والإتقان ...... وأما اليوم فهذا باب أغلق وطريق سد نسأل الله التوفيق، ونعوذ به من قصور الهمم ونفاق سوق الجهل في العرب والعجم. (^١)
وفي نحو ذلك يقول أبو شامة المقدسي (ت: ٦٦٥ هـ): ﵀:
لم يبق لمعظم من يطلب القرآن العزيز هِمَّة إلَّا في قوة حفظه، وسرعة سرده، وتحرير النطق بألفاظه، والبحث عن مخارج حروفه، والرغبة في حسن الصوت به، وكل ذلك وإن كان حسنًا ولكن فوقه ما هو أهم وأتم وأولى وأحرى، وهو فهم معانيه، والتفكر فيه، والعمل بمقتضاه، والوقوف عند حدوده، وثمرة خشية الله تعالى من حسن تلاوته. (^٢)
ويحذر ابن الجوزي (ت: ٥٩٧ هـ) من هذا التكلف المذموم فيصف قراءة بعض المصلين ويقول رحمه الله تعالى:
وقد لبس إبليس عَلَى بعض المصلين فِي مخارج الحروف فتراه يَقُول: الحمد الحمد. فيخرج بإعادة الكلمة عَنْ قانون أدب الصلاة وتارة يلبس عَلَيْهِ فِي تحقيق التشديد وتارة فِي إخراج ضاد المغضوب، ولقد رأيت من يَقُول المغضوب فيخرج بصاقة مَعَ إخراج الضاد؛ لقوة تشديده، وإنما المراد تحقيق الحرف فحسب وإبليس يخرج هؤلاء بالزيادة عن حد التحقيق ويشغلهم بالمبالغة في الحروف عَنْ فهم التلاوة وكل هذه الوساوس من إبليس. (^٣)
قَالَ العلامة المقرئ أبو الحسن على بن مُحَمَّد النوري الصفاقيسي ﵀ (ت: ١١١٨ هـ):
وقد كان العالمون بصناعةِ التجويد يَنْطِقُونَ بها سَلِسَةً، سهلةً برفْقٍ، بلا تعَسُّف، ولا تكلُّف، ولا نبرةٍ شديدةٍ، ولا يتمكن أحدٌ من ذلك إلا بالرياضةِ، وتلقِّي ذلك من أفواه أهلِ العِلْم بالقراءة. (^٤)
وفي ذكر أصناف المغرورين من أرباب العبادة والعمل يقول أبو حامد الغزَّالي (ت: ٥٠٥ هـ) ﵀:
وفرقةٌ أخرى: تغلبُ عليهم الوسوسةُ في إخراجِ حروفِ الفاتحةِ وسائرِ الأذكارِ من مخارجِها، فلا يزالُ يحتاطُ في التشديدات والفرقِ بينَ الضاد والظاء، وتصحيح مخارج الحروفِ في جميعِ صلاتِه، لا يهمُّه غيرُه، ولا يتفكرُ فيما سواه، ذاهلًا عن معنى القرآنِ والاتعاظِ به وصرفِ الفهمِ إلى أسرارِه، وهذا من أقبحِ أنواع الغرورِ، فإنه لم يُكَلَّف الخلقُ في تلاوةِ القرآنِ من تحقيقِ مخارج الحروفِ إلا بما جَرَت به عادتُهم في الكلامِ.
ومثال هؤلاء: مثالُ من حملَ رسالةً إلى مجلسِ سلطانٍ وأُمِرَ أن يؤديها على وجهِها، فأخذَ يؤدي الرسالةَ وتأنقَ في مخارج الحروفِ ويكررُها ويعيدُها مرةً بعد أخرى، وهو في ذلك غافلٌ عن مقصودِ الرسالةِ ومراعاةِ حرمةِ المجلسِ، فما أحراه بأن تُقام عليه السياسة ويُرَدُّ إلى دارِ المجانين ويُحكم عليه بفقدِ العقلِ) (^٥).
وقال الحافظ الذهبي (ت: ٧٤٨ هـ) ﵀:
فالقرَّاءُ المجوِّدَةُ: فيهم تنطعٌ وتحريرٌ زائدٌ يؤدي إلى أن المجودَ القارئَ يبقى مصروفَ الهمةِ إلى مراعاةِ الحروفِ والتنطع في تجويدِها، بحيثُ يشغلُه ذلك عن تدبرِ معاني كتابِ اللهِ تعالى، ويصرفه عن الخشوعِ في التلاوةِ، ويخلِّيه قوي النفس مزدريًا بحفاظ كتاب الله تعالى، فينظر إليهم بعين المقت، وبأن المسلمين يلحنون، وبأن القرَّاءَ لا يحفظون شواذَّ القراءةِ، فليتَ شِعري أنت ماذا عرفتَ وما عملتَ؟! فأما علمُك فقيرٌ صالحٌ، وأما تلاوتُك فثقيلةٌ عريةٌ من الخشيةِ والحزنِ والخوفِ، فاللهُ تعالى يوفِّقُكَ ويُبَصِّرُكُ رُشْدَكَ، يوقظك من مرقدةِ الجهلِ والرياءِ.
وضدُّهم قراءُ النغمِ والتمطيطِ، وهؤلاء من قرأ منهم بقلبٍ وخوف قد يُنتفع به في الجملة، فقد رأيتُ منهم من يقرأ صحيحًا