The Criterion of Action for the Servants
الإقتصاد فيما يجب على العباد
Daabacaha
مكتبة جامع چهلستون
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
1400 AH
Goobta Daabacaadda
طهران
أنعامه، وتوالي أفضاله. وله الشكر على جزيل فواضله، وكريم مواهبه.
وصلى الله على سيد أنبيائه وخاتم أصفيائه محمد النبي المنتجب من أشرف العناصر وأكرم المناصب، وعلى آله الطيبين الأئمة الراشدين، النجوم الزاهرة والغرر الباهرة، وسلم تسليما.
وبعد:
فإني ممتثل ما رسمه الشيخ الأجل، أطال الله بقاءه، وعضد كافة أوليائه بطول أيامه وامتداد زمانه، وجعل ما خوله من محبة العلم وأهله وإيثار الدين وصرف الهمة إليه، وحبب إليه ما يكسبه الجمال عاجلا ويثمر الخلاص آجلا.
من إملاء مختصر يشتمل على بيان ما يجب اعتقاده ومعرفته، ويلزم العمل به والمصير إليه، مما لا يخلو منه مكلف في حال من الأحوال، وأن أقرب ذلك
Bogga 3
بأدلة واضحة وبراهين نيرة، لا أطول القول فيها فيمله ولا أقصر على الاتيان على الغرض فيحصر دونه.
وأتبع ذلك بما يجب العمل به من العبادات على وجه الاختصار مما لا يستغنى عنه، فإن الكتب المعمولة في الأصول والفروع كثيرة، غير أنها مبسوطة جدا أو مختصرة لا تأتي على الغرض.
وأنا ممتثل ما رسمه ومجيب إلى ما دعا إليه.
ومن الله الكريم أستمد المعونة، وإياه اسأل التوفيق لإتمامه.
وقد رتبته على فصول:
Bogga 4
فصل (فيما يلزم المكلف) ا
لذي يلزم المكلف أمران: علم، وعمل. فالعمل تابع للعلم ومبني عليه.
والذي يلزم العلم به أمران: التوحيد، والعدل.
فالعلم بالتوحيد لا يتكامل إلا بمعرفة خمسة أشياء: أحدها معرفة ما توصل به إلى معرفة الله تعالى، والثاني معرفة الله على جميع صفاته، والثالث معرفة كيفية استحقاقه لتلك الصفات، الرابع معرفة ما يجوز عليه وما لا يجوز، الخامس معرفته بأنه واحد لا ثاني له في القدم.
والعدل لا يتم العلم به إلا بعد العلم بأن أفعاله كلها حكمة وصواب، وأنه ليس في أفعاله قبيح ولا إخلال بواجب. ويتفرع من ذلك وجوب معرفة خمس أشياء: أحدها معرفة حسن التكليف وبيان شروطه وما يتعلق به، والثاني معرفة النبوة وبيان شروطها، والثالث معرفة الوعد والوعيد وما يتعلق بهما،
Bogga 5
والرابع معرفة الإمامة وشروطها، والخامس معرفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فأنا إنشاء الله أبين فصلا فصلا من ذلك على أخصر ما يمكن وأوجزه، وأردف ذلك بما يجب العمل به من الشرعيات على هذا المنهاج إنشاء الله.
ومن جهته التوفيق والتسديد.
Bogga 6
القسم الأول الأصول الاعتقادية
Bogga 7
فصل (في ذكر بيان ما يتوصل به إلى ما ذكرناه)
لا طريق إلى معرفة هذه الأصول التي ذكرناها إلا بالنظر في طرقها، ولا يمكن الوصول إلى معرفتها من دون النظر.
وإنما قلنا ذلك لأن الطريق إلى معرفة الأشياء أربعة لا خامس لها:
(أولها) أن يعلم الشئ ضرورة لكونه مركوزا في العقول، كالعلم بأن الاثنين أكثر من واحد، وأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في حالة واحدة، وأن الجسمين لا يكونان في مكان واحد في حالة واحدة، والشئ لا يخلو من أن يكون ثابتا أو منفيا، وغير ذلك مما هو مركوز في العقول.
(والثاني) أن يعلم من جهة الادراك إذا أدرك وارتفع اللبس، كالعلم بالمشاهدات والمدركات بسائر الحواس (1).
(والثالث) أن يعلم بالأخبار، كالعلم بالبلدان والوقائع وأخبار الملوك وغير ذلك.
Bogga 9
(والرابع) أن يعلم بالنظر والاستدلال.
والعلم بالله تعالى ليس بحاصل من الوجه الأول، لأن ما يعلم ضرورة لا يختلف العقلاء فيه بل يتفقون عليه، ولذلك لا يختلفون في أن الواحد لا يكون أكثر من اثنين وأن الشبر لا يطابق الذراع. والعلم بالله فيه خلاف بين العقلاء فكيف يجوز أن يكون ضروريا.
وليس الادراك أيضا طريق إلى العلم بمعرفة الله تعالى، لأنه تعالى ليس بمدرك بشئ من الحواس على ما سنبينه فيما بعد، ولو كان مدركا محسوسا لأدركناه مع صحة حواسنا وارتفاع الموانع المعقولة.
والخبر أيضا لا يمكن أن يكون طريقا إلى معرفته، لأن الخبر الذي يوجب العلم هو ما كان مستندا إلى مشاهدة وإدراك، كالبلدان والوقائع وغير ذلك، وقد بينا أنه ليس بمدرك، والخبر الذي لا يستند إلى الادراك لا يوجب العلم. ألا ترى أن جميع المسلمين يخبرون من خالفهم بصدق محمد صلى الله عليه وآله فلا يحصل لمخالفيهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل، وكذلك جميع الموحدين يخبرون الملحدة بحدوث العالم فلا يحصل لهم العلم به لأن ذلك طريقه الدليل.
فإذا بطل أن يكون طريق معرفته الضرورة أو المشاهدة أو الخبر، لم يبق إلا أن يكون طريقه النظر.
فإن قيل: أين أنتم عن تقليد [الآباء و] (1) المتقدمين؟
قلنا: التقليد إن أريد به قبول قول الغير من غير حجة - وهو حقيقة التقليد - فذلك قبيح في العقول، لأن فيه إقداما على ما لا يأمن كون ما يعتقده عند التقليد جهلا لتعريه من الدليل، والإقدام على ذلك قبيح في العقول. ولأنه ليس في العقول تقليد الموحد أولى من تقليد الملحد إذا رفعنا النظر والبحث عن أوهامنا
Bogga 10
ولا يجوز أن يتساوى الحق والباطل.
فإن قيل: نقلد المحق دون المبطل.
قلنا: العلم بكونه محقا لا يمكن حصوله إلا بالنظر، لأنا إن علمناه بتقليد آخر أدى إلى التسلسل، وإن علمناه بدليل فالدليل الدال على وجوب القبول منه يخرجه من باب التقليد، ولذلك لم يكن أحدنا مقلدا للنبي أو المعصوم فيما نقبله منه، لقيام الدليل على صحة ما يقوله.
وليس يمكن أن يقال: نقلد الأكثر ونرجع إليهم. وذلك لأن الأكثر قد يكونون على ضلال، بل ذلك هو المعتاد المعروف. ألا ترى أن الفرق المبطلة بالإضافة إلى الفرق المحقة جزء من كل وقليل من كثير.
ولا يمكن أن يعتبر أيضا بالزهد والورع، لأن مثل ذلك يتفق في المبطلين فلذلك ترى رهبان النصارى على غاية العبادة ورفض الدنيا مع أنهم على باطل فعلم بذلك أجمع فساد التقليد.
فإن قيل: هذا القول يؤدي إلى تضليل أكثر الخلق وتكفيرهم، لأن أكثر من تعنون من العقلاء لا يعرفون ما يقولونه من الفقهاء والأدباء والرؤساء والتجار وجمهور العوام ولا يهتدون إلى ما يقولونه، وإنما يختص بذلك طائفة يسيرة من المتكلمين، وجميع من خالفهم يبدعهم في ذلك، ويؤدي إلى تكفير الصحابة والتابعين [وأهل الأمصار، لأنه معلوم أن أحدا من الصحابة والتابعين] (1) لم يتكلم فيما تكلم فيه المتكلمون ولا سمع منه حرف واحد ولا نقل عنهم شئ منه، فكيف يقال بمذهب يؤدي إلى تكفير أكثر الأمة وتضليلها، وهذا باب ينبغي أن يزهد فيه ويرغب عنه.
قيل: هذا غلط فاحش وظن بعيد، وسوء ظن بمن أوجب النظر المؤدي
Bogga 11
إلى معرفة الله، ولسنا نريد بالنظر المناظرة والمحاجة والمخاصمة والمحاورة التي يتداولها المتكلمون ويجري بينهم، فإن جميع ذلك صناعة فيها فضيلة وإن لم تكن واجبة، وإنما أوجبنا النظر الذي هو الفكر في الأدلة الموصلة إلى توحيد الله تعالى وعدله ومعرفة نبيه وصحة ما جاء به، وكيف يكون ذلك منهيا عنه أو غير واجب والنبي عليه السلام لم يوجب القبول منه على أحد إلا بعد إظهار الأعلام والمعجزة من القرآن وغيره، ولم يقل لأحد أنه يجب عليك القبول من غير آية ولا دلالة.
وكذلك تضمن القرآن من أوله إلى آخره التنبيه على الأدلة ووجوب النظر (1.
قال الله تعالى: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ " (2.
وقال: " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت " (3.
وقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (4.
وقال: " قتل الإنسان ما أكفره * من أي شئ خلقه * من نطفة خلقه " (5 الآية.
وقال: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات
Bogga 12
لأولي الألباب " إلى قوله " إنك لا تخلف الميعاد " 1).
وقال: " فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنا صببنا الماء صبا * ثم شققنا الأرض شقا " إلى قوله " متاعا لكم ولأنعامكم " 2).
وقال: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرا ر مكين " إلى قوله " فتبارك الله أحسن الخالقين " 3).
وقال: " إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون " 4) و " لقوم يعقلون " 5) و " لأولي الألباب " 6) و " لمن كان له قلب " 7) يعني عقل.
وغير ذلك من الآيات التي تعدادها يطول.
وكيف يحث تعالى على النظر وينبه على الأدلة وينصبها ويدعو إلى النظر فيها، ومع ذلك يحرمها. إن هذا لا يتصوره إلا غبي جاهل.
فأما من أومى إليه من الصحابة والتابعين وأهل الأعصار من الفقهاء والفضلاء والتجار والعوام، فأول ما فيه أنه غير مسلم، بل كلام الصحابة والتابعين مملو من ذلك، وهو شائع ذائع في خطب أمير المؤمنين عليه السلام في الاستدلال على الصانع والحث على النظر والفكر في إثبات الله تعالى معروف مشهور، وكذلك كلام الأئمة عليهم السلام من أولاده، وعلماء المتكلمين في كل عصر معروفون مشهورون.
Bogga 13
وكيف يجحد ذلك وينكر وجوده، وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال " أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه " وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة " أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، لشهادة العقول أن من حلته الصفات فهو مخلوق، وشهادتها أنه خالق ليس بمخلوق " ثم قال " بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالنظر يثبت حجته، معلوم بالدلالات، مشهور بالبينات " 1) إلى آخر الخطبة.
وخطبه في هذا المعنى أكثر من أن تحصى.
وقال الحسن (الحسين خ ل) عليه السلام: " والله ما يعبد الله إلا من عرفه فأما من لم يعرفه فإنما يعبده هكذا ضلالا " وأشار بيده.
وقال الصادق عليه السلام: " وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك من دينك " 2).
ثم إنه يلزم مثل ذلك الفقهاء، فإنا نعلم ما فرعه الفقهاء 3) من المسائل ودونوه في كتبهم ودارت بينهم من العلل والأقيسة لم يخطر لأحد من الصحابة والتابعين ببال ولا نقل شئ منه عن واحد منهم. فينبغي أن يكون ذلك كله باطلا، أو يقولوا أن الصحابة لم يكونوا عالمين عارفين بالشرع، فأي شئ أجابوا عن ذلك في الفروع فهو جوابنا في الأصول بعينه، وهو أن يقال إنهم كانوا عالمين بأصول الشريعة فلما حدثت حوادث في الشرع لم يكن استخرجوا أدلتها من الأصول قلنا مثل ذلك فإنهم كانوا عارفين بالأصول من التوحيد والعدل مجملا، فلما
Bogga 14
حدثت شبهات لم تسبقهم استخرجوا أجوبتها من الأصول.
ولو سلمنا أنهم كانوا غير عارفين بما يعرفه المتكلمون لم يدل على ما قالوه لأنه لا يجوز أن يكونوا عالمين بالله تعالى على وجه الجملة وخرجوا بذلك عن حد التقليد وتشاغلوا بالعبادة أو الفقه أو التجارة، ولم ينقدح لهم فيما اعتقدوه شك ولا خطرت لهم شبهة يحتاجون إلى حلها، فاقتنعوا بذلك وكانوا بذلك قد أدوا ما وجب عليهم.
والمتكلمون لما أفرغوا وسعهم لعلم هذه الصناعة خطرت لهم شبهات ووردت عليهم خواطر لزمهم حل ذلك والتفتيش عنه حتى لا يعود ذلك بالنقض على ما علموه.
وكل من يجري مجراهم ممن تخطر له هذه الشبهات فإنه يلزمه حلها ولا يجوز له الاقتصار على علم الجملة، فإنه لا يسلم له ذلك مع هذه الشبهة. ومن لا يخطر له ذلك لبلادته أو لعدوله عنه أو تشاغله بعبادة أو فقه أو دين، فإنه لا يلزمه التغلغل فيه ولا البحث عن الشبهات حتى يلهه ويلزمه التفتيش عنها والأجوبة عنها.
وإن فرضنا في آحاد الناس من لم يحصل له علم الجملة ولا علم التفصيل وإنما هو على تقليد محض، فإنه مخطئ ضال عن طريق الحق وليس يتميز له ذلك.
فإن قالوا: أكثر من أو مأتم إليه إذا سألته عن ذلك لا يحسن الجواب عنه.
قلنا: وذلك أيضا لا يلزم، لأنه لا يمتنع أن يكون عارفا على الجملة وإن تعذرت عليه العبارة عما يعتقده، فتعذر العبارة عما في النفس لا يدل على بطلان ذلك ولا ارتفاعه.
فإن قيل: قد ذكرتم أنه يخرج الإنسان عن حد التقليد بعلم الجملة، ما
Bogga 15
حد ذلك بينوه لنقف عليه؟
قلنا: أحوال الناس تختلف في ذلك: فمنهم من يكفيه الشئ اليسير، ومنهم من يحتاج إلى أكثر منه بحسب ذكائه وفطنته وخاطره حتى يزيد بعضهم على بعض إلى أن يبلغ إلى حد لا يجوز له الاقتصار على علم الجملة بل يلزمه على التفصيل لكثرة خواطره وتواتر شبهاته. وليس يمكن حصر ذلك لشئ لا يمكن الزيادة عليه ولا النقصان عنه.
فإن قيل: فعلى كل حال بينوا لذلك مثالا على وجه التقريب.
قلنا: أما على وجه التقريب فإنا نقول: من فكر في نفسه فعلم أنه لم يكن موجودا ثم وجد نطفة ثم صار علقة ثم مضغة ثم عظما ثم جنينا في بطن أمه ميتا ثم صار حيا فبقي مدة ثم ولد صغيرا فتتقلب به الأحوال من صغر إلى كبر ومن طفولة إلى رجلة ومن عدم عقل إلى عقل كامل ثم إلى الشيخوخة وإلى الهرم ثم الموت، وغير ذلك من أحواله، علم أن هنا من يصرفه هذا التصريف ويفعل به هذا الفعل، لأنه يعجز عن فعل ذلك بنفسه، وحال غيره من أمثاله حاله من العجز عن مثل ذلك.
فعلم بذلك أنه لا بد من أن يكون هناك من هو قادر على ذلك مخالف له، لأنه لو كان مثله لكان حكمه حكمه. ويعلم أنه لا بد أن يكون عالما من حيث أن ذلك في غاية الحكمة والاتساق، مع علمه الحاصل بأن بعض ذلك لا يصدر ممن ليس بعالم، وبهذا القدر يكون عالما بالله تعالى على الجملة.
وهكذا إذا نظر في بذر يبذر فينبت منه أنواع الزرع والغرس ويصعد إلى منتهاه، فمنه ما يصير شجرا عظيما يخرج منه أنواع الفواكه والملاذ، ومنه ما يصير زرعا يخرج منه أنواع الأقوات، ومنه ما يخرج منه أنواع المشمومات الطيبة الروائح، ومنه ما يكون خشبه في غاية الطيب كالعود الرطب وغير ذلك،
Bogga 16
وكالمسك الذي يخرج من بعض الظباء والعنبر الذي يخرج من البحر، فيعلم بذلك أن مصرف ذلك وصانعه قادر عالم لتأتي ذلك واتساقه ولعجزه وعجز أمثاله عن ذلك، فيعلم بذلك أنه مخالف لجميع أمثاله، فيكون عارفا بالله على الجملة.
وكذلك إذا نظر إلى السماء صاحية فتهب الرياح وينشأ السحاب ويصعد ولا يزال يتكاثف ويظهر فيه الرعد والبرق والصواعق، ثم ينزل منه من المياه والبحار العظيمة التي تجري منها الأنهار العظيمة والأودية الوسيعة، وربما كان فيه من البرد مثل الجبال، كل ذلك في ساعة واحدة ثم تنقشع السماء وتبدو الكواكب وتطلع الشمس أو القمر كأن ما كان لم يكن من غير تراخ ولا زمان بعيد، فيعلم ببديهة أنه لا بد أن يكون من صح ذلك منه قادرا عليه ممكن منه 1) وأنه مخالف له ولأمثاله، فيكون عند ذلك عارفا بالله.
وأمثال ذلك كثيرة لا نطول بذكره، فمتى عرف الإنسان هذه الجملة وفكر فيها هذا الفكر واعتقد هذا الاعتقاد، فإن مضى على ذلك ولم يشعثه خاطر ولا طرقته شبهة فهو ناج متخلص.
وأكثر من أشرتم إليه يجوز أن يكون هذه صفته، وإن بحث عن ذلك وعن علل ذلك فطرقته شبهات وخطرت له خطرات وأدخل عليه قوم ملحدون ما حيره وبلبله، فحينئذ يلزمه التفتيش ولا تكفيه هذه الجملة، ويجب عليه أن يتكلف البحث والنظر، على ما سنبينه ليسلم من ذلك ويحصل له العلم على التفصيل.
ونحن نبين ذلك في الفصل الذي يلي هذا الفصل على ما وعدنا به إنشاء الله.
فإن قيل: أصحاب الجمل على ما ذكرتم لا يمكنهم أن يعرفوا صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه منها على طريق الجملة، وإذا لم
Bogga 17
يمكنهم ذلك لم يمكنهم أن يعلموا أن أفعاله كلها حكمة ولا حسن التكليف ولا النبوات ولا الشرعيات، لأن معرفة هذه الأشياء لا يمكن إلا بعد معرفة الله تعالى على طريق التفصيل.
قلنا: يمكن معرفة جميع ذلك على وجه الجملة، لأنه إذا علم بما قدمناه من الأفعال ووجوب كونه قادرا عالما وعلم أنه لا يجوز أن يكون قادرا بقدرة محدثة لأنها كانت تجب أن تكون من فعله، وقد تقرر أن المحدث لا بد له من محدث، وفاعلها يجب أن يكون قادرا أولا، فلولا تقدم كونه قادرا قبل ذلك لما صح منه تعالى فعل القدرة، فيعلم أنه لم يكن قادرا بقدرة محدثة، ولأجله علم أنه كذلك لأمر لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فيعلم أنه يجب أن يكون قادرا على جميع الأجناس ومن كل جنس على ما لا يتناهى لفقد التخصيص.
وكذلك إذا علم بالمحكم من أفعاله كونه عالما علم أن ما لأجله علم ما علمه لا اختصاص له بمعلوم [دون معلوم] 1)، إذ المخصص هو العلم المحدث والعلم لا يقع إلا من عالم، فلا بد أن يتقدم كونه عالما لا بعلم محدث، وما لأجله علم لا اختصاص له بمعلوم دون معلوم، فيعلم أنه عالم بما لا يتناهى وبكل ما يصح أن يكون معلوما لفقد الاختصاص. فيعلم أنه لا يشبه الأشياء، لأنه لو أشبهها لكان مثلها في كونها محدثة، لأن المثلين لا يكون أحدهما قديما والآخر محدثا.
ويعلم أنه غير محتاج، لأن الحاجة من صفات الأجسام، لأنها تكون إلى جلب المنافع أو دفع المضار وهما من صفات الأجسام، فيعلم عند ذلك أنه غني.
ويعلم أنه لا تجوز عليه الرؤية والإدراكات، لأنه لا يصح أن يدرك إلا ما
Bogga 18
يكون هو أو محله في جهة، وذلك يقتضي كونه جسما أو حالا في جسم، وهكذا يقتضي حدوثه وقد علم أنه قديم.
وإذا علم أنه عالم بجميع المعلومات، وعلم كونه غنيا، علم أن جميع أفعاله حكمة وصواب ولها وجه حسن وإن لم نعلمه مفصلا، لأن القبيح لا يفعله إلا من هو جاهل بقبحه أو محتاج إليه وكلاهما منتفيان عنه، فيقطع عند ذلك على حسن جميع أفعاله من خلق الخلق والتكليف وفعل الآلام وخلق المؤذيات من الهوام والسباع وغير ذلك.
ويعلم أيضا عند ذلك صحة النبوات، لأن النبي إذا أدعى النبوة وظهر على يده علم معجز يعجز عن فعله جميع المحدثين علم أنه من فعل الله ولولا صدقه لما فعله، لأن تصديق الكذاب لا يحسن، وقد أمن ذلك بكونه عالما غنيا.
فإذا علم صدق الأنبياء بذلك علم صحة ما أتوا به من الشرعيات والعبادات، لكونهم صادقين على الله وأنه لا يتعبد الخلق إلا بما فيه مصلحتهم.
وإذا ثبت له هذه العلوم فتشاغل بالعبادة أو بالمعيشة ولم تخطر له شبهة ولا أورد عليه ما يقدح فيما علمه ولا فكر هو في فروع ذلك لم يلزمه أكثر من ذلك.
ومتى أورد عليه شبهة فإن تصورها قادحة فيما علمه يلزمه حينئذ النظر فيها حتى يحلها ليسلم له ما علمه، وإن لم يتصورها قادحة ولا اعتقد أنها تؤثر فيما علمه لم يلزمه النظر فيها ولا التشاغل بها.
وهذه أحوال أكثر العوام وأصحاب المعايش والمترفين، فإنهم ليس يكادون يلتفتون إلى شبهة تورد عليهم ولا يقبلونها ولا يتصورونها قادحة فيما اعتقدوه بل ربما أعرضوا عنها واستغفوا عن سماعها وإيرادها وقالوا: لا تفسدوا علينا ما علمناه. وقد شاهدت جماعة هذه صورتهم.
Bogga 19
فبان بهذه الجملة ما أشرنا إليه من أحوال أصحاب الجمل.
ونحن نبين في الفصل الذي يلي هذا ما يلزم من هو فوق هؤلاء ممن ينظر ويبحث وتطرقه الشبهات وإن لم يبالغ في استيفاء ذلك، ليكون قد ذكرنا أمر الفريقين وبينا أحوال الفئتين. والله تعالى الموفق للصواب.
فصل (في ذكر بيان ما يؤدي النظر فيه إلى معرفة الله تعالى)
الوصول إلى معرفة الله تعالى إلا بالنظر في حدوث ما لا يدخل تحت مقدور المخلوقين، وهو الأجسام والأعراض المخصوصة، كالألوان والطعوم والأراييح والقدرة والحياة والشهوة والنفار وما جرى مجرى ذلك.
فأما ما يدخل جنسه تحت مقدور القدر 1) كالحركات والسكنات والاعتمادات والأصوات، فلا يمكن بالنظر فيها الوصول إلى معرفة الله تعالى.
والكلام في حدوث الأجسام أظهر، لأنها معلومة ضرورة لا يحتاج فيها في العلم بوجودها إلى الدليل بل إنما يحتاج إلى الكلام في حدوثها، ثم بيان أن لها محدثا يخالفها فيكون ذلك علما بالله، ثم الكلام في صفته.
ولنا في الكلام في حدوث الأجسام طريقان:
أحدهما: أن ندل على أنها ليست قديمة، فيعلم حينئذ أنها محدثة، لأنه لا واسطة بين القدم والحدوث.
والطريق الثاني: أن نبين أنها لم تسبق المعاني المحدثة، فيعلم أن حكمها حكمها في الحدوث.
(وبيان الطريق الأول) هو أن الأجسام لو كانت قديمة لوجب أن تكون في
Bogga 20
الأزل في جهة [من جهات] 1) العالم، لأن ما هي عليه من الحجم والجثة يوجب ذلك.
ثم لا يخلو كونها في تلك الجهة إما أن تكون للنفس أو لمعنى قديم أو لمعنى محدث أو الفاعل. فإذا بين فساد جميع ذلك علم أنها لم تكن قديمة ولا يجوز أن تكون في الأزل في جهة الفاعل، لأن من شأن الفاعل أن يتقدم على فعله، ولو تقدم فاعلها عليها لكانت محدثة، لأن القديم لا يمكن أن يتقدم عليه غيره، والمعنى المحدث لا يوجب صفة في الأزل.
وكونها في الجهة للنفس يوجب استحالة انتقالها، لأن صفات النفس لا يجوز تغيرها وزوالها، والمعلوم ضرورة صحة انتقالها، فبطل أن يكون كذلك للنفس.
ولا يجوز أن تكون كذلك لمعنى قديم، لأنها لو كانت كذلك لوجب إذا انتقل الجسم أن يبطل ذلك المعنى، لأن وجوده فيه على ما كان يوجب كونه في الجهتين، وذلك محال.
والانتقال لا يجوز على المعنى، لأنه من صفات الجسم.
فقد بطل جميع الأقسام، وفي بطلان جميعها بطلان كونها قديمة وثبوت كونها محدثة، لأنه لا واسطة بين الأمرين على ما بيناه.
(وبيان الطريقة الثانية) أن نبين أربعة فصول: أحدها أن في الأجسام معان غيرها، والثاني أن نبين أن تلك المعاني محدثة، والثالث أن نبين أن الجسم لم يسبقها في الوجود، والرابع أن ما لم يسبق المحدث يجب أن يكون محدثا.
والذي يدل على الفصل الأول: إنا نعلم أن الجسم يكون على صفات من
Bogga 21
اجتماع وحركة فتتغير إلى أن يصير مفترقا وساكنا، فلا بد من أمر غيره، لأنه لو لم يكن أمر لبقي على ما كان عليه.
ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر نفس الجسم، ولا ما يرجع إليه من وجود أو حدوث أو جسمية، لأن جميع ذلك يكون حاصلا مع انتقاله من جهة إلى غيرها، فكيف يكون هو المؤثر في تغير الصفات.
ولا يجوز أن يكون ذلك لعدم معنى، لأن عدم معنى لا اختصاص له بجسم دون جسم ولا بجهة دون غيرها، وكان يجب أن تتغير الأجسام كلها وتنتقل إلى جهة تغيرها، وذلك باطل.
ولا يجوز أن يكون كذلك بالفاعل، لأنه: إن أريد بذلك أنه فعل فيه معنى أوجب تغيره وانتقاله، فذلك وفاق وهو المطلوب. وإن أرادوا أن الفاعل جعله على هذه الصفات ولم يفعل معنى فذلك باطل، لأن من شأن ما يتعلق بالفاعل من غير توسط معنى أن يكون القادر عليه قادرا على إحداث تلك الذات.
ألا ترى أن من قدر على إحداث كلامه قدر على أن يجعله على جميع أوصافه من أمر ونهي وخبر وغير ذلك، وكلام الغير لما لم يكن قادرا على إحداثه لم يكن قادرا على جعله أمرا ونهيا وخبرا. والواحد منا يقدر على أن يجعل الجسم متحركا أو ساكنا أو مجتمعا أو متفرقا ولا يقدر على إحداثه، فدل ذلك على أن هذه الصفات غير متعلقة بالفاعل، فلم يبق بعد ذلك شئ يعقل إلا أنه صار كذلك لمعنى.
والذي يدل على حدوث ذلك المعنى أن المجتمع إذا فرق أو المتحرك إذا سكن لا يخلوا أن يكون ذلك المعنى الذي كان فيه باقيا كما كان أو انتقل عنه أو عدم. ولا يجوز أن يكون موجودا كما كان، لأن ذلك يوجب كونه مجتمعا متفرقا متحركا ساكنا، لوجود المعنيين معافيه في حالة واحدة، وذلك محال
Bogga 22
ولا يجوز أن يكون انتقل عنه، لأن الانتقال من صفات الجسم دون العرض، ولأنه لو انتقل لم يخلو إما أن يكون انتقل مع جواز ألا ينتقل أو وجب انتقاله.
ولو كان انتقاله جائزا لاحتاج إلى معنى كالجسم، وذلك يؤدي إلى إثبات معان لا نهاية لها، ولو وجب انتقاله لأدى إلى وجوب انتقال الجسم، والمعلوم أن الجسم لا يجب انتقاله إن لم ينقله ناقل، فلم يبق من الأقسام إلا أنه عدم.
ولو كان قديما لما جاز عدمه، لأنه قديم لنفسه، وصفات النفس لا يجوز خروج الموصوف عنها. ألا ترى أن السواد لا يجوز بياضا ولا الجوهر عرضا ولا الحركة اعتمادا وغير ذلك، لأن هذه الأشياء على ما هي عليه لنفسها فلا يجوز عليها التغيير. فلما ثبت عدمها على أنها لم تكن قديمة، وإذا لم تكن قديمة وجب كونها محدثة.
والذي يدل على الفصل الثالث - وهو أن الجسم لم يخل منها هو أنه معلوم ضرورة أن الأجسام للعالم لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو متحركة أو ساكنة، فثبت بذلك أنها لا تخلو من الاجتماع والافتراق.
ومن قال إن الأجسام كانت هيولي لا مجتمعة ولا مفترقة. ربما أشار بذلك إلى أنها كانت معدومة فسماها موجودة، كما يقولون موجود بالقوة وموجود في العلم، وذلك عندنا ليس بوجود في الحقيقة. ومتى أرادوا ذلك كان خلافا في العبارة لا يعتد به.
وأما الفصل الرابع فالعلم به ضرورة، لأن من المعلوم أن كل ذاتين وجدا معا ولم تسبق إحداهما الأخرى، فإن حكمهما حكم واحد [في الوجود] 1) ألا ترى أنا إذا فرضنا ميلاد زيد وعمرو في وقت واحد فلا يجوز مع ذلك أن يكون أحدهما أسبق من الآخر لأن ذلك متناقض، وكذلك إذا فرضنا أن الجسم
Bogga 23