Exceptions from Jurisprudential Rules (Types and Analogies)
المستثنيات من القواعد الفقهية (أنواعها والقياس عليها)
Daabacaha
مجلة جامعة أم القرى
Daabacaad
عدد 34
Sanadka Daabacaadda
1426 AH
Goobta Daabacaadda
مكة المكرمة
Noocyada
المستثنيات من القواعد الفقهية
(أنواعها والقياس عليها)
د. عبد الرحمن بن عبدالله الشعلان
الأستاذ المشارك بقسم أصول الفقه - كلية الشريعة بالرياض
ملخص البحث
١ - موضوع الاستثناء من القواعد الفقهية من الموضوعات المهمة في جانبيه النظري والتطبيقي، ومع هذا فقد كانت الدراسات السابقة فيه شبه معدومة، ولذلك كان جديراً بالدراسة والبحث.
٢ - تكوَّن هذا البحث من مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة.
٣ - تكوَّن تمهيد البحث من ثلاثة مطالب؛ أولها لبيان معنى القاعدة، والثاني: لبيان أركان القاعدة، والثالث لبيان معنى الاستثناء من القواعد.
٤ - في المبحث الأول تم تقسيم المستثنيات باعتبار الخلاف فيها وعدمه إلى نوعين؛ مسائل متفق عليها، وأخرى مختلف فيها، بحيث تكون المسألة أو المسائل مستثناة بالنسبة لمذهب معين أو عالم معين، ولا تكون هذه المسائل مستثناة عند غيرهم.
1
والخلاف في الاستثناء له أسباب خاصة به جرى توضيحها في البحث.
٥ - في المبحث الثاني تم تقسيم المستثنيات باعتبار وجه شبهها بقواعدها إلى نوعين؛ النوع الأول: مستثنيات من القاعدة بالنظر إلى شبهها بقواعدها في الصورة. والنوع الثاني: مستثنيات من القاعدة بالنظر إلى وجود المماثلة الحقيقية.
٦ - في المبحث الثالث تم تقسيم المستثنيات باعتبار معقولية معناها وعدمها إلى نوعين؛ النوع الأول: مستثنيات غير معقولة المعنى، ويمكن تسميتها مستثنيات تعبدية. النوع الثاني: مستثنيات معقولة المعنى.
٧ - في المبحث الرابع تم بيان حكم القياس على المستثنيات من القواعد، إذا كانت المستثنيات معقولة المعنى. ونظراً لأن هذا الموضوع من الموضوعات التي لم يبحثها المؤلفون في علم القواعد الفقهية فقد تم البحث عن مادة علمية تفيد فيه في علم أصول الفقه. وبعد البحث والنظر تبين أن هناك مسألة من مسائل أصول الفقه توافق هذا المبحث، وما قيل فيها يصلح لهذا المبحث، وهي مسألة (القياس على ما عُدل به عن سَنَن القياس، أو القياس على ما ورد به الخبر مخالفاً للقياس).
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره نستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن العلماء قد خدموا هذه الشريعة المباركة بأنواع متعددة من الخدمة، ومن هذه الأنواع استنباط القواعد الفقهية التي بنيت عليها الأحكام، حيث بذلوا جهوداً مباركة في استخراج هذه القواعد، وفي وضع المؤلفات الجامعة لها، والمطلع على المؤلفات في القواعد الفقهية يدرك عظم الجهد المبذول فيها، ومرد ذلك فيما يظهر إلى كثرة فوائد هذه القواعد؛ فإن من فوائد القواعد الفقهية: أنها تغني عن حفظ جزئيات الفقه
1
الكثيرة، ومن فوائدها أنها تعين على معرفة أحكام المسائل الجديدة عن طريق تخريج حكم المسألة على قاعدتها التي يظهر للفقيه اندراجها فيها، وقد ألمح الزركشي لذلك بقوله وهو بصدد تعداد أنواع الفقه :
"(العاشر) معرفة الضوابط التي تجمع جموعاً والقواعد التي ترد إليها أصولاً وفروعاً، وهذه أنفعها وأعمها وأكملها وأتمها، وبه يرتقي الفقيه إلى الاستعداد لمراتب الاجتهاد (١)" (٢).
لكن التخريج على القواعد الفقهية يعرض له أمرٌ يُعَكِّرُ عليه، ألا وهو ورود المستثنيات من القواعد ؛ فإن الفقيه إذا أراد تخريج حكم مسألة على قاعدتها عرض لذهنه احتمال أن تكون هذه المسألة من المسائل المستثناة من القاعدة، وهذا أمر يعكر على صحة التخريج على القواعد بلا شك، وقد أشار إليه الإمام البكري(٣)، حيث قال في بداية كتابه الذي اعتنى فيه بالاستثناء :
" وقد جعلته قواعد أصلية ستمائة، جمعتها كلية، وأخرجت من كل قاعدة فوائد جليلة تعكر على أصلها بقدر فهمي " (٤) .
ونظراً لأهمية الاستثناء من القواعد التي أدركها العلماء فقد نبه عليه بعض العلماء في ثنايا كلامهم عن القواعد، كما فعل الزركشي والسيوطي وابن نجيم .
ومن العلماء من اعتنى بالتنبيه على الاستثناء اعتناء خاصاً، كالإمام الفَنَِّكي الشافعي المتوفى سنة ٤٤٨هــ في كتابه (المناقضات) الذي ذكر بعضُ العلماء أن موضوعه هو (الحصر والاستثناء) والإمام تاج الدين ابن السبكي المتوفى سنة ٧٧١هـ، فقد ذكر أنه اعتنى بالاستثناء في كتاب له كبير في الأشباه والنظائر، وهو غير كتابه الأشباه والنظائر المطبوع المعروف، حيث قال في الكتاب الأخير :
1
" والكافل به، وحصر المستثنيات وعدها: كتابنا الكبير في الأشباه والنظائر " (٥).
والإمام عيسى الغزي الشافعي المتوفى سنة ٧٩٩هـ في كتاب له عن القواعد، ذكر فيه القاعدة وما يستثنى منها، والإمام البكري المتوفى بعد سنة ٨٠٦هـ في كتابه (الاستغناء في الفرق والاستثناء).
وقد عملت في مجال القواعد الفقهية دراسة وتدريساً فترة تزيد على عشرين سنة، وأدركت خلال هذه السنوات الأهمية الكبرى لموضوع الاستثناء من القواعد الفقهية، لكني لم أقف على دراسة اعتنت بالجانب النظري لموضوع الاستثناء، ولهذا رغبتُ أن أقوم بدراسة هذا الموضوع، وبعد الكتابة فيه ظهر لي أنه طويل، فرأيت أن من المناسب تقسيمه إلى عدة بحوث، وخصصت هذا البحث لبيان أنواع المستثنيات من القواعد الفقهية باعتبارات متعددة، ولبيان حكم القياس على المستثنيات، ولهذا سميته (المستثنيات من القواعد الفقهية، أنواعها والقياس عليها) واسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني في هذا البحث للوصول إلى نتائج مفيدة ونافعة.
أهمية الموضوع :
أهمية هذا الموضوع نابعة من أهمية المباحث المندرجة فيه، وهي مع أهميتها لم تأخذ حقها المناسب من البحث والدراسة لدى الباحثين، ومن المباحث المهمة التي تم تناولها في هذا البحث :
١ - أن المستثنيات من القواعد الفقهية تعتبر نوعاً من الفقه، فيجري فيها ما يجري في الفقه من الخلاف، ولهذا يمكن تقسيمها بهذا الاعتبار إلى مستثنيات متفق عليها وأخرى مختلف فيها، مع الإلماح إلى سبب الخلاف، وهذا الموضوع مهم ويحتاج إلى بيان.
1
٢ - أن المستثنيات في الجملة تمثل إشكالاً في طريق التخريج على القاعدة كما سبق التنبيه على ذلك، مع أن بعض المستثنيات قد تكون مما ذُكِر على أنه من مستثنيات القاعدة بالنظر لما فيه من الشبه الصوري بمسائل القاعدة، وعند التحقيق فيه يتبين أنه ليس من المسائل المندرجة في القاعدة أصلاً، ولذلك فهو لا يمثل إشكالاً في طريق تطبيق القاعدة، بخلاف ما دخل في القاعدة بالنظر إلى وجود المماثلة الحقيقية، فهذا هو الذي يصح اعتباره من مستثنيات القاعدة، ويمثل إشكالاً في طريق تطبيقها، ولا بد من تمييز كل نوع منهما عن الآخر، وهذا مما يهدف له هذا البحث.
٣ - المستثنيات من القواعد منها ما يكون غير معقول المعنى، ومنها ما يكون معقول المعنى، وبيان هذين النوعين من الأمور المهمة.
٤ - المستثنى من قاعدةٍ ما ليس شاذاً أو خارجاً عن مقاصد الشريعة، بل إن استثناءه يمثل وجهاً من وجوه كمال الشريعة، بمراعاتها لاختلاف الأحوال، ولذلك فالحكم الذي ثبت لهذا المستثنى يحقق مصلحة شرعية تناسبه، وقد أشار الطوفي لذلك بقوله: "واعلم أن قول الفقهاء: هذا الحكم مستثنى عن قاعدة القياس، أو خارج عن القياس، أو ثبت على خلاف القياس. ليس المراد به أنه تجرد عن مراعاة المصلحة حتى خالف القياس، وإنما المراد به أنه عُدل به عن نظائره لمصلحة أكمل وأخص من مصالح نظائره على جهة الاستحسان الشرعي....... وقد حققت هذا في القواعد الكبرى، والغرض أن كل خارج عن القياس في الشرع في غير التعبدات فهو لمصلحة أكمل وأخص، وهو استحسان شرعي" (٦).
وما دامت هذه حال المستثنى فإنه يتبادر إلى الذهن أنه ينبغي القياس عليه، ولكن قد اشتهر عن طائفة من الأصوليين أن المستثنى لا يقاس عليه، فهذا الموضوع مهم، ويحتاج إلى بحث وبيان، وبيانه من الموضوعات
1
التي كانت محل اهتمام الباحث في هذا البحث.
الدراسات السابقة
الجانب التطبيقي من هذا الموضوع خَدَمَهُ العلماء المتقدمون وبعضُ الباحثين المعاصرين بجهود متنوعة، وهم في هذا الشأن بين مستقل من ذكر المستثنيات ومستكثر.
وأما الجانب النظري من هذا الموضوع فلا يوجد فيه دراسة مستقلة حسب علمي، ومما قيل في هذا الشأن من قِبَل بعض الباحثين المهتمين بالقواعد الفقهية ما قاله الباحث عادل بن عبدالقادر قوته:
"مبحث الاستثناء من القواعد من المباحث التي لم تُطْرَق من قبل الباحثين المعاصرين على أهميته (٧) " (٨).
كما أنه لا يوجد فيه دراسة موسعة ضمن عملٍ علمي آخر، ولكن هناك دراستان ينبغي التنبيه عليهما من منطلق أن المطلع على عناوينهما يرد على ذهنه احتمال بحثهما لهذا الموضوع:
الدراسة الأولى: تحقيق كتاب (الاستغناء في الفرق والاستثناء للبكري).
إعداد: الدكتور / سعود بن مسعد الثبيتي.
وتحقيق هذا الكتاب في الأصل رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى، وهو كتاب متخصص في الاستثناء من القواعد، وقد قَدَّم الباحث للتحقيق بقسمٍ دراسي تناول فيه عدة موضوعات، من بينها بعض قضايا الاستثناء، حيث تحدث عن تعريف الاستثناء في اللغة وعند الأصوليين، ولم يتحدث عن تعريف الاستثناء من القواعد، كما تحدث عن أهم الكتب التي تعتني بذكر الاستثناء، ولكنه تناول هاتين القضيتين بشكل مختصر جداً، حيث تحدث عنهما في نحو ثلاث صفحات فقط (٩)، كما
1
أنه ترك قضايا أخرى كثيرة مهمة تندرج في الدراسة النظرية للاستثناء، ومنها الموضوعات التي تم تناولها في هذا البحث.
الدراسة الثانية: المستثنيات في العبادات والمعاملات وقواعدها الشرعية التي تَرِدُ عليها في الفقه الإسلامي(١٠).
إعداد: الباحث / نجاح عثمان أبو العينين إسماعيل.
وهذا البحث رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الماجستير من كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، في عام ١٤١٧هـ.
ويظهر من عنوانها أن مقصود الباحث دراسة المستثنيات في العبادات والمعاملات دراسة فقهية، وهذا ما ثبت لي من الاطلاع عليها، ولكن الباحث قدم للرسالة بفصل سماه (الفصل التمهيدي) تحدث فيه عن عدة موضوعات تتعلق بالجوانب النظرية للقواعد الفقهية، ومن بينها الاستثناء من القواعد، تحدث فيه عن تعريف الاستثناء في اللغة وفي اصطلاح الأصوليين، وذلك في نصف صفحة(١١)، ثم تحدث لاحقاً عن معنى المستثنيات من القواعد، وذلك في ثلاثة أسطر(١٢)، ولم يتحدث عن موضوعات أخرى تتصل بالجانب النظري للاستثناء سوى ما سبق.
ومن خلال العرض السابق للدراسات السابقة يتبين أن الجانب النظري من موضوع الاستثناء من القواعد الفقهية لا يزال بحاجة ماسة إلى خدمته بالبحث والدراسة.
خطة البحث
يتكون البحث من مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة.
المقدمة: وهي التي نتحدث فيها الآن.
التمهيد: معنى القاعدة الفقهية وأركانها ومعنى الاستثناء من القواعد.
1
وفيه ثلاثة مطالب :
المطلب الأول : معنى القاعدة الفقهية.
المطلب الثاني : أركان القاعدة الفقهية.
المطلب الثالث : معنى الاستثناء من القواعد.
المبحث الأول : أنواع المستثنيات باعتبار الخلاف فيها وعدمه.
المبحث الثاني : أنواع المستثنيات باعتبار وجه شبهها بقواعدها.
المبحث الثالث : أنواع المستثنيات باعتبار معقولية المعنى وعدمها.
المبحث الرابع : القياس على المستثنيات من القواعد.
الخاتمة : وتتضمن أهم نتائج البحث باختصار.
منهج البحث
هذا البحث كغيره من البحوث مر بمرحلتين أساسيتين؛ أولاهما: مرحلة جمع المادة العلمية، وثانيتهما: مرحلة الكتابة.
ففيما يتعلق بمرحلة جمع المادة العلمية حرصت على اتباع منهج يضمن استقراء معظم ما قيل في موضوع البحث، واعتنيت بقواعد (مجلة الأحكام العدلية)(١٣) نظراً لكثرة شروحها، حيث حرصت على تتبع معظم ما قيل بشأن هذه القواعد مما له علاقة بالاستثناء، ومن أجل ذلك قمت بتصميم ورقة لهذا الغرض، حيث طبعت عليها معلوماتٍ على الوجهين، وهذه المعلومات تتضمن عناوين الموضوعات الرئيسة في خطة البحث، بحيث يكون أمام كل عنوان مساحة مناسبة لكتابة ما يخص هذا العنوان، ثم صورت هذه الورقة بعدد قواعد المجلة، وخَصَّصْتُ لكل قاعدة ورقة، ثم قمت بقراءة ما قيل عن كل قاعدة في جميع شروح المجلة التي توافرت عندي (١٤)، ورتبتها عند القراءة على ترتيبها الزماني، ونقلت من كل شرح ما يوجد فيه مما يخدم هذه الموضوعات، فإن تكررت المعلومة نقلتها من
1
السابق، وأحلت للاحق ليمكن الرجوع إليه عند الحاجة.
ونظراً لأن الاستثناء لا يوجد في جميع القواعد، فإني بعد الفراغ من قراءة شروح المجلة قمت بتمييز أوراق القواعد التي فيها مستثنيات عن أوراق القواعد الأخرى (١٥)، ثم توسعت في القراءة عن القواعد التي فيها مستثنيات، وذلك بالاطلاع على شروحها في عدد من كتب القواعد الفقهية للنظر فيما فيها من معلومات إضافية عن المستثنيات من تلك القواعد.
كما أنني قمت بجردٍ لمعظم كتب القواعد الفقهية لدى المتقدمين والمعاصرين، واستخرجت منها في بطاقات كل ما له علاقة بموضوع البحث.
هذا ما يتعلق بمرحلة جمع المادة العلمية، وأما مرحلة الكتابة فقد سبقها في كثير من المباحث مرحلة طويلة من التأمل والتفكير في المادة العلمية التي تم جمعها، نظراً لأن تلك المباحث من الموضوعات التي لم يسبق فيها كتابة مبسوطة تؤدي إلى تصور الموضوع، وبعد ارتسام صورة الموضوع في الذهن كنت أقوم بكتابته، وقد يظهر من كتابة الموضوع لأول مرة أن فكرته لم تنضج في الذهن، فلا تحصل القناعة بما تمت كتابته، ولذلك قد أعيد كتابة بعض الموضوعات مرة ثانية، وقد سرت في كتابة هذا البحث على المنهج الذي تواضع عليه الباحثون، ومن أبرز معالمه:
١- الاعتماد على المصادر الأصيلة فيما كان عمدة الباحث فيه هو النقل، مع ملاحظة أن هناك مواضع من البحث قائمة على استنتاج الباحث.
٢- الحرص على توازن المادة العلمية في أقسام البحث.
٣- بيان أرقام الآيات، وعزوها إلى سورها.
٤- تخريج الأحاديث من مصادرها من كتب السنة.
٥- عزو نصوص العلماء وآرائهم لكتبهم مباشرة، إلا عند تعذر ذلك فيتم التوثيق بالواسطة.
1
٦ - توثيق المعاني اللغوية من كتب اللغة.
٧ - توثيق المعاني الاصطلاحية من مصادرها ومراجعها المناسبة.
٨ - ترجمة الأعلام ترجمة موجزة، وأَخَّرْتُ الترجمة لمن ورد اسمه في هذه المقدمة إلى متن البحث جرياً على ما تعارف عليه الباحثون من تقليل الهوامش في المقدمة، إلا من ورد اسمه في هذه المقدمة فقط فقد ترجمت له فيها.
٩ - العناية بضرب الأمثلة التي توضح الجانب النظري من الدراسة.
١٠ - الحرص على التنويع في الأمثلة قدر الإمكان، ولكن بعض الأمثلة قد تكررت نظراً لكونها أنسب من غيرها في التمثيل بها في الموضعين.
١١ - حيث إن المقصود من ضرب الأمثلة هو توضيح الجانب النظري فقط، فإني لم أدخل في مناقشة تلك الأمثلة، وإن كان لي رأي حول بعضها.
وفي آخر هذه المقدمة أود أن أبين أن موضوع هذا البحث يحتاج إلى الدقة وطول التأمل والنظر، وفيه مواضع تحتاج إلى نوع اجتهاد نظراً للجدة في طرحها، وما كان من الموضوعات بهذه الصفة لا يأمن الباحث فيه من وقوع الخطأ أو التقصير، لكنني بذلت فيه غاية وسعي، ومنتهى جهدي، فآمل ممن اطلع عليه أن يلتمس لي فيه العذر، وأسأل الله أن أكون قد توصلت فيه إلى نتائج مفيدة ونافعة. والله الموفق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1
التمهيد
معنى القاعدة الفقهية وأركانها ومعنى الاستثناء من القواعد
المطلب الأول: معنى القاعدة الفقهية
معنى القاعدة الفقهية من الموضوعات التي تكلم عنها بعض العلماء المتقدمين، وأفاض فيها جمع من الباحثين المعاصرين، وليس المقصود من هذا التمهيد استعراض التعريفات ودراستها، ولكن المقصود إعطاء فكرة مختصرة عما قيل في تعريف القاعدة الفقهية نظراً لأن القواعد الفقهية جزء من عنوان البحث.
وسأبدأ بمعنى القاعدة في اللغة، ثم أَتْبِعُهُ ببيان معنى القاعدة الفقهية في اصطلاح الفقهاء.
معنى القاعدة في اللغة:
القاعدة في اللغة اسم فاعل من قَعَدَ، يقال: قعد يقعد قعوداً، فهو قاعد، وهي قاعدة، والقعود معناه: الجلوس(١٦)، والقعود: نقيض القيام(١٧)، ويشتق من القعود مشتقات عديدة منها قاعدة الشيء، وقاعدة الشيء معناها: الأُسُّ والأَساس، وجمع الأُسِّ: إساس، مثل: عُس وعِساس، وجمع الأَساسِ: أُسُس، مثل: قَذَال وقُذُل(١٨)، والأُسُّ والأساس معناهما: أصل الشيء وما يبتدئ منه الشيء(١٩)، وسميت القاعدة بذلك لأنها أصل لما فوقها، ومنها يبتدئ الشيء؛ ومن ذلك: قواعد البيت، وهي أَسسه التي يُبنَى عليها، كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة / ١٢٧]، ومن ذلك: قواعد الهودج: وهي أُسسه، وهي عبارة عن خشبات أربع معترضة في أسفله تركب عيدان الهودج فيها، ومن ذلك: قواعد السحاب: وهي الطبقة السفلى من السحاب، ولعلها مشَبَّهة بقواعد البناء، من جهة أنها في أسفل السحاب، فكأن السحاب مبنيٌ عليها(٢٠).
وما تقدم من استعمالات للقاعدة هو في أمور حسية، إلا أننا نرى أن
1
القاعدة استعملت في أمور معنوية، ومن ذلك قواعد العلوم، كقولنا : قواعد النحو، وقواعد الأصول، وقواعد الفقه، وهكذا، وإطلاق لفظ (القاعدة) على قواعد العلوم إطلاق صحيح، ووجهه : أن العلوم مبنية عليها، فهي أُسس هذه العلوم، وعليها بُنِيَت تلك العلوم.
معنى القاعدة الفقهية في الاصطلاح :
الاصطلاح المقصود في هذا المقام هو اصطلاح الفقهاء، وقد ذكر الفقهاء المتقدمون وبعض الباحثين المعاصرين تعريفات متعددة للقاعدة الفقهية.
ومن أبرز تعريفات المتقدمين للقاعدة الفقهية التعريفات الآتية :
التعريف الأول : ذكره ابن السبكي(٢١) بقوله:
" ... إذا عُرِف ذلك، فالقاعدة: الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة يفهم أحكامها منها " (٢٢).
التعريف الثاني : ذكره الحموي(٢٣) بقوله :
" هي عند الفقهاء حكم أكثري لا كلي ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها منه " (٢٤)
التعريف الثالث : ذكره التاجي(٢٥) بقوله :
"عند الفقهاء: قضية أكثرية تنطبق على أكثر جزئيات موضوعها" (٢٦).
وبالتأمل في التعريفات السابقة يظهر أنها ترجع لتصورين رئيسين بشأن القاعدة الفقهية :
التصور الأول : أن القاعدة الفقهية شيء كلي، بمعنى أنه يدخل فيه كل الجزئيات التي ينطبق عليها، وهذا التصور واضح في التعريف الأول. وأصحاب هذا التصور أخذوا به من منطلق أن الشأن في القاعدة في أي علم أن تكون كلية، ومن ذلك القاعدة الفقهية.
وهذا التصور أخذ به معظم الباحثين المعاصرين في تعريفهم للقاعدة.
1
الفقهية. (٢٧)
التصور الثاني: أن القاعدة الفقهية شيء أكثري، بمعنى أنه يدخل فيه أكثر الجزئيات التي ينطبق عليها، وهذا التصور بَيِّنٌ في التعريف الثاني والثالث، وأصحاب هذا التصور أخذوا به من منطلق أن القواعد الفقهية يوجد لها بعض المستثنيات التي لا ينطبق عليها حكم القاعدة، ولذلك فالقاعدة عندهم منطبقة على أكثر الجزئيات لا كلها.
وهذا التصور أخذ به بعض الباحثين المعاصرين عند تعريفهم للقاعدة الفقهية (٢٨).
وإذا تجاوزنا هذين التصورين، وأعدنا النظر في التعريفات المتقدمة نجد أنه يمكن إبداء بعض الملحوظات عليها، وهذه الملحوظات كانت هي السبب فيما اقترحه الباحثون المعاصرون من تعريفات، ومن هذه الملحوظات ما يأتي:
الملحوظة الأولى : وهي تتعلق بالجنس المستعمل في هذه التعريفات؛ فالجنس في بعضها هو لفظ (الأمر) وفي البعض الآخر لفظ (حكم) وفي آخرها لفظ (قضية).
فأولها - وهو لفظ (الأمر) - فيه عموم كثير، فيدخل فيه ما ليس من القواعد أصلاً، وهو المفردات الكلية التي لا تكون قواعد (٢٩)، وثانيها - وهو لفظ (حكم) - لا يمثل القاعدة حقيقة إلا بنوع من التجوز، وهو التعبير بالجزء عن الكل؛ وذلك لأن الحكم جزء من أجزاء القاعدة، وليس كل القاعدة؛ فالقاعدة تتكون من حكم ومحكوم عليه، وأما اللفظ الثالث - وهو (قضية) - فالظاهر أنه أفضل تلك الألفاظ في كونه جنساً في تعريف القاعدة؛ من جهة أن القضية تشمل الحكم والمحكوم عليه، وهما مكونات القاعدة.
الملحوظة الثانية : التعريفات المتقدمة لا يوجد فيها ما يُشْعِر بعلاقتها
1
بالفقه، ولذلك فهي غير مانعة من دخول القواعد في العلوم الأخرى.
وقد يقال: إن ابن السبكي خاصة لم يقصد بالتعريف الذي أورده تعريف القاعدة الفقهية، بل أراد تعريف القاعدة في الاصطلاح العام، حيث إن التعريف الذي ذكره هو تعريف للقاعدة في الاصطلاح العام كما ذكر غيره.
والجواب عن ذلك: أن ابن السبكي لم ينص حقيقة على أن التعريف الذي ذكره هو تعريف للقاعدة الفقهية، لكن المتأمل لكلامه يجد أن القرائن السابقة للتعريف واللاحقة له تدل على أن ابن السبكي قصد تعريف القاعدة الفقهية.
وقد حاول بعض المعاصرين اقتراح تعريفات للقاعدة الفقهية يراعى فيها تجنب الملحوظتين السابقتين، ومنها ما يأتي:
التعريف الأول : وقد ذكره الدكتور محمد بن عبد الغفار الشريف بقوله: "قضية شرعية عملية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها" (٢٠).
فهذا التعريف يلحظ فيه أن صاحبه استعمل في التعبير عن جنس المعرف لفظ (قضية)، وذلك لتلافي الملحوظة الأولى، كما استعمل عبارة (شرعية عملية) للإشارة إلى علم الفقه؛ فالفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، وذلك لتلافي الملحوظة الثانية.
التعريف الثاني : وقد ذكره الدكتور يعقوب الباحسين بقوله: "قضية كلية شرعية عملية، جزئياتها قضايا كلية شرعية عملية. أو: قضية فقهية كلية، جزئياتها قضايا فقهية كلية" (٣١).
وبنحو ذلك عرفها الباحث عبدالسلام الحصين، إلا أنه حذف آخره، حيث قال: "قضية كلية فقهية، أو حكم كلي فقهي" (٢٢).
وهذا التعريف يلاحظ فيها تلافي الملحوظتين السابقتين.
1
المطلب الثاني : أركان القاعدة الفقهية
القاعدة في الاصطلاح العام (هي قضية كلية ... )(٢٣)، وما دامت قضية فمكوناتها هي مكونات القضية (٢٤)، وقد ذكر بعض علماء المنطق أن أجزاء القضية أو أركانها ثلاثة، وهي نفسها أركان القاعدة :
الركن الأول : الموضوع، أو المحكوم عليه ؛ وسمي موضوعاً لأنه وُضِعِ لِيُحكم عليه بشيء.
الركن الثاني : المحمول، أو المحكوم به على الموضوع ؛ وسمي بذلك لحمله على غيره.
الركن الثالث : الحكم، وهو إدراك وقوع النسبة بين الركنين السابقين، أو عدم وقوعها، ويسمى اللفظ الدال عليها عند المناطقة (الرابطة)، ويمكن أن يستعمل لها من الألفاظ لفظ (يكون) وما في معناها في حال الإيجاب، ولفظ (لا يكون) في حال السلب (٣٥).
ولتوضيح هذه الأركان من خلال قاعدةٍ ما نقول : القاعدة النحوية التي نصها (الفاعل مرفوع)؛ الركن الأول فيها هو قولهم (الفاعل)، والركن الثاني هو قولهم (مرفوع)، والركن الثالث مقدر تقديره (يكون).
لكن المتأمل في الركن الثالث يظهر له أنه لا حاجة له في اللغة العربية ؛ فالسامع للقاعدة السابقة يدرك المراد منها - وهو أن حكم الفاعل الرفع - بدون حاجة لتقدير ذلك الرابط (٣٦)، ولعل منشأ الكلام في تقديره لدى من كتب في المنطق من علماء العرب هو أن بعض أمهات كتب المنطق كانت مترجمة من لغات أخرى غير العربية، وتلك اللغات يلزم فيها ذكر الرابط بين الموضوع والمحمول، وعند ترجمة تلك الكتب إلى العربية قام المترجمون بترجمة هذا الرابط بغض النظر عن عدم الحاجة إليه في اللغة العربية (٢٧)، ومن الشواهد المعاصرة على ذلك ما نعلمه في اللغة الإنجليزية
1
من الحاجة إلى الرابط في مثل قولنا (الفاعل مرفوع)، ففيها لا بد من ذكر ما يسمى بفعل الكون، وله صيغ متعددة حسب نوع الاسم السابق له، فلا بد فيها أن يقال في مثل القاعدة السابقة (الفاعل يكون مرفوعاً).
وما دام الأمر كذلك فإنه يمكن أن يستغنى عن الركن الثالث، ويقال : إن مكونات القاعدة عموماً ركنان ؛ أولهما : الموضوع. وثانيهما : المحمول . ويمكن أن نسميه الحكم، وبذلك نصل إلى أن ركني القاعدة هما المحكوم عليه والحكم(٣٨).
والقاعدة الفقهية كالقاعدة في الاصطلاح العام (قضية كلية) وإذا كانت القاعدة الفقهية (قضية كلية) فأركانها هي أركان القاعدة في الاصطلاح العام التي سبق بيانها قريباً ؛ فأركان القاعدة الفقهية ركنان، وهما المحكوم عليه والحكم.
ولبيان هذين الركنين في بعض القواعد الفقهية نقول : إن من القواعد الفقهية القواعد الآتية :
اليقين لا يزول بالشك.
المشقة تجلب التيسير.
الضرر يزال.
العادة محكمة.
فالقاعدة الأولى : المحكوم عليه فيها هو (اليقين) والحكم (هو كونه لا يزول بالشك)، والقاعدة الثانية : المحكوم عليه فيها هو (المشقة) والحكم (هو كونها تجلب التيسير)، والقاعدة الثالثة : المحكوم عليه فيها هو (الضرر) والحكم (هو وجوب إزالته)، والقاعدة الرابعة : المحكوم عليه فيها هو (العادة) والحكم (هو كونها محكمة).
وهاهنا أمر أرى أنه يحسن التنبيه عليه، وهو أنه قد ظهر لي من النظر في كثير من القواعد الفقهية أن المحكوم عليه يمثل علة الحكم أو
1
يشير إليها ؛ وذلك لأن حقيقة العلة موجودة فيه ؛ فحقيقة العلة أنها عبارة عن وصف أنيط به الحكم، أي أن الحكم أُضِيف إليه (٣٩)، وهذه الحقيقة موجودة في المحكوم عليه في القواعد الفقهية.
فمثلاً : قاعدة (الضرر يزال) الحكم فيها هو (مشروعية الإزالة) والمحكوم عليه هو (الضرر)، وهذا المحكوم عليه يمثل علة ذلك الحكم؛ لأن إزالة الشيء معلقة بوصف كونه ضرراً، فيقال: إن كون الشيء ضرراً هو علة مشروعية إزالته.
ومثال آخر: قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) الحكم فيها هو (منع إزالة اليقين بالشك) والمحكوم عليه هو (اليقين)، والمحكوم عليه هو علة الحكم، فيقال: إن كون الشيء في درجة اليقين هو علة منع إزالته بالشك.
ومثال ثالث: قاعدة (المشقة تجلب التيسير) فالحكم فيها هو (جلب التيسير) والمحكوم عليه هو (المشقة)، والمشقة هنا قد يقال: إنها ليست علة الحكم، ولكنها تشير إلى علة الحكم، وهي ما يتضمن المشقةَ من الأوصاف الظاهرة المنضبطة، ڪالسفر والمرض وغيرها من أسباب التخفيف التي وردت بشأنها نصوص خاصة، وقد يقال: إن المشقة نفسها علة للحكم(٤٠)، كما هو الحال في بعض المسائل التي أفتى فيها العلماء بالتيسير والتخفيف بناء على وجود المشقة فقط، من غير ورود أدلة خاصة بشأن تلك المشقة، ڪبعض التخفيفات التي ذكرها العلماء في العسر وعموم البلوى (٤١).
واعتبار المحكوم عليه في القاعدة علة للحكم الوارد فيها هو مما ظهر لي من النظر في القواعد الفقهية، ولم أقف على من نص عليه من علماء القواعد، ونظراً لأهمية هذا الرأي لما يمكن أن يُبْنَى عليه من نتائج لاحقة في هذا البحث وغيره فقد حاولت البحث عن شيء يمكن أن يشهد
1
لصحته من كلام العلماء المتقدمين، وبعد البحث وقفت على شاهدين يمكن أن يشهدا لصحته :
الشاهد الأول : وهو نص لابن السبكي ألمح فيه لهذا الرأي، حيث كان يتكلم عن تعريف القاعدة والضابط والمُدْرَك والتفريق بينها، فكان مما قاله في هذا الشأن :
" وإن شئت قل: ما عم صوراً ؛ فإن كان المقصود من ذكره القدر المشترك الذي به اشتركت الصور في الحكم فهو المُدْرَك، وإلا ؛ فإن كان القصد ضبط تلك الصور بنوع من أنواع الضبط من غير نظر في مأخذها فهو الضابط، وإلا فهو القاعدة " (٤٢).
فمن النص السابق نأخذ : أن القاعدة هي ما كان القصد منه ضبط الصور - والمراد بها الفروع الفقهية - بنوع من أنواع الضبط، مع ذكر مأخذها، والمراد بالمأخذ هنا مأخذ الحكم الوارد في القاعدة، وهو العلة، وإذا كانت القاعدة الفقهية مكونة من ركنين، وهما الحكم والمحكوم عليه، تعين أن يكون المأخذ هو المحكوم عليه، وهو علة الحكم.
كما أن النص السابق يفهم منه أن (المُدْرَك) هو المعنى الجامع الذي بسببه اشتركت الصور في الحكم، فهو يمثل علة الحكم، وقد أشار الدكتور يعقوب الباحسين إلى أن (المدرك) أمر يغلب وجوده في القواعد الفقهية، فقال :
" ولا يبدو أن المدرك قسيم للضابط أو القاعدة، بل هو معنى قد يقوم بهما وقد يتخلف عنهما، لكن الغالب في القواعد أن تكون مدركاً أيضاً (٤٣)، كقاعدة (المشقة تجلب التيسير) فإنها مدرك التخفيفات الشرعية، ومشعرة بأن سببها هو المشقة الحاصلة من الفعل عند عدم التخفيف " (٤٤)
الشاهد الثاني : وهو نص للغزالي (٤٥)، قال فيه :
1
"اعلم أن العلة إذا ثبتت فالحكم بها عند وجودها حكم بالعموم؛ فإنه إذا ثبت أن الطعم علة انتظم عنه أن يقال: كل مطعوم ربوي، والسفرجل مطعوم، فكان ربوياً. وإذا ثبت أن السكر علة انتظم أن يقال: كل مسكر حرام، والنبيذ مسكر، فكان حراماً. وكذلك في كل علة دل الدليل على كونها مناطاً للحكم، فينتظم منها قضية عامة كلية تجري مجرى عموم لفظ الشارع، بل أقوى" (٤٦).
فعبارة "كل مطعوم ربوي" وعبارة "كل مسكر حرام" أوردهما مثالاً على أن الحكم بالعلة عند ثبوتها هو حكم بالعموم، فهذا يشير إلى أن كل عبارة من العبارتين السابقتين تتضمن حكماً وعلة، والعلة فيهما هي المحكوم عليه، وحيث إن كل عبارة منهما تعتبر قاعدة أو ضابطاً فإن هذا يدل على أن المحكوم عليه في القاعدة الفقهية يعتبر علة للحكم الوارد فيها.
وقد قال الغزالي في آخر النص السابق عن العلة: "فينتظم منها قضية عامة كلية" وهذه العبارة تمثل حقيقة القاعدة الفقهية كما يظهر مما سبق في تعريف القاعدة الفقهية، وفي هذا إشارة إلى وجود العلة في القاعدة الفقهية، وإذا كانت القاعدة الفقهية مكونة من ركنين، وهما الحكم والمحكوم عليه، تعين أن يكون المحكوم عليه هو علة الحكم.
المطلب الثالث: معنى الاستثناء من القواعد
قبل البدء في بيان معنى الاستثناء من القواعد، أرى أن من المناسب بيان معنى الاستثناء في اللغة؛ فإن ذلك مما يساعد على بيان معنى الاستثناء من القواعد.
معنى الاستثناء في اللغة:
الاستثناء في اللغة مصدر استثنى، يقال: استثنى يستثني استثناءً،
1
والألف والسين والتاء فيه زائدة، وحيث إن الألف والسين والتاء فيه زائدة فحروفه الأصلية هي الثاء والنون والياء، فمصدره (الثني) وماضيه (ثنى)، يقال: ثنى يثني ثنياً، وقد بين ابن فارس(٤٧) معنى الثني فقال:
" (ثنى) الثاء والنون والياء أصل واحد، وهو تكرير الشيء مرتين، أو جعله شيئين متواليين أو متباينين، وذلك قولك ثنيت الشيء ثنياً "(٤٨).
وهذا المعنى الذي ذكره ابن فارس للثني ذكره عدد من علماء اللغة، كما ذكروا للثني معاني أخرى.
منها: العطف.
ومنها: الكف.
ومنها: الصرف.
ومنها: الرد.
قال الجوهري(٤٩): " وثنيت الشيء ثنياً: عطفته. وثناه: أي كفه. يقال: جاء ثانياً من عنانه. وثنيته أيضاً: صرفته عن حاجته "(٥٠).
وقال ابن منظور(٥١): " ثنى الشيء ثنياً: ردَّ بعضه على بعض"(٥٢).
وبعض استعمالات مادة (ثنى) في اللغة قد يفهم منها معنى (الإخراج) وإن لم يصرح به، ومن هنا نلحظ أن عدداً من الأصوليين اعتبر لفظ (الإخراج) جنساً في تعريف الاستثناء في الاصطلاح.
معنى الاستثناء من القواعد
مصطلح الاستثناء من القواعد لم أجد له تعريفاً فيما اطلعت عليه من كتب المتقدمين ممن ألف في القواعد الفقهية.
ونظراً لعدم الوقوف على تعريف لهذا المصطلح لدى المتقدمين فقد حاولت وضع تعريف له، بعد التأمل والنظر في معالم الاستثناء من القواعد عند المتقدمين التي يمكن أن توضح صورته الذهنية عندهم، فأقول :
1