في هذه الأرض قبل أن يصل الإنسان إلى الجنة، وفي الجنة إنما يتنعم بقربه من إلهه ومولاه، فضلًا عن أنواع النعيم الحسي الذي في الجنة، فأعظم نعيم لأهل الجنة هو أنهم مقربون إلى الله ﷿، وأنهم يسلم عليهم ربهم ويكلمهم وينظر إليهم وينظرون إليه، لذلك نقول: هذا هو الهدف، فنحن نريد أن يرضى عنا ربنا ﷾ أيًا ما كانت النتائج، وأيًا ما تحقق منها، وأيًا ما لم يتحقق، وبأي طريقة مضت حياتنا، فالمهم أن نرضي الله ﷾، وأن نعبد الله ﷿، ولذلك سوف نسير على هذا الطريق مهما رأينا من عقبات وعثرات ومعوقات، ومهما رأينا من أعداء تتكالب، بشرط أن نثبت ولا نقبل التنازل، ولا نقبل أن نجعل القرآن عضين نقبل بعضه ونترك بعضه، فهناك أشياء لا مانع من قبولها وأشياء لا تقبل، وديننا نأخذه كله، وكتابنا نؤمن به كله، وأما أعداء الله كاليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض فليس لنا فيهم الأسوة، وإنما أسوتنا فيمن آمن بالكتاب كله، وهؤلاء لا يريدون أن يؤمنوا بالله ﷾ ولا بما أنزل، فنحن لا يمكن أن نكون متابعين لهم.
1 / 7
أثر اسمي الغفور والودود في حياة الناس
قال ﷿: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج:١٢ - ١٤].
ليس البدء والإعادة من صنع الناس، وإنما البدء والإعادة من فعله ﷿، وهو ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج:١٦]، لا يكرهه أحد على شيء، ولا يمنعه أحد من شيء.
أعظم ما يتنعم به أهل الإيمان معرفتهم بأسماء الله وصفاته، وشعورهم بالحب والاختصاص بالمغفرة، فالله اختصهم بمغفرته، فهو الغفور لهم ﷾، الودود الذي يحبهم ويحبونه، ويستشعرون هذا المعنى أضعافًا مضاعفة حين يبذلون أنفسهم في سبيل الله ﷿، ولا تظنوا أن من لم يجد طعامًا فجاع، أو من لم يجد شرابًا نقيًا فعطش، أو من لم يجد فراشًا هنيئًا فنام عليه أنه معذب، لا إنما المعذب من لم يعرف ربه ﷿ وإن نام على أوفر الفراش، وإن وجد ألذ طعام، وإن شرب أحلى شراب، لكنه غائب القلب عن الله ﷾، لم يعرف صفاته، ولم يحب ربه ﷿، فهذا لا ينفعه ما تنعم به، فالله تعالى يقول: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ﴾ [البروج:١٤]، والمؤمنون يشعرون بهذا الود بينهم وبين ربهم ﷾، وأكثر ما يكون عندما يضحون في سبيله، قال ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة:٥٤].
فهم يجدون الحب والود من الغفور الودود عندما يكونون أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وعندما يجاهدون في سبيل الله، وعندما لا يخافون في الله لومة لائم، وبهذا يصلون إلى حب الله ﷾.
قال تعالى: ﴿ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ﴾ [البروج:١٥]، وعرشه من علامات ملكه ﷾، وهو أعظم المخلوقات، ومن دلائل ملكه وعظمته، وهو المجيد ﷿.
قال تعالى: ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ [البروج:١٦]، فلا اعتراض لنا على فعله، بل يفعل ما يشاء، وله الحمد ﷾، ولا نعترض على الله، بل لا بد من حمده على ذلك، ورضانا عنه ﷿ ربًا إلهًا لا خالق لنا سواه ولا مدبر لأمرنا غيره، ولا نتوكل على غيره ولا نخضع لغيره.
1 / 8
عاقبة الكافرين
قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج:١٧ - ٢٠].
الجنود السابقون من جنود فرعون وثمود كيف كان مآلهم؟ وكيف كانت نهايتهم؟ كذلك تكون نهاية من خالفك يا محمد ﷺ، وكذا نهاية من خالف ما جئت به من الحق، فقول الله تعالى: (هل أتاك) خطاب للنبي ﷺ، وفيه تذكرة وربط بين الماضي والحاضر، فقصة أصحاب الأخدود فيها من العضات والعبر ما فيها، ولها فائدة في الواقع؛ لذا كان الخطاب المباشر، والتذكرة بفرعون وثمود مثلما جرى للذين قتلوا من الكفرة من أصحاب الأخدود ولعنوا وطردوا، وكان كيدهم في تضليل، والله ﷾ يجعل كيد الكافرين كلهم في ضلال، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ﴾ [غافر:٢٥].
قال تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج:١٩ - ٢٠]، وكما ذكرنا هو ﷿ محيط بالكفرة، فلا يظن أنهم لما أحاطوا بالمؤمنين وأوشكوا أن يأخذوهم أوشكوا أن يوقفوا دعوة الحق، لا والله! بل كما قال تعالى: ﴿واللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج:٢٠].
1 / 9
عظمة القرآن
قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ [البروج:٢١] صفة المجد هي من صفة الرب ﷾، فالقرآن مجيد عظيم عزيز كريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن ترك التمسك بشيء منه فهو الذي يهلك نفسه، وسيوجد الله ﷿ من يتمسك به.
قال تعالى: ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج:٢٢] أي: لا يمكن أن يمحى هذا الكتاب ولا أن يغير ولا أن يبدل، وكما قال النبي ﷺ: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة لا يضرها من خالفها أو خذلها حتى تقوم الساعة).
1 / 10
قصة الغلام مع الراهب والساحر
قال النبي ﵌: (كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر، فبعث إليه غلامًا يعلمه)، ونرى هنا نوعين من الطواغيت ينتشرون في كل زمان ومكان، هذا الملك الذي يدعي الربوبية ويقول للناس: لا رب لكم غيري، ولا إله لكم غيري، ومن الملوك من يقولها بلسان المقال ويصرح بها، كما قالها فرعون، وكما قالها هذا الملك كما سيأتي في القصة، ومنهم من يقولها بلسان الحال حين يأمر الناس بطاعته في معصية الله وفي الكفر بالله، ويجعل الإيمان حسب الإذن كما ذكرنا عن فرعون، ففرعون له طريق ومنهج، ولذلك فهو إمام يدعو إلى النار، كما قال الله ﷿: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ [القصص:٤١]، وقد يقال: كيف يدعون إلى النار وقد ماتوا؟ فنقول: لأنهم أسسوا طريقًا ومنهجًا وأسلوبًا للحياة يعيش به هؤلاء الذين يقولون للناس: لا تؤمنوا إلا إذا أذنا لكم.
وإبليس قد يدعي الإلوهية عند سخفاء العقول، ولكنه ارتضى من معظم البشر بأن يعبدوه وهم يلعنونه، فأكثر البشر يعبدون إبليس كما قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا﴾ [يس:٦٠ - ٦٢] أي: خلقًا كثيرًا ﴿أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس:٦٢].
وأكثر الخلق يلعنونه وهم يعبدونه، وقد رضي إبليس بذلك، فهو لا يسمى إلهًا، ولكن في نفس الوقت يعامل معاملة الإله، وكم من الطواغيت يطلبون ذلك، يريدون أن يعاملوا معاملة الإله وإن لم يسموا أنفسهم آلهة، وأن يطاعوا ولا يرد كلامهم، ولو في الكفر، ولو في الشرك، ولو في معصية الله.
وهذا نوع من الطاغوت، وهذا تجبر وتكبر، وهو مفسد في الأرض وإن زعم الإصلاح، وهذا من أعظم أنواع الفساد في الأرض، أن يدعو إلى عبادة غير الله، والملك هنا يستعين بساحر يقلب له الأمور، فالساحر يسحر أعين الناس حتى يريهم الأشياء على غير ما هي عليه، وحتى يقول الناس: هذه العصا حية، وهذا الحبل ثعبان، ولكل زمان سحرته كما قال النبي ﷺ: (فإن من البيان لسحرًا)، فالذي يجعل الباطل في أعين الناس حقًا يموتون من أجله، والذي يجعل الحق في أعين الناس وقلوبهم باطلًا يريدون أن يدوسوه بالأقدام، هو والله من السحرة، وهو الذي يعضد ملك هؤلاء الطواغيت، فالناس اليوم عندهم أن العفة والطهارة تخلف، وأن الفجور والفحش تقدم، ألا ترونهم في بلاد من بلاد المسلمين كان الستر والحجاب والعفة لما كان أهل الإسلام يحكمونها، فلما دخل الكفرة إلى تلك البلاد خلعت النساء الحجاب وذهبن إلى الكوافير، وتفرج الناس على الأفلام وهم يموتون جوعًا، عجبًا والله! ويفتخر أعداؤهم بأنهم قد تقدموا، وقد صاروا في حرية! وليست إلا حرية الفرج والبطن فقط نعوذ بالله، لكن هذا عند الناس هو التقدم، وهو الحرية التي يريدها الكفرة، وتملأ الدنيا صياحًا، فيقال: كفانا هذا الخطاب الذي يملأ حياتنا ضيقًا ونكدًا، ويعنون الخطاب الديني، فهذا يكتب في الجرائد والمجلات نسأل الله العافية، وهذا يعلم الناس الباطل على أنه حق، ويعلمهم الحق على أنه باطل حتى يكرهونه أشد من كل الجرائم، ولربما صار بعض الناس إذا يرى ابنه مثلًا يشرب المخدرات والخمر أهون عليه من أن يراه ذاهبًا إلى المسجد مع المتطرفين والإرهابيين كما يسمونهم؛ لأن الأمور قد انقلبت، والسحرة قد قاموا بعملهم، فسحروا قلوب الناس قبل أعينهم حتى صار الناس يفعلون الباطل على أنه الحق، ويتركون الحق على أنه من أعظم المنكر، كما قال النبي ﷺ في انقلاب القلوب: (حتى تصير القلوب على قلبين، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، وأسود مربدًا كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه).
وكما قال ﷿: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ [التوبة:٦٧].
لذلك نقول: فعلًا لكل زمان هذه النوعية من الطاغوتين المتعاونين، والساحر طاغوت كما بين النبي ﵌ حده وحكمه، وقال غير واحد من الصحابة: حد الساحر ضربة بالسيف، وقال ﷾: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا﴾ [النساء:٦٠].
فالسحرة والكهنة من الطواغيت ومع الذين يحكمون بغير شرع الله ﷾، وهؤلاء دائمًا يتعاضدون ويتعاونون.
قال النبي ﷺ: (فلما كبر الساحر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر)، وعجيب شأن هذا الساحر! لماذا يحرص على استمرار الشر من بعده؟ أيريد ثوابًا من تعليم هذا الغلام السحر؟ لا يريد ذلك قطعًا، لكنه يعمل لحساب إبليس، فما المبرر أن يسعى في إيجاد جيل من السحرة من بعده ويستمر السحر من بعده؟
الجواب
يحرص على ذلك لأنه تأتيه أوامر أخرى من إبليس اللعين أن يسعى في استمرار الشر والفساد، ونتعجب ممن لا يؤمن بالآخرة أصلًا ولا يوقن بها كعباد البقر مثلًا، لماذا يقاتلون من أجل عبادة البقر وعبادة الأصنام؟ لماذا يضحون بحياتهم؟ فالواحد منهم لا يؤمن بآخرة ولا يؤمن ببعث ونشور، ومع ذلك مستعد لأن يضحي بحياته وأن يموت من أجل أن تظل هذه العقيدة موجودة؛ لأنه كما ذكرنا يعمل لحساب الطاغوت الأكبر إبليس والعياذ بالله من ذلك.
1 / 11
أهمية غرس العقيدة في نفوس الصغار
قال: فابعث إلي غلامًا، لماذا لم يقل: رجلًا؟ لأن الغلام أسرع في التعليم، فإذا غرست فيه المبادئ فإنه سوف يكون حاذقًا فيها، وسوف يعد أجيالًا بعد ذلك من ذلك السحر الباطل والعياذ بالله.
وهذا ينبئنا بمدى خطورة تربية الأولاد، وماذا يريد الأعداء، فالأعداء من السحرة الذين يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًا يركزون جدًا على تعليم الأولاد، وينشرون في صحفهم الأجنبية أن المسلمين يقولون للأولاد: إن المؤمنين أمة واحدة، وإنهم يد على من سواهم، وإن بعضهم أولياء بعض، وهذا هو مربط الخطر، وهذه هي الخشية الإسلامية كما يقولها الكاتب الذي كتب ذلك، ويقولون ويهددون: إنكم تدرسون أولادكم أن المسلمين أفضل من غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ولابد لكم أن تتركوا هذا الخطاب، ولابد أن تقولوا لهم بعدم التعصب لدينهم، أما هم فيعلمون أولادهم كل مبادئ العصبية والجاهلية، ويستمرون على هذا الكفر والضلال، ولكن المسلمين حرام عليهم أن يقولوا: إن الإسلام هو الحق دون ما سواه، فانظر إلى ما يركزون عليه وما ينبغي نحن إذًا أن نهتم به، إنهم أولادنا، وسواء كانوا أولادًا لنا من صلبنا، أو أولاد المسلمين عمومًا فكلهم أولادنا، ولابد أن نسعى إلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم العقيدة الصحيحة، وأن يعلموا أن الإسلام هو الحق لا حق سواه، وأنه لا يعبد بحق إلا الله، وكل عبودية لغيره فهي باطلة، ونريد أن يتربى أبناؤنا على العبادة كما قال النبي ﵌: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فوصية النبي ﷺ أن يتعلم أبناؤنا الحلال والحرام، وفي الحديث: (أن النبي ﷺ رأى الحسن أو الحسين يلتقط شيئًا من تمر الصدقة فيقول له: كخ كخ، أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة؟!)، فيعلمه أن هناك حلال وحرام، وأفضل من أن نقول له: عيب نقول له -إن كان الشيء حرامًا-: هذا لا يجوز، والله نهى عن ذلك، أما هم يفعلون أشياء أخرى ويريدون أن يكونوا أمة الأخلاق، فأدخلوا مادة اسمها الأخلاق، ثم هذه الأخلاق لا تتدخل في دين وليس لها علاقة بدين، وإدخال هذه المادة أمر جيد، لكن لابد أن تكون من خلال قال الله وقال الرسول ﷺ، وليس من خلال أن هذا عيب وهذا ليس عيبًا ونحو ذلك؛ لأن العيب هذا يمكن أن يتغير، فقد كان في القديم عيب أن تمشي المرأة عريانة، لكن الآن ليس عيبًا، وكان عيب أن تظهر المرأة شعرها، أما الآن فليس بعيب، فالعيب سهل جدًا أن يتغير، لكن الحرام لا يتغير أبدًا، فالحلال والحرام قضية لابد أن يتربى الأبناء عليها.
ولابد أن نربيهم على الآداب الإسلامية ونقول لهم: هذا الرسول ﷺ الذي قال ذلك قال للغلام الذي تطيش يده في الصحفة: (سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)، فهذه قضايا كلية لابد أن تغرس في القلوب.
ويربون على الدعوة إلى الله كما حكى الله عن لقمان أنه قال: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ [لقمان:١٧].
ويربون على التواضع كما قال لقمان: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [لقمان:١٨]، وقبل كل شيء يعلم ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣].
وانظروا كم رجل عنده ابن في سن التمييز وقال له: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان:١٣]، فسيدنا لقمان كان ابنه موحد ونشأ في دين التوحيد، لكن يقول له: «لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ».
فينبغي عليك أن تقول لابنك: ﴿لا تُشْرِكْ بِاللَّه ِ) [لقمان:١٣]، وبالتأكيد سيقول لك: وما هو الشرك يا أبي؟ لأنه لا يعرف معنى الشرك بالله، وأكثر أولاد المسلمين الصغار والكبار أيضًا لا يعرفون من صور الشرك إلا عبادة الأصنام فقط، فعليك أن تبين له صور الشرك الموجودة والواقعية التي لابد أن يحذرها.
1 / 12
دافع الفطرة في النفوس
قال النبي ﷺ: (فبعث إليه غلامًا يعلمه، وانتقى غلامًا حاذقًا وأرسله ليعلمه، فكان في طريقه راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر ضربه)، قدر الله لهذا الغلام شيئًا عجيبًا، وهو أن يتلقى تعليمًا مزدوجًا، تعليمًا من الراهب الذي أعجبه كلامه، وتعليمًا من الساحر الذي يعلمه الأذى والزور والباطل، ويعلمه السحر وأن الملك هو الرب، والراهب يعلمه أن الله ﷾ لا إله غيره ولا رب سواه، وهناك رصيد كبير للساحر فيما يبدو؛ لأنه بتوجيه الملك، وهناك إعداد لأن يكون هذا ساحر الملك الذي يحتاج إليه الملك، يعني: وظيفة كبرى مهيأة لمستقبل هذا الغلام، فالملك في حاجة إلى هذا الساحر، وسبحان الله! كان الرصيد الأعظم في حق الراهب صاحب الصوت المنفرد الضعيف المختبئ في دير أو في كهف أو في طريق غير مشهور ولا معلوم لم يعد يسمعه الملك ولا جنود الملك، وكان صوته ضعيفًا لكنه يركز على الفطرة، ويصل إلى الفطرة الإنسانية المستقر فيها توحيد الله ﷿، لذا أعجبه ذلك، ولذلك نقول لمن يقولون: ما تبنونه أنتم في سنة سوف يهدمه الباطل في شهر أو في ساعة؛ لأن الباطل بوقه عال، نقول: نعم، عنده أصوات عالية، لكن الحق له رصيد عظيم في النفوس، هو رصيد الفطرة الإنسانية السوية، فكل إنسان يميل إلى الحق؛ ولذلك نجد أنه كلما ازداد الباطل طغيانًا وظلمًا انصرفت قلوب العباد إلى الطاعة، وإلى الهدى، وإلى دين الله ﷾، وهذا معلوم عبر تاريخ الأمة، فكل المحن يعقبها فترات التزام، ويعقبها فترات إقبال على طاعة الله ﷿ حتى تتغير الموازين بإذن الله ﵎.
1 / 13
فضل العلم والصبر عليه
كان الغلام إذا أتى الساحر ضربه فشكا ذلك إلى الراهب، فهذا صبي صغير يضرب من أجل أن يطلب العلم وهو يريد أن يطلب العلم ومع ذلك يضرب ويعاقب، والضرب عند الصبي أشد شيء بلا شك، وهذا كفيل بمنعه، ولكنه يبحث عن الوسيلة التي يستمر بها في طلب العلم، وفي نفس الوقت يتخلص من أذى ذلك الساحر بالضرب، وليكن ذلك منا على بال، فهذا حرص على طلب العلم، ونحن لا يضربنا أحد لكي نترك طلب العلم ولكن الهمة الضعيفة هي السبب، فعندما يتخاذل كثير من طلاب العلم عن طلب العلم، مع أن أحدًا لا يعاقبهم على طلبه، وربما مدحوا على الطلب، ونالوا من أنواع المدح ما يسعى إليه كثير من الناس، ومع ذلك الهمم ضعيفة، فلتكن همتنا جزءًا من همة ذلك الغلام الذي يحرص على طلب العلم ويبحث عن الوسيلة التي تمكنه منه ولو ضرب.
قال: (فشكا ذلك إلى الراهب، فقال له: إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي)، وهذا يؤكد لنا أنه كان يضرب أيضًا من أهله، فصار على الغلام ضغط مزدوج، وصار يضغط عليه أهله حتى يمنعوه من الذهاب إلى مكان آخر؛ ولذلك أرشده إلى التخلص بهذه الحيلة، وهو أن يكذب عليهم مضطرًا معذورًا، والكذب في الأصل محرم، لكن إذا اضطر إليه الإنسان جاز له أن يستعمله على قدر الضرورة، وعلمه ذلك الراهب فقال: إذا خشيت أهلك -ولم يقل له: استعمل الكذب على الدوام، وإنما إذا خشيت العقوبة- إذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، وإذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي.
وهو نوع تعريض في الحقيقة، وإن كان يجوز الكذب للتخلص من الظلم، والكذب يباح في هذه الحالة، فلو منعه والداه وأهله من طلب العلم لم يجز له أن يمتنع، ووجب عليه أن يطلب العلم الذي هو فرض عين عليه حتى ولو منعوه؛ لأن العلم لا يتم العمل إلا به، وفرض الكفاية إذا تعين بأن لم يوجد في الأمة من يقوم به فكذلك لا يطاع الوالدان ولا غيرهما في تركه، بل يطلب العلم ولو تعرض لغضبهم أو أذاهم، ويحاول أن يعرض لهم، فإن جلس مدة في أماكن أخرى فليقل: كنت في المكان الفلاني، وهو صادق فإنه قد كان في المكان الفلاني مدة من الزمن لكن ليس كل الزمن.
1 / 14
كرامة للغلام
قال النبي ﷺ: (فبينما هو على ذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال: اليوم أعلم، الراهب أفضل أم الساحر أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس)، رأى حيوانًا عظيمًا قد سد الطريق على الناس، فوجد في نفسه فرصة، إذًا: كان التعليم المزدوج ما زال له تأثير، فالساحر يعلمه الباطل والكفر والضلال، وتعليم الراهب هو تعليم الحق، ولكن مع التعليم المزدوج يعطينا هذا الأمل الكبير أنه سوف يثمر التعليم الحق، وأن أثره إيجابي بإذن الله، مع وجود التعليم الآخر المفسد للقلوب؛ لأن هذا الغلام كان أميل إلى أمر الراهب بلا شك، ونلاحظ هذا من عدة أجزاء في قولته قال: اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر أفضل، فأخذ حجرًا فقال: اللهم، فأول شيء أنه توجه إلى الله ﷿ ولم يقل: سوف أستدعي جنود الملك مثلًا، فلجأ إلى الله وقال: اللهم! ولا شك أن الدعاء تعلمه من الراهب، وهذه فطرة في الإنسان أن يتوجه عند الشدائد إلى الله، وقال: اللهم! إن كان أمر الراهب أحب إليك، فهو يبحث عما هو أحب إلى الله ﷿ فقد غرس في قلبه حب الله سبحانه، وهذا الذي ينبغي أن يربى عليه كل إنسان وهو حب الله، والبحث عن حب الله ﷿، وما هو أحب إلى الله، الله يحب كذا ولا يحب كذا، وقضية الحب هذه هي التي تغير من كائن الإنسان، بخلاف الأوامر المجردة، فليست أوامرًا عسكرية أنت تفرضها على أولادك أو على تلامذتك، بل أنت ترغبهم في دين الله ﷿، ولذلك سيدنا إبراهيم ﵊ لما أمر بذبح ابنه لم يلزمه على الذبح، وإنما ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات:١٠٢].
فيدعوه إلى أن يفعل هذا الأمر اختيارًا، ولم يقل له: ماذا أفعل؟ فإنه سوف يفعل بلا شك، ولكنه يريد أن يفعل الأمر اختيارًا لا إكراهًا فلا يثاب على ذلك، فهذا أمر لابد أن نبحث عنه، وهو أن نحب الله ﷿، ونغرس حب الله ﷿ في قلوب أبنائنا ومن نعلمهم.
الأمر الثالث أنه قال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك، فقدم أمر الراهب على أنه أحب في صيغة السؤال، ثم قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير للناس ويحب الخير للناس، فالساحر يعلمه كيف يؤذي الناس، وكيف يزرع بينهم الأحقاد، وكيف يفرق بين المرء وزوجه، وكيف يرغب فلان إلى فلان، ويلقي البغضاء بين فلان وفلان وهكذا، أما هذا فيريد أن ينجو الناس من هذا الحيوان المفترس السبع أو غيره، وهو أيضًا يرجو، والرجاء عبادة من العبادات تعلمها من الراهب بلا شك، أيرجو نتيجة بغير أسباب ومقدمات؟ الكل يستطيع أن يرمي حجرًا، لكن أن يقتل الدابة وهو موقن بأن رميته لن تقتلها ولكن الذي سوف يقتلها هو الله ﷿ فهذا لا يوجد إلا في الغلام.
ولذلك قال: فاقتل الدابة حتى يمضي الناس، فهو يريد الخير لهم، ويعلم أن ذلك بقوة الله وقدرته ﷿ لا برميته.
قوله: (فرماها فقتلها ومضى الناس) هذا فيه إثبات كرامات الأولياء، فهذا الغلام الذي لم يصل بعد إلى سن الكهولة، بل حتى إلى سن الرجولة فلم يزل يقال عنه: غلام، قد صار من أولياء الله ﷿، الذين يستجيب الله دعاءهم ويخرق العادة من أجلهم.
فرميت حجر من صبي لا تقتل سبعًا بل ولا حتى قطة ولا كلبًا، فكيف تقتل الدابة العظيمة؟ هذه قدرة الله ﷿، فهو أخذ بالأسباب ولجأ إلى الله ﷿ ودعا فاستجاب الله ﷿ دعاءه، وما يكرم الله به أولياءه من أنواع القدرة والتأثيرات كهذه الواقعة، وما يكرمهم به من أنواع العلوم والمكاشفات هي من الأمور الثابتة في الكتاب والسنة، ومما يوقن به أهل السنة والجماعة، ويعتبرونه من عقيدتهم التي لا يجوز مخالفتها، لما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وإن كان ليس معنى كرامات الأولياء أن نطلب منهم قضاء الحاجات وكشف الكربات، وما لا يقدر عليه إلا الله بل نسأل الله ﷿ ذلك، وإنما نتعبد لله بحبهم ومتابعتهم على طريقهم، ونجد في هذا أن السبق إلى الله ﷿ ليس بطول المدة، بل ربما يسبق المتأخر المتقدم.
قال: (فأتى الراهب فأخبره، فقال: أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي)، وهذا الراهب الأستاذ الذي علم هذا التلميذ، مع ذلك رأى من علامات كرامته ومحبته لله ﷿ وبحثه عن حب الله واستجابة الله لدعائه ما دله على فضله وكرامته، فلذلك اعترف له بالفضل مع أنه تلميذه، ومع أن الراهب أسبق التزامًا من الغلام، ومع أنه هو الذي علمه الدين أصلًا، ومع ذلك قد يسبق المتأخر، فالفضل لله ﷿ يؤتيه من يشاء، والعباد يتفاضلون ليس بكثرة العبادة الظاهرة بل يتفاضلون بما في قلوبهم من الحب والخير والإيمان بالله ﷿ والرغبة فيما عنده، ومن أعظم ما يسبق به إلى الله حبه ﷾ والبحث عن محبته ومرضاته.
1 / 15
من فوائد قصة الغلام مع الراهب والساحر
الغلام ذهب ليبشر الراهب، ففيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، ويكون أولى الناس بذلك شيوخه الذين علموه، فيعرف لهم الفضل، ويقر لهم بتلك المنزلة، وهذا الراهب كان رجلًا عالمًا فعلًا، ولم يكن مجرد راهب متعبد دون علم، بل كان على علم بطريق الحق وسنن الله ﷾.
وقوله: (راهب) يدل على أنه كان بعد زمن المسيح ﷺ، فإن الرهبانية إنما وجدت في أتباع المسيح، فقد كان راهبًا موحدًا على دين المسيح ﷺ، وليس على دين التثليث وعبادة المسيح الذي هو الشرك بالله ﷾، فإن من قال: إن الله ثالث ثلاثة، أو قال: إن الله هو المسيح ابن مريم، لا يكون مؤمنًا فضلًا عن أن يكون وليًا.
وقول الراهب: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني)، هذا من التواضع، ومن الإقرار بالحق، وعدم الحسد والحقد؛ لأنه لم يقل: لماذا يكون الذي علمته أفضل مني؟ أو لماذا اختاره الله علي؟ فليس المؤمن الذي يأكل قلبه الحسد، وليس المؤمن الذي يكون في قلبه الضغائن والأحقاد، وإنما هو مخلص لله ﷿، قال: (أي بني! أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى)، وعلم الراهب ذلك من سنة الله ﷾ في الأولين والسابقين، فإن المرء لا يمكن حتى يبتلى، ولابد أن يبتلى كل من أعلن الإيمان كما قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ [العنكبوت:٢ - ٣].
لذلك نقول: من يظن أن طريق الالتزام مفروش بالورود فإنه لا يعرف سنة الله ﷾ في خلقه، فلا بد أن يعلم كل من يسير على طريق الحق أنه لابد من الابتلاء.
يقول الراهب: (فإن ابتليت فلا تدل علي) أي: إن ابتليت وقيل: من علمك هذا؟ فلا تخبرهم عني، يريد الرجل بذلك العافية؛ لأنه وإن كان كما سيأتي صبر الصبر العظيم ونشر بمنشار حديد حتى قتل رضي الله تعالى عنه إلا أنه كان يطلب العافية، كما قال النبي ﷺ: (لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية).
فالذي يعرض نفسه للبلاء ويقول: أنا لا يهمني البلاء، على خطر الغرور والإعجاب بالنفس وتزكيتها، وعلى خطر أن يوكل إلى نفسه؛ لأنه معجب بها، وأما الذي يفوض أمره إلى الله، ويسأل الله العافية، ويظهر عجزه وضعفه، فإنه أولى بأن يثبت بتوفيق الله ﷾.
وقوله: (إن ابتليت فلا تدل علي) من الكتمان المشروع، وهو ألا يدل على من علمه الحق لأعدائه فينتقمون منه ويصيبونه بأنواع الأذى، وقد تحمل الغلام في سبيل هذه الوصية ما تحمل إلى أن شاء الله ﷿ عجزه عن تحملها.
قال ﷺ: (وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء)، فسائر الأمراض يداويهم بالدعاء، وكان له تجربة عارف، وأقصر طريق للخير أن يلجأ إلى الله ﷿، فكان يداويهم ويعالجهم بالدعاء والتضرع إلى الله ﷿.
1 / 16
الزهد في الدنيا
(فسمع جليس للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني)، وهذا يدل على مدى انتشار الدعوة، فقد بدأت تدخل في نطاق جلساء الملك، وبدأت تدخل في الطبقة المترفة التي لها شأنها ووزنها، سمع جليس للملك كان قد أصابه العمى، ككل البشر معرضون في فقرهم وغناهم لأنواع البلايا والمحن والأمراض وغيرها، فأتاه بهدايا كثيرة؛ لأنه يظن أن الأمور كلها عندهم كما هي عند الملك بالمال، فالهدايا هي الغاية المقصودة، والجوائز والأموال هي كل غرض الإنسان، فظن أن هذا الغلام كذلك، وهو يسمع إشاعات فقط، فهو يظن أن الغلام يشفي فيقول له: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وهذا الرجل مريض بأمراض عدة أخطرها مرض القنوط، وأنه يظن أن الشفاء من غير الله، وهذا شرك بالله ﷿، ومريض بمرض الإعجاب بالمال واستعظامه، فقال: ما ههنا لك أجمع، فهو يعده شيئًا كبيرًا، وهو تافه جدًا عند المؤمنين.
وقوله: (كله) إشعار بأنه فعلًا معجب بالمال جدًا، وأن المال هو كل شيء في حياته، فلم يلتفت الغلام إلى ذلك المال، ولم يقل له: كيف تعرض علي مالًا؟ ولا فكر حتى في أن ينقل كلامه، وإنما قال معالجًا المرض الأشد الأخطر مرض الشرك بالله (إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فإن شئت آمنت بالله ودعوت الله لك فشفاك)، وهذا كلام عظيم، يدل على احتقار الدنيا حيث لم يذمها، قال بعض أهل الكلام في تهذيب النفوس: إن الزهد في الدنيا، نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أو طلبًا، وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا، والسلامة منها طلبًا أو تركًا.
ومعنى نفض اليدين من الدنيا ضبطًا أي: بخلًا، وقولهم: طلبًا أي: حرصًا وطلبًا لها.
وإسكات اللسان عنها ذمًا أو مدحًا؛ لأن أمرها حقير جدًا، فلا تستحق الذم فضلًا عن المدح، فكونه يذمها فيه دليل على أنها لا زالت عظيمة عنده، ويريد أن يعوض نفسه بمذمتها، فلما تأتي لرجل وتواسيه على أمر ذهب عنه من حطام الدنيا، يدل على أن أمرها عظيم في قلبك وقلبه، أما لو كانت صغيرة جدًا فلم تنشغل بها؟ فلا يوجد أحد يواسي رجلًا من أجل دجاجة ماتت عليه؛ وذلك لأن أمرها هين، والنبي ﷺ يقول: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)، ولكن هي في القلوب، ولذلك فنحن دومًا نذمها؛ لأنها كبيرة في قلوبنا، ولو أنها صغرت في أنفسنا ما انشغلنا بذمها.
ولذلك النبي ﷺ مر بجدي أسك -أي: صغير الأذنين- ميت فقال: (من يود أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! لو كان حيًا كان عيبًا فيه أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! ما نود أنه لنا بشيء، فقال: إن الدنيا أهون على الله من هذا عليكم).
وإنما ينشغل الإنسان بمذمة الدنيا إذا كانت كبيرة في قلبه، وبمدحها إذا كانت أكبر وأشد والعياذ بالله، فالرجل يرى أن الهدايا كثيرة جدًا، والغلام لم يلتفت لها أصلًا لا بالذم ولا بالمدح، ولم يتكلم بكلمة عنها، وأهملها إلى نهاية القصة، ولم يذكرها لا بخير ولا بشر.
1 / 17
استجابة الله لدعاء الغلام بشفاء المرضى
قوله: إني لا أشفي أحدًا؛ لأن الغلو في أهل الصلاح والتقوى مرض أكيد وخطير يؤدي إلى الشرك بالله، وهو واقع في هذا الرجل الذي يظن أن الغلام يشفي، فلابد من معالجة الموقف أولًا فقال: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، وشارطه فقال: إن شئت آمنت بالله فدعوت الله لك فشفاك.
وهو يعرف أنه ليس هو الذي يشفي، وإنما هو يدعو الله ربه فيشفيه الله ﷾.
قال: فآمن بالله فشفاه الله تعالى، وهنا نوعان من الكرامة: استجابة الدعاء، وهو من أنواع القدرة والتأثيرات، والنوع الثاني وهو من أنواع العلوم والمكاشفات، وهو أنه قال: إن شئت آمنت فدعوت الله لك فشفاك، فهو يخبره أنه سوف يشفى، وهذا من أنواع العلوم والمكاشفات، فلا يعلم الغلام الغيب، ولكن رجا فضل الله ﷾، فحقق الله له رجاءه في دعائه.
1 / 18
أثر الإيمان في تغيير القلوب
أتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، وهذا دليل على أنه إذا أسلم المرء وآمن ولم يكن في عمله لدى بعض الظلمة أو الطغاة محرم، ولم يكن إعانة على الظلم جاز له أن يستمر فيه، وأما المجالسة إذا كانت لغرض الدعوة إلى الله، وبيان الحق الذي جاء به الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فلا مانع أن يكون الإنسان في وظيفته ويستغلها في الدعوة إلى الله، كما استغل هذا الغلام حاجة الناس إليه لكي يدعوهم إلى الله ﷿.
فهذا الجليس جلس عند الملك فرآه مبصرًا، فقال الملك: من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فجليس الملك تغير تغيرًا عظيمًا جدًا، وبالتأكيد هو يعلم عقيدة الملك، ويعلم ما يقوله الملك للناس وخصوصًا جلسائه من أنه ربهم ولا رب لهم غيره، ومع ذلك يواجهه بهذه المواجهة، فالإيمان يغير تغييرًا عظيمًا في النفوس.
فهذا الجليس كان قبل ذلك يقول: ما ههنا لك أجمع إن أنت شفيتني، وكل هدفه أن يشفى من عمى البصر، وهو أعمى القلب، ولا يشعر بأن عمى القلب أغلظ وأخطر، وبعد ذلك تغير حتى صار يجابه الملك بهذه الشجاعة وهذه القوة ويقول: ربي وربك الله، فكأنه استغل الفرصة لكي يجهر بالدعوة في مثل هذا المجلس، ولكي يقول كلمة الحق في مثل هذا المجلس، ولم يعد يهتم بالقوة والمادة والمال، وإنما صار اهتمامه أن يبلغ دعوة الحق، وأن يقول للملك: ربي وربك الله، والملك معروف بالبطش والتنكيل والتعذيب وأنواع العقوبات المختلفة، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، وكان لا يعذبه بنفسه وإنما بزبانيته وأعوانه الظلمة أمثاله.
1 / 19
الحذر من احتواء الظلمة للدعوة بالترغيب
وصلت المعلومات كاملة إلى الملك، ووصل التقرير تامًا من أن الغلام هو الذي يقول للناس: ربي وربك الله، وإني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فمصدر الدعوة العلنية في الناس عرف فأحضر، فبدأ الملك بوسيلة الترغيب والاحتواء، قبل وسيلة الترهيب والتعذيب والفتنة؛ لأن وسيلة الترغيب والاحتواء أنفع في إبطال الحق، وأجدر في إزهاقه، وأيسر في ألا يكون هناك بعد ذلك مقاومة أو قبول للغلام لو قبل هذا الترغيب وهذا الاحتواء، فأتي بالغلام فقال له الملك: أي بني! قد بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، الأكمه هو الذي ولد أعمى، والبرص مرض جلدي معروف لا علاج له إلى وقتنا هذا، فبدأ أولًا يقول له: يا بني! أنت أبني، وأنت حبيبي، وأنت تبعي أنا، وهو يعرف ما يقوله للناس، لكنه ينظر أيقبل هذا الغلام مثل هذا الأمر؟ ولا مانع لديه أن يقال: هذا ساحر الملك، وأن يفعل الغلام بعد هذا ما يفعل، وليدع إلى ما يدعو إليه، طالما كان تحت غطاء الملك وإذنه، وباسم سحر الملك، فإنه يقبل بذلك، فلم يكن الملك غبيًا، ولم يكن جاهلًا، أو كان يظن أن الغلام كان يقول: هذا من سحر الساحر؟ لا، بل كان يجزم بأن هذا الغلام يقول: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، ولكن كان يريد أن يحتويه.
ولذلك نقول: هذا الأمر لابد أن ينتبه له الدعاة إلى الله، وألا يقبلوا ذلك الاحتواء، ولا هذا الثوب الذي يكون مأذونًا لهم في لبسه، ويسمح لهم بالدعوة إليه من خلاله، طالما كانوا تحت توقيعات وتوجيهات الملك، وبإذن الملك ومن سحر الملك، ولو أن الغلام سمى ما يفعله سحر الملك لتركه ذلك الملك يفعل ما يشاء، ويكون عونًا له ومرغبًا في اتباعه، ولكن سوف تفقد دعوته حقيقتها، وسوف تفقد تميزها، وسوف تفقد براءتها من الباطل، ويكون هذا الستار في الحقيقة قاضيًا على الدعوة ومفسدًا لها من أصلها.
ولذلك تنبه الغلام وقال للملك قولته التي يكررها: إني لا أشفي أحدًا، إنما يشفي الله تعالى، فقد كان واضحًا لا يقبل مداراة ولا موالاة لذلك الملك، ولا يقبل التبعية لذلك الملك، ولذلك لا يقبل أن يقول: أنا من جنود الملك حتى لو تركه يقول ما يقول، وكم من الناس يسمح لهم بأن يقولوا أشياء كثيرة من الحق لكن بشرط أن يكون ذلك تحت توجيهات الملك، وبشرط أن يكون ذلك بإذن الملك وأمر الملك، فلابد أن تعلم أن دعوة الحق هي بإذن الله ﷾ كما قال تعالى: ﴿وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا﴾ [الأحزاب:٤٦]، والنبي ﷺ لم يستأذن الكفرة في أن يدعو إلى الله ﷿.
1 / 20