الكواشف الجلية في حكم قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية

Arfa Bin Tantaoui d. Unknown

الكواشف الجلية في حكم قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية

الكواشف الجلية في حكم قراءة القرآن بالمقامات الموسيقية

Noocyada

مُلَخَّصُ البَحْثِ فهذا بحث مختصر مفيد وسمه الباحث: بـ " الكَوَاشِفِ الجَلِّيِةِ فِي حُكمِ قِرَاءَةِ القُرْآنِ بِالمَقَامَاتِ المُوُسِيِقِيَّةِ، وقد بيَّن فيه جامعُه الفرقَ بين حقيقة التغني بالقرآن المأمور به شرعًا وبين القراءة بـ"المقامات الموسيقية"، والتي يسميها البعض بـ"" المقامات الصوتية" هروبًا من مسماها الأصلي، مع توضيح وتجلية الفرق بينهما. وإنما تأتي تسميتها بغير اسمها من باب قلب الحقائق، لترويج الباطل، وذلك ليسوغ للمتلقِّي قبولها واستحسانها، غير معظمٍ لحرمتها، وذلك لما تضفيه علي تلك المسميات "التي تقلب الحقائق" عن أصلها -الباطل- إلى قالب مستساغ "لفظُه" من أسماء براقة، وذلك ليهون من فظاعتها وفظاظتها وشدة قبحها وحرمتِها. دِيْبَاجَةُ البَحْث الحمدُ لله الذي أنزلَ كتابَه المجيدَ على أحسنِ أسلوب، وبهرَ بحسنِ أساليبِه وبلاغةِ تركيبِه القلوب، نزَّله آياتٍ بيِّناتٍ، وفصَّله سورًا وآياتٍ، ورتَّبَه بحكمتِه البالغةِ أحسنَ ترتيب، نظَمَه أعظمَ نظامٍ بأفصحِ لفظٍ وأبلغِ تركيبٍ، وصلَّى الله على من أُنزل إليه لينذرَ به وذكرى، ونزله على قلبهِ الشَّريفِ فنفى عنه الحرجَ وشرحَ له صدرًا، وعلى آله وصحبِه مهاجرةً ونصرًا .. (^١).

(^١) يُنظر: أسرار ترتيب القرآن للسيوطي: (ص: ٦٥). أسرار ترتيب القرآن المؤلف: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: ٩١١ هـ) الناشر: دار الفضيلة للنشر والتوزيع عدد الأجزاء: ١.

72 / 103

خطة البحث وقد ضمَّن الباحثُ بحثَه خطة بحث مكونة من فصلين، ويندرج تحت كل فصل عدد من المباحث، وكل مبحث يندرج تحته عدد من المطالب، وقد بيَّن فيه ما يلي: أولًا: أهمية موضوع البحث ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه خامسًا: منهج البحث سادسًا: خاتمة البحث، وبيان أهم النتائج التي توصلت لها تلك الدراسة المختصرة. سابعًا: فهرس الموضوعات وخطة البحث تتكون من فصلين، ويندرج تحته كل فصل عدد من المباحث، وتحت كل مبحث عدد من المطالب على النحو التالي: الفصل الأول حقائق المسميات- والمعازف وما إليها وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: قلب المسميات عن حقائقها "سنة إبليسية" وفيه مطلبان: المطلب الأول: قدم السبق في تغيير المسميات المطلب الثاني: بداية قلب المسميات عن حقائقها كما وردت في القرآن المبحث الثاني: معالجة الألفاظ الواردة في معنى التغني بالقرآن وفي ستة مطالب: المطلب الأول: وجوب التحاكم للغة القرآن عند التنازع في المسميات المطلب الثاني: معنى الترنم في اللغة المطلب الثالث: معنى "النغم" في اللغة المطلب الرابع معنى "الغناء" في اللغة المطلب الخامس: معنى "التطريب" في اللغة المطلب السادس: بيان مفهوم الموسيقى المبحث الثالث: حكم استحلال المعازف وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: عقوبة استحلال المعازف المطلب الثاني: الإجماع على تحريم السماع المطلب الثالث: تحذير العلماء من خطر المعازف الفصل الثاني المقامات الموسيقية وما إليها وفيه مبحثان: المبحث الأول: موقف السلف من المعازف وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: يقظة السلف مبكرًا المطلب الثاني: حَسْمُ الخلافِ في مسألة ما يسمى بـ"المقامات الموسيقية" المطلب الثالث: منع القراءة بالألحان هو الموقف العدل عند أهل الإسلام

72 / 104

المطلب الربع: إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية المطلب الخامس: اتفاق أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية المبحث الثاني: تنبيهات هامة حول "المقامات الموسيقية" وما إليها وفيه أربعة مطالب: المطلب الأول: التنبيه الأول: أن قراءة القرآن "المقامات الموسيقية" أمر محدث المطلب الثاني: التنبيه الثاني: وجوب تنزيه القرآن عن "المقامات الموسيقية" لأن تلاوته عبادة المطلب الثالث: التنبيه الثالث: تعلم "المقامات الموسيقية" صارف عن تدبر القرآن المطلب الرابع: التنبيه الرابع: التحذير من تكرار أكبر الفواجع منهجية البحث أولًا: أهمية موضوع البحث تكمن أهمية موضوع البحث في تعلقه بجانب عظيم من أهم الجوانب المتعلقة بتلاوة كتاب الله وصفة أدائه، حيث تعدي فئام كثيرة من الناس حدود الله في هذا الجانب، ولاسيما ممن بُرِّزوا كقدوات في القراءة وجودة الأداء ممن تصدروا للقراءة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل حتى أضحى الكثير من الناس يحتج بهم وبأدائهم وكثُر من يقلدهم ويحاكيهم في الأداء وفي طريقة تلاوتهم للقرآن الكريم. ثانيًا: أهم الدراسات السابقة وأبرزها لم يقف الباحث في حدود بحثه الضيق وجهده المقل على دراسة علمية تأصيلية تناولت موضوع البحث بدراسة مستقلة. ثالثًا: أسباب ودواعي اختيار موضوع البحث ترجع أهم أسباب اختيار موضوع البحث لأهمية تقديم دراسات علمية مؤصلة تبرز حقيقة ما يسمى بـ" المقامات الموسيقية"، والتلاعب في تغيير مسماها إلى " المقامات الصوتية" من باب تسميتها بغير اسمها، قلبًا للحقائق، وترويجًا للباطل، ليسوغ للمتلقِّي قبولها، واستحسانها بمسماها الجديد حتى لا يعبأ بحرمتها، ثم الكشف اللغوي عن حقيقة العبارات المستخدمة في الترغيب في تحسن الصوت بالتلاوة كـ"النغم" و"الغناء" و"التطريب" والتي قد يتحج بها البعض على جواز تلاوة القرآن بتلك المقامات. وتأتي هذه الدراسة لتقدم الحلول الشرعية ببيان حقيقة تلك المقامات وحكم

72 / 105

تلاوة القرآن بها مقرونة بالأدلة والحجج والبراهين مشفوعة بفتاوى أهل العلم-قديمًا، وحديثًا- وبيان أقوالهم في حكم تلاوة القرآن بتلك المقامات. رابعًا: مشكلة البحث وأهدافه تكمن مشكلة البحث فيما يلي: ١ - شيوع تلاوة القرآن بتلك المقامات من قبل أعلام كبار شهدت لهم الدنيا كلها بجودة التلاوة وحسن الأداء مما اتخذ عموم الناس تلاواتهم مثالًا يحتذى، ومن ثم يتم محاكاتهم وتقليدهم. ٢ - انتقال طريقة التلاوة بالمقامات عبر الأجيال بحيث يتلقها كل جيل عن الجيل السابق له على أنها من المسلمات وكأنها وحيٌ يوحى ٣ - شيوع انتشار تعلم تلك المقامات وإقبال الشباب عليها بصفة خاصة، حتى أصبح لها فئة متخصصة تدرسها في دورات علمية منظمة وتمنح شهادات معتمدة بمقابل مادي. ٤ - عدم قبول القراء في بعض الإذاعات إلا بعد إتقان وتعلم تلك المقامات، بل ويعقد لهم اختبار على يد متخصص في هذا المجال، ولا يحق لأحد منهم الالتحاق كقارئ بالإذاعة إلا بعد تجاوز اختبار التلاوة بالمقامات. ٥ - ويهدف البحث لمعالجة تلك الإشكالات الواردة على البحث بمنهجية علمية تأصيلية مقرون بالحجة والبرهان في ضوء كتاب الله وهدي النبي العدنان- ﷺ خامسًا: منهج البحث المنهج الوصفي التحليلي: لقد تناول الباحث تلك الدراسة بمعالج قضية قلب المسميات عن حقائقها وبين أن قدم السبق في تغييرها "سنة إبليسية"، ثم قام بمعالجة الألفاظ الواردة في معنى التغني بالقرآن في ضوء مدلولها اللغوي مستشهدًا بكلام أئمة العلم وتوجيههم، ثم تكلم عن المعازف وخطورتها وحكم استحلالها وموقف السلف منها. ثم تناول قضية البحث في حكم تلاوة القرآن بما يسمى بـ"المقامات الموسيقية" ثم حَسَمَ الخلافَ الوارد فيها ونقَل إجماع السلف على تحريمه وتجريمه، ثم نقَل فتوى العلماء القاضية بحرمتها- قديمًا وحديثًا. ثم بيَّن أن تلاوة القرآن عبادة، وأن تلاوته بتلك المقامات أمر محدث في دين الله فيجب تنزيهه عنها لأنها صارفة عن تدبره.

72 / 106

الفصل الأول حقائق المسميات - والمعازف وما إليها وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: قلب المسميات عن حقائقها "سنة إبليسية" المطلب الأول: قدم السبق في تغيير المسميات لقد أضحت الكثير من المسميات تسمى بغير اسمها استخفافًا بالعقول للجنوح بها عن المعقول، وليسكت عنها المتلقِّي لها ويتلقاها بالقبول، وليصبح مسماها المعسول هو القول الصحيح المقول، وذلك لما تضفيه تلك المسمياتُ "المعسولة" بمسمياتها اللامعة البراقة المقلوبة، وذلك ليهون على المتلقِّي بشاعتها وحرمتها وينسى عقوبتها وسوء عاقبتها ولا يحمل هم حوبتها. ولقد كان للشيطان قدمُ السبق في هذا المضمار، وذلك لأنه كان أول من سن تلك السنة السيئة التي تقلب الحقائق الثابتة بتغير مدلولاتها بألفاظ أُخر- مكرًا وخديعة وكذبًا وتدليسًا- لتتلقاه وتتلقفه منه أولياؤه، ويوحي بها بعضهم لبعض زخرف القول غرورًا، كما قال ربنا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الزخرف: ١٢)، ومن أظهر ذلك قلبه لحقيقة الشجرة التي نهى الله الأبوين من قربانها فسمها بغير اسمها، سماها بـ" شجرة الخلد وملك لا يبلى". المطلب الثاني: بداية قلب المسميات عن حقائقها كما وردت في القرآن لقد ذكر الله لنا في كتابه الكريم قصة أبينا آدم ﵇ مع عدو الله إبليس، وكان من أظهر مشاهد الصراع بين الحق والباطل في تلك القصة سلاح الوسوسة والإغواء الذي استخدمه عدو الله مع أنبينا ﵇، فبعد أن نهاه الله ﷿ عن الأكل من الشجر فوسوس ليه إبليس فأغواه فأكل منها وفي خبر هذا الحدث العظيم قال ربنا الكريم: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) (طه: ١٢٠). قوله: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ. (أي: فألقى إبليسُ إلى آدَمَ وسوستَه، وكلَّمه كلامًا خفيًّا. (^١)

(^١) -يُنظر: «تفسير ابن جرير الطبري» (١٦/ ١٨٨)، - تفسير الطبري: جامع البيان في تأويل القرآن المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: ٣١٠ هـ) تحيق: أحمد محمد شاكر الناشر: مؤسسة الرسالة الطبعة: الأولى، ١٤٢٠ هـ - ٢٠٠٠ م عدد الأجزاء: ٢٤، «تفسير النسفي» (٢/ ٣٨٧)، تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) المؤلف: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: ٧١٠ هـ) حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي راجعه وقدم له: محيي الدين ديب مستو الناشر: دار الكلم الطيب، بيروت الطبعة: الأولى، ١٤١٩ هـ - ١٩٩٨ م عدد الأجزاء: ٣، «تفسير القنوجي» (٨/ ٢٨٦)، «أضواء البيان» للشنقيطي (٤/ ١١٠). تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف: محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى: ١٣٩٣ هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت - لبنان عام النشر: ١٤١٥ هـ - ١٩٩٥ مـ.

72 / 107

وقوله: (قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى). أي: قال إبليسُ: يا آدَمُ، هل أدلُّك على شَجَرةٍ إن أكَلْتَ منها تُخلَّدْ في الجنَّةِ فلا تمُتْ، ويكُنْ لك مُلكٌ لا يَفنى ولا ينقَطِعُ. (^١) قال ابن القيم (ت: ٧٥١ هـ) ﵀ في "إغاثة اللهفان": وإنما كذبهما عدو الله، وغرّهما، وخدعهما؛ بأن سمّى تلك الشجرة "شجرة الخلد"، فهذا أول المكر والكيد، ومنه وَرِثَ أتباعه تسمية الأمور المحرمة بالأسماء التي تحبُّ النفوسُ مسمَّياتها، فسمَّوا الخمر أمَّ الأفراح، وسمَّوا أخاها بلُقَيْمة الراحة (^٢)، وسمَّوا الربا بالمعاملة، وسمَّوا المُكُوسَ بالحقوق السلطانية، وسمَّوا أقبح الظلم وأفحشه شرع الديوان، وسمَّوا أبلغ الكفر- وهو جحد صفات الرب- تنزيهًا، وسمَّوا مجالس الفسوق مجالس الطَّيبة! فلما سمَّاها "شجرة الخلد" قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا كراهة أن تأكلا منها فتخلدا في الجنة ولا تموتا؛ فتكونان مثل الملائكة الذين لا يموتون. (^٣). فكان من سنة إبليس اختيار الاسم الجذاب (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) وليزيده تزينًا قال: (وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) ذلك لينتقل على أقل التقديرات من درجة المنبوذات إلى درجة المقبولات المستساغات كـ (شَجَرَةِ الْخُلْدِ) ثم يزيد التزيين والوسوسة والإغواء حتى يرتقي ويصبح من المستحسنات- (وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى) -.

(^١) - يُنظر: «تفسير يحيى بن سلام» (١/ ٢٨٤)، «تفسير ابن جرير» (١٦/ ١٨٨)، «تفسير ابن عطية» (٤/ ٦٧)، «تفسير ابن كثير» (٥/ ٣٢١)، تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (المتوفى: ٧٧٤ هـ) المحقق: سامي بن محمد سلامة الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع، ط ٢، ١٤٢٠ هـ - ١٩٩٩ م، عدد الأجزاء: ٨.، «تفسير السعدي» (ص: ٥١٥)، تفسير ابن سعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان المؤلف: عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله السعدي (المتوفى: ١٣٧٦ هـ) المحقق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق الناشر: مؤسسة الرسالة ط ١، ١٤٢٠ هـ -٢٠٠٠ م عدد الأجزاء: ١.، «أضواء البيان» للشنقيطي (٤/ ١١١). (^٢) - لعله يقصد الحشيش. (^٣) إغاثة اللهفان في مصائد الشيطان: (١/ ١١٢ - ١١٣). إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (ت ٧٥١ هـ) المحقق: محمد حامد الفقي الناشر: مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية عدد الأجزاء: ٢.

72 / 108

المبحث الثاني: معالجة الألفاظ الواردة في معنى التغني بالقرآن وفيه ستة مطالب: المطلب الأول: وجوب التحاكم للغة القرآن عند التنازع في المسميات والخلاف الذي حُكِىَ عن بعض أهل العلم في قراءة القرآن بالألحان، والذي هم فيه ما بين مجيز ومانع، فالأغلب أنه بُني على فهم معاني الأحاديث التي ورد فيها الحث على التغني بالقرآن والترغيب في ذلك. وقد بسط الكلام حول هذه المسألة ابن بطال في "شرح البخاري"، وكذلك ابن القيم في "زاد المعاد"، والحافظ ابن رجب الحنبلي في "نزهة الأسماع في مسألة السماع"، وقد ذكروا أدلة المجيزين والمانعين من الفريقين. فأغلب العلماء قد حكى فيه الإجماع ومنعه منعًا باتًا، والبعض حكى فيه الخلاف فرخص فيه بضوابط. وممن حكى مثل هذا الحافظ ابن رجب الحنبلي ﵀ حيث يقول: قراءة القرآن بالألحان، بأصوات الغناء وأوزانه وإيقاعاته، على طريقة أصحاب الموسيقى، فرخص فيه بعض المتقدمين إذا قصد الاستعانة على إيصال معاني القرآن إلى القلوب للتحزين والتشويق والتخويف والترقيق. وأنكر ذلك أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعًا ولم يثبت فيه نزاعًا، منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة. - وهذا هو الذي عليه أهل التحقيق من الأئمة، والذي تؤيده الأدلة العقلية والنقلية، والذي يظهر للباحث وتميل إليه النفس انتصارًا للقرآن وهو الموافق للأدلة ويؤيده إجماع الأئمة-. ثم يتابع -الحافظ ابن رجب الحنبلي- ويحرِّر القول في المسألة ويقول ﵀: وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيج الطباع، وتلهي عن تدبّر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير التلذذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن. ثم يختم -ابن رجب - هذا التحرير بالقول الذي عليه إجماع أهل العلم الذي حكاه عن أبي عبيد القاسم بن سلَّام الهروي وغيره من الأئمة قائلًا: وإنما وردت السنة بتحسين الصوت بالقرآن، لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد (^١). ولقد كثر الاستشهاد بكلام الحافظ ابن رجب- ﵀ هذا- في غير ما موضع في

(^١) نزهة الأسماع، لابن رجب (ص: ٧٠). نزهة الأسماع في مسألة السماع، المؤلف: عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، الناشر: دار طيبة - الرياض، الطبعة الأولى، ١٤٠٧ - ١٩٨٦، تحقيق: وليد عبد الرحمن الفريان، عدد الأجزاء: ١.

72 / 109

طيات البحث لأهميته وجليل قدره. ولقد حررَّ الإمام ابن القيم ﵀ صورة الخلاف الواقع في هذه المسألة، وجمع بين أقوال أهل العلم، وأكد إجماع السلف جميعًا على منع القراءة بألحان الموسيقى، وألحان أهل الفسق والفجور والمجون، والتي تسمى في وقتنا الحاضر اليوم بـ"المقامات الموسيقية"، ووضَّح وجلَّى خطأ من أدخلها في قول من أجاز القراءة بالألحان من أهل العلم. فقال ﵀ بعد أن بسط المسألة وساق الأدلة: وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين: أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها. (^١). وسيأتي كلامه- هذا- ﵀ بشيء من التفصيل بعد قليل. (^٢) ولكن حين تقلب الحقائق عن معانيها المقصودة فلابد من التحاكم للغة العرب التي نزل بها القرآن، ونطق بها أفصح الخلق ﵊. فمن تأمل الألفاظ التي رغَّب فيها الشرع بتحسين الصوت يجدها ترجع إلى عبارات لغوية تدور حول هذا المعنى مثل ألفاظ "التعني بالقرآن"، أو غيرها من الألفاظ التي وردت على ألسنة بعض شراح الأحاديث التي رغب فيها الشرع بتحسين الصوت، كلفظ "الترنم"، ولفظ "النغم"، ولفظ "التطريب"، فمن تأمل تلك الألفاظ وجد مادتها تدور حول تحسين الصوت بالتلاوة والجهر به فحسب. المطلب الثاني: معنى الترنم في اللغة ولنا أن نتأمل لما أورده الزبيدي (ت: ١٢٠٥ هـ) في تاج العروس حيث يقول فيما يلي: ما ورد في معنى "الترنم" عند أهل اللغة: «و) الرَّنَم (بالتَّحْرِيك: الصَّوتُ). وقد رَنِم بالكَسْر: إذا رَجَّع صَوْتَه كما في الصحاح، (والرَّنِيم والتَّرْنِيم: تَطْرِيبُه) كما في المُحْكَم، وقال الجوهريّ: والتَّرْنِيم: تَرْجِيعُ الصَّوت). وترجيع الصوت: تَرْدِيدُهُ في الَحْلْقِ. (^٣)

(^١) زاد المعاد، لابن القيم (١/ ٤٧٠). (^٢) - وذلك في: المطلب الثاني: حَسْمُ الخلافِ في مسألة ما يسمى بـ"المقامات الموسيقية" (^٣) -تعريف ومعنى ترجيع الصوت في معجم المعاني الجامع.

72 / 110

فإذا ردد قارئ القرآن قراءته بصوت شجي جميل بترجيع صوته وترديده في الحلق فهو مترنم. المطلب الثالث: معنى "النغم" في اللغة ما ورد في معنى "النغم" عند أهل اللغة: (النَّغَمُ: مُحَرَّكَةً، وتُسَكَّنُ: الكَلَامُ الخَفِيُّ، الوَاحِدةُ بِهَاءٍ)، قَالَ شَيْخُنَا: فَمُفْرَدُهُ تابَعٌ لِجَمْعِه في الضَّبْطِ، انتهى، وفُلَانٌ حَسَنُ النَّغْمَةِ، أي: حَسَنُ الصَّوْتِ في القِرَاءَةَ، كَمَا في الصَّحَاحِ). والنَّغْمةُ جَرْسُ الكلمة وحُسْن الصوت في القراءة وغيرها. (^١). فالنغم والتنغم في القراءة إذًا هو تحسين الصوت بها. المطلب الرابع معنى "الغناء" في اللغة ما ورد في معنى "الغناء" عند أهل اللغة: قال في الصحاح، في مادة (غني): والغَناء (بالفتح): النفع، والغِناء (بالكسر) من السماع. (^٢) وقال في اللسان، في مادة (سمع): وكل ما التذَّته الأذن من صوت حسن سماع، والسماع: الغناء. (^٣) «والغِناءُ، ككِساءٍ؛ من الصَّوْتِ: ما طُرِّبَ به) قالَ حُمَيْدُ بنُ ثَوْر: وعَجِبْتُ به أَنَّى يكونُ غِناؤُها، وفي الصِّحاح: الغِناءُ، بالكسْرِ، من السماعِ. وفي النِّهايةِ: هو رَفْعُ الصَّوْتِ وموالاته. وفي المِصْباح: وقيِاسُه الضَّم لأنَّه صَوْتٌ). وقال ابن الأثير: في حديث آخر: "ما أذِنَ الله لشيءٍ كأَذَنِه لنبي يتغنَّى بالقرآن يجهر به " (^٤). قيل: إن قوله: "يهجر به" تفسير لقوله: "يتغنى به"، وقال الشافعي: معناه تحسين القراءة وترقيقها، ويشهد له الحديث الآخر: " زيِّنوا القرآنَ بأصواتِكم، فإنَّ الصوتَ الحسنَ يزيدُ القرآنَ حُسنًا" (^٥) وكل من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء. (^٦)

(^١) - لسان العرب: مادة نغم. لسان العرب المؤلف: محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: ٧١١ هـ) الناشر: دار صادر - بيروت الطبعة: الثالثة - ١٤١٤ هـ عدد الأجزاء: ١٥. (^٢) - الجوهري، الصحاح ٦: ٢٤٤٩. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية المؤلف: أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي (المتوفى: ٣٩٣ هـ) تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار الناشر: دار العلم للملايين - بيروت الطبعة: الرابعة ١٤٠٧ هـ - ١٩٨٧ م عدد الأجزاء: ٦. (^٣) - لسان العرب ٨: ١٦٥. (^٤) - رواه البخاري (٧٤٨٢)، ومسلم (٧٩٢ - ٢٣٤)، واللفظ له. (^٥) - أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٧٥٤٤)، وأخرجه موصولًا أبو داود (١٤٦٨)، والنسائي (١٠١٥)، وابن ماجه (١٣٤٢)، وأحمد (١٨٥١٧) مختصرًا، والحاكم (٢١٢٥) واللفظ له. وصحح الألباني إسناده في أصل صفة الصلاة (٢/ ٥٧٥) من حديث البراء بن عازب ﵁. (^٦) - النهاية في غريب الحديث ٣: ٣٩١. النهاية في غريب الحديث والأثر المؤلف: مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير (المتوفى: ٦٠٦ هـ) الناشر: المكتبة العلمية - بيروت، ١٣٩٩ هـ - ١٩٧٩ م تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي عدد الأجزاء: ٥.

72 / 111

قال الحافظ ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ) ﵀: الغناء يطلق على رفع الصوت، وعلى الترنم الذي تسميه العرب (النَّصْب)، وعلى الحُداء، ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. (^١) وفي ضوء معنى الغناء في اللغة يتبين ويتضح أن المعنى المراد منه هو تحسين الصوت بالترجيع والتقطيع، مما يوجب التذاذ السامع بسماعه. المطلب الخامس: معنى "التطريب" في اللغة ما ورد في معنى "التطريب": (والتَّطْرِيب في الصَّوْت: مَدُّهُ وتَحْسِينُه. وطَرَّبَ في قِراءَته: مَدَّ ورجَّعَ وطرَّبَ الطَّائِرُ في صَوْتِه كَذَلِكَ، وخَصَّ بَعْضُهُم بِهِ المُكَّاءَ. وفُلَانٌ: قَرأَ بِالتَّطْرِيب). (^٢) وطَرَّبَ في صَوْتِهِ: رجَّعَهُ ومَدَّهُ وحَسَّنَهُ. (^٣) وقال في اللسان (^٤): طرَّب وتغنى … ويقال: طرَّب فلان في غنائه تطريبًا إذا رجَّع صوته وزيَّنه … والتطريب في الصوت: مدّه وتحسينه، وطرّب في قراءته: سدَّ ورجَّع. فليس المراد به الفرح والحزن. (^٥) والترجيع في الصوت هو المراد من التطريب في كلام ابن منظور في "لسان العرب"، وغيره، فقد عرف الطرب في كتاب العين بترجيع الصوت. (^٦) - وكذلك- قل في اللُّحُون واللَّحن: فـ" اللُّحُون والألْحان: جمع لَحْن وهو التَّطْرِيب وتَرجِيع الصَّوْت وتَحسِين القِرَاءة والشِّعر والغِنَاء". (^٧) و"الألحان في القراءة والنشيد لميل صاحبها بالمقروء والمنشد إلى خلاف جهته بالزيادة والنقصان الحادثين بالترنم والترجيع". (^٨) وفي ضوء المفهوم اللغوي لألفاظ الترنم، والنغم، والغناء، والتطريب، يتبين

(^١) - فتح الباري (٢/ ٤٤٢) فتح الباري شرح صحيح البخاري المؤلف: أحمد بن علي بن حجر أبو الفضل العسقلاني الشافعي (ت: ٨٥٢ هـ)، الناشر: دار المعرفة - بيروت، ١٣٧٩ هـ، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب، عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عدد الأجزاء: ١٣. (^٢) يُنظر: تاج العروس - الزبيدي (٢/ ١٨٢). (^٣) -تعريف ومعنى التطريب في معجم المعاني الجامع (^٤) - لسان العرب ١: ٥٥٧. (^٥) الأنصاري، المكاسب ٣: ١٩٦، وغيره؛ صحاح الجوهري ١: ١٧١. (^٦) -العين ٧: ٤٢٠. (^٧) - النهاية في غريب الأثر - (٤/ ٤٦٠). (^٨) - الفائق في غريب الحديث: (٣/ ٣٠٩). الفائق في غريب الحديث والأثر المؤلف: أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: ٥٣٨ هـ) المحقق: علي محمد البجاوي -محمد أبو الفضل إبراهيم الناشر: دار المعرفة - لبنان الطبعة: الثانية عدد الأجزاء: ٤.

72 / 112

بوضوح وجلاء أنها ألفاظ تدل على تحسين الصوت وعلوه وتردده في الحلق، ومنه سمي الغناء غناءً. المطلب السادس: بيان مفهوم الموسيقى وأما لفظ: " الموسيقى ": فهو " لفظ يوناني وليس له جذر عربي أصلًا، وهو لفظ يحتمل التذكير والتأنيث، ويطلق على فنون العزف على آلات الطرب … ومن التعريفات الأُخرى للموسيقى هي لفظ ينتمي لأصلٍ يونانيّ، وأُطلق على الفنون الخاصة بالعزف على الآلات الموسيقيّة والطربيّة، واشتُقّت كلمة موسيقى اللاتينيّة من الكلمة موس، وهي آلهة اليونان للفن .. (^١) والموسيقى في الاصطلاح: علم يُعرف منه أحوال النغم والإيقاعات وكيفية تأليف اللحون وإيجاد الآلات ". (^٢) وقيل هو: علم يبحث في أصول الأنغام من حيث التنافر والائتلاف وتأليف الألحان وأحوال الأزمنة التي تخلل بيتها. (^٣) وقيل هي: نوع من أنواع الفنون التي تهتمّ بتأليف وإيقاع وتوزيع الألحان، وطريقة الغناء والطرب، كما تُعدّ الموسيقى علمًا يدرس أصول ومبادئ النغم من حيث التوافق أو الاختلاف. (^٤) إذا فإن التغني بالقرآن وتحسين الصوت والجهر به لا علاقة له بالموسيقى وبمقاماتها، ولذا ينبغي أن يُعلم خطر تلك المعازف وآلاتها، وأنه لا يليق أن ترتبط تلاوة القرآن بها وبمقامتها. المبحث الثالث: حكم استحلال المعازف وفيه ثلاثة مطالب: المطلب الأول: عقوبة استحلال المعازف وإذا استحل قومٌ المعازفَ مُسخوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وفي ذلك يقول النَّبِيَّ ﷺ: لَيَكونَنَّ مِنْ أُمَّتي أقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَرِيرَ، والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أقْوامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عليهم بسارِحَةٍ لهمْ، يَأْتِيهِمْ -يَعْنِي الفقِيرَ- لِحاجَةٍ، فيَقولونَ: ارْجِعْ إلَيْنا غَدًا، فيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، ويَضَعُ العَلَمَ، ويَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وخَنازِيرَ إلى يَومِ القِيامَةِ. (^٥) قيل: مدارُ استحلالِ هذه المحَرَّماتِ وغَيرِها على تسميةِ الشَّيءِ باسمِ غيرِه، كمن تزوَّج امرأةً ليُحِلَّها لزَوجِها؛ فإنَّهم يُسَمُّونه في العَقدِ زَوجًا، وإنما هو

(^١) سيما أبو رموز، حكم الموسيقى في الإسلام، القدس - فلسطين، (ص: ٧، ٩). بتصرّف. (^٢) - يُنظر: الموسوعة الفقهية (٣٨/ ١٦٨. الموسوعة الفقهية الكويتية صادر عن: وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت عدد الأجزاء: ٤٥ جزءًا، طبع الوزارة. (^٣) - يُنظر: تعريف ومعنى الموسيقي في معجم المعاني الجامع. (^٤) - تعريف ومعنى موسيقى في معجم المعاني الجامع، بتصرّف. (^٥) - صحيح البخاري: (٥٥٩٠).

72 / 113

المحلِّلُ الملعونُ، والتَّيسُ المستعارُ، واستحلالُ الخَمرِ بتسمِيَتِها بغيرِ اسمِها، فيقولون: مشروباتٌ رُوحانيَّةٌ، وغيرَ ذلك. وفي هذا حَضٌّ للمُسلِمِ على اجتنابِ المعاصي؛ كي لا يقَعَ في العذابِ ومَسْخِ الصُّوَرِ. وفي الحَديثِ: عَلامةٌ مِنْ عَلاماتِ النُّبوَّةِ. وفيه: أنَّ استحلالَ المعاصي -مِثلُ الزِّنا والحريرِ والخَمرِ والمعازفِ- من أكبرِ الكبائِرِ. (^١) المطلب الثاني: الإجماع على تحريم السماع وقد نقل الإمام أبو عمرو ابن الصلاح (ت: ٤٦٣ هـ) الإجماع على تحريم السماع في "أدب المفتي والمستفتي" فقال ﵀: فليعلم أن الدف والشبابة والغناء إذا اجتمعت: فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين، ولم يثبت عن أحد ممن يعتد بقوله في الإجماع والخلاف: أنه أباح هذا السماع. (^٢) أولًا: جماهير العلماء ومنهم أئمة المذاهب الأربعة (أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) وأتباعهم على أن الإجماع حجة شرعية، وقد احتجوا به على مسائل كثيرة، وقد استدلوا على حجية الإجماع بأدلة كثيرة من القرآن الكريم والسنة النبوية. فإنكار الإجماع بعد ذلك إنكار غير صحيح. (^٣) ثانيًا: قال الفقيه المحقق ابن حجر الهيتمي الشافعي (ت: ٩٧٤ هـ) ﵀: - " الأوتار والمعازف، كالطُّنْبُور والعُود والصَّنْج .. وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسَّفاهة والفُسوق، وهذه كلُّها محرَّمة بلا خِلاف، ومَن حكى فيه خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هَواه، حتى أصمَّه وأعماه، ومنعه هداه، وزلَّ به عن سنن تَقواه. وممَّن حكَى الإجماع على تحريم ذلك كلِّه: الإمام أبو العباس القرطبي (ت: ٦٥٦ هـ)، وهو الثقة العدل، فإنَّه قال كما نقَلَه عن أئمَّتنا وأقرُّوه: أمَّا المَزَامِير والكُوبَة فلا يُختَلف فِي تحريم سماعها، ولم أسمعْ عن أحدٍ ممَّن يُعتَبر قوله من السلف، وأئمَّة الخلف مَنْ يبيح ذلك، وكيف لا يُحرَّم وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومهيج للشهوات والفساد والمجون، وما كان كذلك لم يُشَكَّ فِي تحريمه ولا فِي تفسيق فاعله وتأثيمه. وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك أيضًا إمامُ أصحابنا المتأخِّرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي، فإنَّه قال فِي " تقريبه " بعد أنْ أورد حديثًا

(^١) - يُنظر: شرح الحديث في الموسوعة الحديثية من: الدرر السنية. (^٢) -أدب المفتي والمستفتي، لابن الصلاح (٢/ ٥٠٠). أدب المفتي والمستفتي المؤلف: عثمان بن عبد الرحمن، أبو عمرو، تقي الدين المعروف بابن الصلاح (المتوفى: ٦٤٣ هـ) المحقق: د. موفق عبد الله عبد القادر الناشر: مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة الطبعة: الثانية - ١٤٢٣ هـ-٢٠٠٢ م عدد الأجزاء: ١. (^٣) وللاستزادة يُنظر: الرد على القرضاوي والجديع لـ عبد الله رمضان موسى (ص/ ٨١) وما بعدها.

72 / 114

فِي تحريم الكُوبَة، وفي حديث آخَر: أنَّ اللهَ يَغفِرُ لكلِّ مذنبٍ إلا صاحب عَرطَبة أو كُوبة (^١)، والعَرطَبة: العُود، ومع هذا فإنَّه إجماع ". (^٢) وممن حكى الإجماع أيضًا: أبو الحسين البغوي (ت: ٥١٦ هـ) فإنه قال- ﵀: - وَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيم المزامير والملاهي وَالْمَعَازِف. (^٣) وقال ابن قدامة (ت: ٦٢٠ هـ) ﵀: - آلَةُ اللَّهْوِ كَالطُّنْبُورِ، وَالْمِزْمَارِ، وَالشَّبَّابَةِ … آلَةٌ لِلْمَعْصِيَةِ، بِالْإِجْمَاعِ. (^٤) وقد نقل الإجماع على تحريم الغناء المصاحب للموسيقى جمع من العلماء، من مختلف المذاهب المتبوعة عند أهل الإسلام، كالإمام ابن جرير الطبري، وأبي بكر الآجري، وأبي الطيب الطبري الشافعي، وأبي عمرو ابن الصلاح، وغيرهم. (^٥) ثالثًا: أما إذا ثبت الإجماع، على تحريم الغناء، فالأمر فيه ظاهر، فرد مثل ذلك مجازفة خطيرة، لا سيما وقد توارد على نقله، والاحتجاج به جمع من الفقهاء. وأما إذا لم تتقرر صحة الإجماع، وثبت الخلاف فيه؛ فإن ذلك لا يعني عدم تحريم الغناء؛ فإن من ذهب إلى تحريمه لم يستدل بمجرد الإجماع على ذلك، بل استدل له بأدلة عديدة، من الكتاب والسنة، وأقوال السلف، وعملهم. وقد أفاض ابن القيم ﵀ في ذكر تلك الأدلة وأقوال العلماء، وذَكَرَ شيئًا من المفاسد المترتبة على سماع الأغاني والموسيقى في " إغاثة اللهفان ". (^٦)

(^١) لم أقف عليه، وأورده أيضًا المصنف في الزواجر (الكبيرة السادسة والأربعون). يُنظر: تحقيق كتاب كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع (٧). كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع المؤلف: أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، شهاب الدين شيخ الإسلام، أبو العباس (المتوفى: ٩٧٤ هـ) المحقق: عبد الحميد الأزهري- عدد الأجزاء: ١. (^٢) - يُنظر: كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع: (ص/ ١١٨). (^٣) شرح السنة، للبغوي: (١٢/ ٣٨٣). شرح السنة المؤلف: محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: ٥١٦ هـ) تحقيق: شعيب الأرناؤوط - محمد زهير الشاويش الناشر: المكتب الإسلامي - دمشق، بيروت الطبعة: الثانية، ١٤٠٣ هـ - ١٩٨٣ م عدد الأجزاء: ١٥. (^٤) -المغني، لابن قدامة: (٩/ ١٣٢). المغني لابن قدامة المؤلف: أبو محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الجماعيلي المقدسي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير بابن قدامة المقدسي (المتوفى: ٦٢٠ هـ) الناشر: مكتبة القاهرة الطبعة: بدون طبعة عدد الأجزاء: ١٠ تاريخ النشر: ١٣٨٨ هـ - ١٩٦٨ م. (^٥) - يُنظر نصوصهم، والكتب التي وثقت ذلك في كتاب: " الرد على القرضاوي والجديع: " (ص/ ٣٥١) وما بعدها. وينظر أيضًا: " إغاثة اللهفان " لابن القيم: (١/ ٤١٥). (^٦) - للاستزادة يُنظر: "إغاثة اللهفان " لابن القيم: (١/ ٤١٥)، حكم الأغاني وآلات المعازف، الإسلام سؤال وجواب، سؤال رقم: (٢٢٢٧٣٠)، بتاريخ: ٢٦/ ١٠/ ٢٠١٤ م.

72 / 115

المطلب الثالث: تحذير العلماء من خطر المعازف ولذا فقد حذر علماء الإسلام من خطر تلك المعازف أشد التحذير. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ) ﵀: والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حلَّ فيهم الشرك، ومالوا إلى الفواحش، وإلى الظلم، فيشركون، ويقتلون النفس التي حرم الله، ويزنون، وهذه الثلاثة موجودة كثيرًا في أهل سماع المعازف. (^١) وقال ابن القيم (ت: ٧٥١ هـ) ﵀: والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب: أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها: إلا سلط الله عليهم العدو، وبُلوا بالقحط والجدب وولاة السوء، والعاقل يتأمل أحوال العالم وينظر، والله المستعان. (^٢) فإذا تبين لنا ذلك، عُلِمَ حرمة وخطورة تعلم "المقامات الموسيقية" ومن ثم حرمة قراءة القرآن الذي هو كلام الرحمن على مقامات "الشيطان". وإنما وَهِمَ من وَهِمَ وأخطأ من أخطأ وَزَلَّ من زَلَّ في هذا الباب غالبًا بسبب سوء فهمه للألفاظ التي استعملها بعض أهل العلم، كالترنيم والتغني والتطريب ونحو ذلك من الألفاظ، والتي عَرَّفَهَا أهل العلم وِفْقَ ما دلت عليه لغةُ العرب وفي هذا الصدد يقول ابن جرير الطبري (ت: ٣١٠ هـ) ﵀: معنى الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ سامع صوته، كما أن الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذي يطرب سامعه .. (^٣) وقال الحافظ ابن حجر (ت: ٨٥٢ هـ) ﵀: .. يحسن به صوته جاهرًا به مترنمًا على طريق التحزن … ولا شك أن النفوس تميل إلى القراءة بالترنم أكثر من ميلها لمن لا يترنم. لأن للتطريب تأثيرًا في رقة القلب وإجراء الدمع. (^٤)

(^١) - مجموع الفتاوى (١٠/ ٤١٧). مجموع الفتاوى المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت: ٧٢٨ هـ) المحقق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم الناشر: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية، ١٤١٦ هـ- ١٩٩٥ م. (^٢) - مدارج السالكين (١/ ٥٠٠). مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: ٧٥١ هـ) المحقق: محمد المعتصم بالله البغدادي الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة: الثالثة، ١٤١٦ هـ - ١٩٩٦ م عدد الأجزاء: ٢. (^٣) - شرح ابن بطال (١٠/ ٢٦٠)، زاد المعاد (١/ ٤٨٦). زاد المعاد في هدي خير العباد المؤلف: محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: ٧٥١ هـ) الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - مكتبة المنار الإسلامية، الكويت الطبعة: السابعة والعشرون، ١٤١٥ هـ/ ١٩٩٤ م عدد الأجزاء: ٥. (^٤) فتح الباري (٩/ ٧٢).

72 / 116

فابن جرير قد فسر" التغني" بالغناء، وابن حجر قد فسر حسن الصوت بـ "الترنم" و" التطريب" وإنما كان ذلك كله وِفْقَ ما دلت عليه اللغة. غير إن المخالفين قد حملوه هذه الألفاظ وأمثالها على المعنى العامي الشائع والدارج في استعمال الناس له، ولو أنهم رجعوا إلى ما دلت عليه تلك الألفاظ من معاني في لغة العرب، أظن لانتهى بهم المطاف وظهر لهم الحق جليًا، إن كانوا ممن يبحث عن الحق ويتجرد عن الهوى. الفصل الثاني المقامات الموسيقية وما إليها وفيه مبحثان: المبحث الأول: موقف السلف من المعازف وفيه خمسة مطالب: المطلب الأول: يقظة السلف مبكرًا لقد يقظة السلف لمثل هذا مبكرًا، ومن أجل هذا وأمثاله ورد النهي عن بعض السلف التحديث ببعض هذه الأحاديث التي فيها الترغيب في التغني بالقرآن وتحسين الصوت به خشية أن تحمل تلك النصوص على غير المراد منها، كالذي نحن بصدده من حمل تلك الألفاظ على جواز تعاطي تلك الألحان الموسومة بـ" المقامات الموسيقية" التي هي من خصائص أهل الفسق والخنا ممن يتعاطون الغناء الفاحش المقرون بالمعازف. قال أبو عُبيد القاسم بن سلاّم (ت: ٢٢٤ هـ) ﵀: حدثني يحيى بن سعيد القطان عن شُعبة بن الحجَّاج قال: "نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث: "زينوا القرآن بأصواتكم" (^١). قال أبو عُبيد: وإنما كره أيوب فيما نرى أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله- ﷺ في هذه الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدث به. (^٢) فحَمْلُ هذه الألفاظ العربية والاستدلال والاحتجاج بها على جواز استعمال "المقامات الموسيقية" وقراءة القرآن بها وإباحتها، بورود مثلها في بعض الأحاديث واستعمال أهل العلم لها، فلاشك في أن هذا خطأ ظاهر جلي، وقد نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وابن كثير

(^١) أخرجه البخاري معلقًا قبل حديث (٧٥٤٤)، من حديث البراء بن عازب- ﵁، وأخرجه موصولًا أبو داود (١٤٦٨)، والنسائي (١٠١٥)، وابن ماجه (١٣٤٢)، وأحمد (١٨٥١٧) مختصرا، والحاكم (٢١٢٥) واللفظ له،. وإسناده صحيحٍ، وأصله في صفة الصلاة للألباني (٢/ ٥٧٠). (^٢) فضائل القرآن لأبي عبيد (١/ ٣٣٥). فضائل القرآن للقاسم بن سلام المؤلف: أبو عُبيد القاسم بن سلاّم بن عبد الله الهروي البغدادي (المتوفى: ٢٢٤ هـ) تحقيق: مروان العطية، ومحسن خرابة، ووفاء تقي الدين الناشر: دار ابن كثير (دمشق - بيروت) الطبعة: الأولى، ١٤١٥ هـ -١٩٩٥ م.

72 / 117

وغيرهم من أهل العلم الأثبات. كما ينبغي أن يُعْلَم أن دخول المعازف على تلاوة القرآن إنما: "كان بدعوة مشبوهة من بعض الصحفيين قديمًا بزعم تصوير المعاني وضبط الأنغام، وربما تمادى بعضهم وطالب بما يقارن تلك الألحان بالآلات الموسيقية، فكل ذلك جرأة على كتاب الله تعالى ذِكرُه وتقدس اسمُه، ولا شك أن الاشتغال بتلك الأنغام يوقع القارئ في تحوير الألفاظ، ويصرف السامع عن تدبر المعاني، بل يفضي بها إلى التغيير، وكتاب الله تعالى مجد المسلمين ينزه عن ذلك". (^١) المطلب الثاني: حَسْمُ الخلافِ في مسألة ما يسمى بـ"المقامات الموسيقية" حَسْمُ ابنِ القيم للخلاف في هذه المسألة: وقد حَسَمَ الإمامُ ابن القيم الخلاف في هذه المسألة، وذكر إجماع السلف على منع القراءة بالألحان الموسيقية، وتلاوة القرآن بطريقة أهل الفسق والمجون التي يستخدمها أهل الخلاعة من المغنين وأضرابهم، وهي ما يعرف في عصرنا الحاضر بـ"المقامات الموسيقية"، كما فرق ﵀ بين الطبيعة الجبلية في القراءة وبين التكلف المذموم في التغني بالقرآن حتى يصل إلى حد التمطيط، وهم لا يحصل لهم ذلك إلا بالتعلم والتمرن والتصنع كما يفعل ذلك أهل الغناء بألحان وإيقاعات مخصوصة على أوزان مخصوصة قد اخترعوها وابتدعوها. وقد أطال فيها -ابن القيم- ﵀ النفس بعد أن ساق الأدلة المسكتة التي برهن بها على بطلان تلك الفعلة الشنيعة، ثم بين هنا أن التغني منه المحمود ومنه المذموم. فقال في ذلك ﵀: وفصل النزاع أن يقال التطريب والتغني على وجهين: أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم بل إذا خلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين فذلك جائز، وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري- ﵁ للنبي- ﷺ "لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا" (^٢) والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان

(^١) يُنظر: حول فكرة تلحين القرآن، للشيخ/ عبد الفتاح القاضي، مجلة الأزهر: (ج/ ١)، عدد الشهر المحرم، لعام ١٣٨٧ هـ، الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم، أو، المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته، المؤلف: الدكتور لبيب السعيد، (٣٤٣)، الناشر: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر-القاهرة، تاريخ النشر: ١٣٨٧ هـ، ١٩٦٧ م، (د. ط). (^٢) -يُنظر: فتح الباري (١٤/ ٢٧٢)

72 / 118

السلف يفعلونه ويستعملونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها. الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها ومنعوا القراءة بها، وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه ويتبين الصواب من غيره وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرؤوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بشجى تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه، ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: (ليس منَّا من لم يتغنّ بالقرآن) (^١) وفيه وجهان: أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته. (^٢) وفي نحو ذلك يقول ابن كثير (ت: ٧٤٤ هـ) ﵀ في " فضائل القرآن ": والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي فالقرآن ينزه عن هذا ويُجلّ، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب. (^٣) كما نوه على ذلك-أيضًا- الحافظ ابن رجب الحنبلي (ت: ٦٩٥ هـ) - في " نزهة الأسماع "فقال ﵀: وفي الحقيقة هذه الألحان المبتدعة المطربة تهيّج الطباع، وتلهي عن تدبر ما يحصل له من الاستماع حتى يصير الالتذاذ بمجرد سماع النغمات الموزونة والأصوات المطربة، وذلك يمنع المقصود من تدبر معاني القرآن، وإنما وردت السنّة بتحسين الصوت بالقرآن لا بقراءة الألحان، وبينهما بون بعيد. (^٤)

(^١) أخرجه البخاري في صحيحه (٧٥٢٧) (^٢) - زاد المعاد، لابن القيم (١/ ٤٧٠). (^٣) - فضائل القرآن (ص ١١٤) (^٤) - نزهة الأسماع، لابن رجب (ص: ٧٠).

72 / 119

المطلب الثالث: منع القراءة بالألحان هو الموقف العدل عند أهل الإسلام لقد أدلى أهل العلم بدلوهم في حكم منع قراءة القرآن بالألحان وقالوا فيه القول العدل الحق، ومنهم خصه بمزيد عناية فألف فيه كالإمام زين الدين بركات بن أحمد بن محمد الدمشقي، المعروف بـ " ابن الكيال الشافعي" (ت: ٩٢٩ هـ) الذي صنفه فيه كتابه: "الأنجم الزواهر في تحريم القراءة بلحون أهل الفسق والكبائر"، تحقيق وتعليق مشعل بن باني الجبرين المطيري، الناشر: دار البشائر الاسلامية، بيروت، لبنان: سنة النشر: ٢٠٠٩ م. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: ٧٢٨ هـ) ﵀: فلا يسوغ أن يُقرأ القرآن بألحان الغناء، ولا أن يُقرن به من الألحان ما يُقرن بالغناء من الآلات وغيرها، لا عند من يقول بإباحة ذلك، ولا عند من يحرمه، بل المسلمون متفقون على الإنكار لأن يُقرن بتحسين الصوت بالقرآن الآلات المطربة بالفم كالمزامير، وباليد كالغرابيل. فلو قال قائل: النبي- ﷺ قد قرأ القرآن، وقد استقرأه من ابن مسعود، وقد استمع لقراءة أبي موسى، وقال: "لقد أوتى مزمارًا من مزامير داود" (^١) فإذا قال قائل: إذا جاز ذلك بغير هذه الألحان، فلا يتغير الحكم بأن يُسمع بالألحان، كان هذا منكرًا من القول وزورًا باتفاق الناس. (^٢) وقال ﵀ في موضع آخر: والسلف كانوا يحسنون القرآن بأصواتهم من غير أن يتكلّفوا أوزان الغناء مثل ما كان أبو موسى الأشعري ﵁ يفعل. (^٣) وقال القرطبي (ت: ٦٧١ هـ) ﵀ حين تكلم عن حرمة القرآن: ومن حرمته ألا يقعر في قراءته كفعل هؤلاء الهمزيين المبتدعين والمتنطعين في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلفًا فإن ذلك محدث ألقاه إليهم الشيطان فقبلوه عنه ومن حرمته ألا يقرأه بألحان الغناء كلحون أهل الفسق. (^٤)

(^١) - صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين، حديث رقم ٧٩٣. (^٢) -الاستقامة، لابن تيمية ١/ ٢٤١). الاستقامة المؤلف: تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: ٧٢٨ هـ) المحقق: د. محمد رشاد سالم الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود - المدينة المنورة الطبعة: الأولى، ١٤٠٣ هـ، عدد الأجزاء: ٢. (^٣) -جامع المسائل: (٣/ ٣٠٤). جامع المسائل - المجموعة الثالثة المؤلف: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (٦٦١ - ٧٢٨ هـ) تحقيق: محمد عزير شمس إشراف: بكر بن عبد الله أبو زيد الناشر: دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع - مكة الطبعة: الأولى، ١٤٢٢ هـ. (^٤) - تفسير القرطبي (١/ ٢٩). تفسير القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري الخزرجي، شمس الدين القرطبي، (المتوفى: ٦٧١ هـ)، تحقيق: أحمد البردوني، وإبراهيم أطفيش، دار الكتب المصرية - القاهرة، الطبعة: الثانية، ١٣٨٤ هـ - ١٩٦٤ م.

72 / 120

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت: ٢٢٤ هـ) ﵀: وعلى هذا تُحمل هذه الأحاديث التي ذكرناها في حُسن الصوت، إنَّما هو طريق الحزن والتخويف والتشويق، يُبَيِّنُ ذلك حديث أبي موسى: أن أزواج النبي ﷺ استمعن قراءته، فأُخْبِرَ بذلك، فقال: (لو علمت لشوَّقت تشويقًا، أو حبّرت تَحبِيْرًا. فهذا وجهه لا الألحان المطرِبة الملهية (^١). المطلب الربع: إجماع السلف على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية وقد نُقِلَ الإجماعُ عن جمع من أهل العلم، ومنعه على الإطلاق آخرون، منهم: ١ - ابن القيم وابن تيمية: وقد مر بنا كلامهما آنفًا ٢ - ابن رجب الحنبلي: وقد نقل ابن رجب (ت: ٦٩٥ هـ) في "نزهة الأسماع" إجماع السلف- كذلك- على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية عن أبي عبيد وغيره من الأئمة، فقال: وأنكر ذلك أكثر العلماء، ومنهم من حكاه إجماعًا، ولم يُثبت فيه نزاعًا؛ منهم أبو عبيد وغيره من الأئمة. (^٢) ٣ - ابن سرين: ومما حكى هذا الإجماع- كذلك- محمد بن سيرين (ت: ١١٠ هـ) حيث يقول: كانوا يرون هذه الألحان في القرآن محدثة. (^٣)، وقوله: "كانوا" يعني به الصحابة والتابعين. ٤ - ابن كثير: وقال الحافظ ابن كثير (ت: ٧٧٤ هـ) في مقدمة تفسيره - بعد أنّ ذكر كلام السلف في النهي عن قراءة الألحان-: وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة، ﵏، على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفًا أو ينقص حرفًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه. (^٤) ٥ - ابن الجوزي: وابن الجوزي (ت: ٥٩٧ هـ) يعتبره من خوارم المروءة المسقطة للعدالة، حيث يقول- ﵀: التلحين في القراءة، تلحين الغناء والشَّعر. وهو مسقط للعدالة ومن أسباب رد الشهادة، قَضَاءً. وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع على أيدي الموالي. ومن أغلظ البدع في هذا تلكم الدعوة الإلحادية إلى

(^١) فضائل القرآن، لأبي عبيد القاسم بن سلام (ص ١٦٤). (^٢) نزهة الأسماع (ص: ٧٠). (^٣) - رواه الدارمي (٣٥٤٦). (^٤) تفسير ابن كثير (١/ ٦٥).

72 / 121

قراءة القرآن على إيقاع الأغاني مصحوبة بالآلات والمزامير. (^١) وقال في موضع آخر: فأما الألحان التي يصنعها قراء هذا الزمان فمكروهة عند العلماء لأنها مأخوذة من طرائق الغناء. (^٢) وقال في موضع آخر- أيضًا-: وأما ما أحدث بعدهم - يعني السلف - من تكلف القراءة على ألحان الغناء، فهذا يُنهى عنه عند جمهور العلماء؛ لأنه بدعة. (^٣) ٦ - أبو العباس القرطبي: وقال أبو العباس القرطبي (ت: ٦٥٦ هـ) في "كشف القناع": - كيفية قراءة القرآن نُقلت إلينا نقلًا متواترًا، وليس فيها شيء مِمَّا يُشبه التلحين، ولا أساليب إنشاد الأشعار، فينبغي ألاّ يُجَوَّزَ غيْرُها، وإنَّما قلنا ذلك، لأنَّا قرأنا القرآن على مشايِخِنَا، وهم العدد الكثير، والجمُّ الغفير، ومشايخنا على مشايخهم، وهكذا إلى العصر الكريم، وتلقينا عنهم كيفية قراءته بالمشافهة، فلو كان التلحين فيه مشروعًا لتعلَّموه من مشايخهم، ولنقلوه عنهم، كما نقلوا عنهم المدَّ والقصر، وما بيْن اللفظين، والإمالة والفتح والإدغام والإظهار، وكيفية إخراج الحروف من مَخارجها، فإنه لَمَّا نقله الخلف عن السلف وعلَّموا عليه، اتصل ذلك لنا وتلقيناه عنهم، وهذا جاء مع توفر الدواعي على النقل وكثرة المتعمقين من القرَّاء الغالين في كيفية قراءته، ومع ذلك فلم يُنقل عن أحد من القرَّاء المشاهير، ولا عن الرواة عنهم شيء من ذلك، فدَلَّ ذلك على أنَّ تلحين القرآن ما كان معروفًا عندهم، ولا معمولًا به فيما بيْنهم، فوجب ألاّ يُعمل به، ولا يُعرَّج عليه، فإنه أمرٌ مُحْدَثٌ، وكلُّ مُحْدَثٍ بدعةٌ، "وكل بدعة ضلالة" (^٤)،. (^٥). وقول أبي العباس القرطبي من أجود ما قيل في هذه المسألة. المطلب الخامس: اتفاق أهل العلم المعاصرين على تحريم قراءة القرآن بالألحان الموسيقية ومن أهل العلم المعاصرين كذلك كل من:

(^١) -تلبيس إبليس (ص: ١١٣ - ١١٤). تلبيس إبليس المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: ٥٩٧ هـ) الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، لبنان الطبعة: الطبعة الأولى، ١٤٢١ هـ/ ٢٠٠١ م عدد الأجزاء: ١. (^٢) - كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي (١/ ٢٦٩). كشف المشكل من حديث الصحيحين المؤلف: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي (المتوفى: ٥٩٧ هـ) المحقق: علي حسين البواب الناشر: دار الوطن - الرياض سنة النشر: عدد الأجزاء: ٤. (^٣) - المرجع السابق (٣/ ٣٠٤ - ٣٠٥). (^٤) - صححه الألباني في صحيح أبي داود (٤٦٠٧) (^٥) - كشف القناع عن حكم الوجد والسماع (ص ١١٣). كشف القناع عن حكم الوجد والسماع، لأحمد بن عمر بن ابراهيم أبي العباس الأنصاري القرطبي (ت: ٦٥٦ هـ)؛ تحقيق وتعليق علي عبد الباسط مزيد، الناشر: مكتبة الايمان للطباعة والنشر والتوزيع، تاريخ الإصدار: ٢٠١٣ م.

72 / 122