Al-Iqnaa fi Hujjiyat al-Ijmaa
الإقناع في حجية الإجماع
Daabacaha
مركز سطور للبحث العلمي
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٤٠ ه
Goobta Daabacaadda
دار الإمام مسلم للنشر والتوزيع- المدينة المنورة
Noocyada
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد: فهذا تفريغ (^١) لدرس "حجية الإجماع وكشف بعض الشبهات"، الذي ألقيتُه ليلة الرابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة لعام ثمان وثلاثين وأربعمائة وألف من هجرة النَّبِيّ - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -.
وتظهر أهمية هذا الدرس في حرص أهل البدع قديمًا وحديثًا في رد دليلٌ الإجماع أو إضعافه، وفي المقابل إهمال كثير من طلاب العلم لهذا الدليل المهم عمليًا.
لذا قمت بمراجعة المادة المفرَّغة وتنقيحها لتخرج في هذه الرسالة المكونة من مقدمة، وتمهيدٍ، وفصلين، وخاتمة وسميتها "الإقناع في حجية الإجماع"، وهي على النحو التالي:
- المقدمة: وهي التي بين يديك.
- التمهيد: أهمية الإجماع، وبعض أشياء.
- الفصل الأول: مسائل متعلقة بالإجماع، وبه ثلاث عشرة مسألة:
- المسألة الأولى: تعريف الإجماع.
_________
(^١) قام بتفريغه بعض الإخوة الأفاضل، ووثقوه، ونسقوا الأصل وزادوا فيه وغيروا في الأسلوب بما يقربه لكتاب مؤلف بدل كونه مفرغًا، ووضعوا له فهرسًا كشافًا، فقمتُ بمراجعته فألفيتُه طيبًا، فجزاهم الله خيرًا وبارك فيهم.
1 / 5
- المسألة الثانية: أدلة الإجماع.
- المسألة الثالث: موقف أهل البدع من الإجماع.
- المسألة الرابعة: قسما الإجماع.
- المسألة الخامسة: الإجماع السكوتي.
- المسألة السادسة: حتمية استناد الإجماع على نص.
- المسألة السابعة: حجية الإجماع قبل الخلاف وبعده.
- المسألة الثامنة: ضابط القول الشاذ.
- المسألة التاسعة: حجية إجماع أهل كل فن في فنِّهم.
- المسألة العاشرة: شرطية انقراض العصر في الإجماع.
- المسألة الحادية العشرة: لا يجوز في الشريعة إحداث قول جديد.
- المسألة الثانية عشرة: طريقة معرفة الإجماع.
- المسألة الثالثة عشرة: الإجماع دليلٌ كاشف.
- الفصل الثاني: إشكالات على دليلٌ الإجماع، وبه أربع وعشرون شبهةً وتوجيهها:
- الشبهة الأولى: رد الإجماع بزعم أن رسول الله ﷺ سلفه.
- الشبهة الثانية: رد الإجماع بزعم أن الصحابي راوي الحديث سلفه.
- الشبهة الثالثة: رد الإجماع بزاعم أنَّه ليس من المجمعين.
- الشبهة الرابعة: رد الإجماع بحجة ثبوت خرم إجماعات مدعاة.
- الشبهة الخامسة: رد الإجماع لمخالفة بعض العلماء إجماعات الصحابة.
- الشبهة السادسة: رد الإجماع بحجة وجود كثير من الفقهاء المتأخرين لا يعتد بالإجماع السكوتي.
1 / 6
- الشبهة السابعة: رد الإجماع لما نسب للشافعي: «ما ليس فيه خلاف فليس إجماعًا».
- الشبهة الثامنة: رد الإجماع بحجة أن السنة حجة في ذاتها ولا تحتاج إلىعمل.
- الشبهة التاسعة: رد الإجماع بحجة أن الإجماع الذي يحتج به الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية هو إجماع الصحابة.
- الشبهة العاشرة: الإجماع الذي هو حجة هو المعلوم من الدين
بالضرورة دون غيره.
- الشبهة الحادية عشرة: عدم العلم بالمخالف لا يدل على
الإجماع.
- الشبهة الثانية عشرة: لا يصح الاستدلال بالإجماع في مخالفة
الدليل، لئلا نوافق أهل البدع.
- الشبهة الثالثة عشرة: رد الإجماع بحجة الإجماع الذي لا يقطع به هو من الظن.
- الشبهة الرابعة عشرة: إذا صح الحديث وجب العمل به ولو لم
يعلم من عمل به؛ لأنه حجة بلا خلاف.
- الشبهة الخامسة عشرة: ترك الحديث لعدم العلم بالمخالف
عليه المتأخرون دون المتقدمين.
- الشبهة السادسة عشرة: إذا وجد نص لم يُعمل به فلابد وأن
هناك من عمل به، ولا يلزم أن ينقل قول من عمل به.
- الشبهة السابعة عشرة: مخالفة من قوله ليس حجة مما حكي
عليه الإجماع أعذر من مخالفة من قوله حجة وهو الكتاب والسنة، فكيف تترك الحجة وهو الكتاب والسنة إلى من قوله ليس حجة؟
1 / 7
- الشبهة الثامنة عشرة: أن طائفة من أهل العلم قالوا أقوالًا لم
يسبقوا إليها فدل هذا على جواز إحداث قول جديد.
- الشبهة التاسعة عشرة: رد الإجماع بحجة قول إسحاق ابن راهويه في مسألة: ... ما ظننت أن أحدًا يوافقني.
- الشبهة العشرون: درج العلماء على تقديم الكتاب والسنة على
الإجماع، وعليه إذا تعارض النص والإجماع قُدِّم النص.
- الشبهة الحادية والعشرون: لا إجماع في علوم الآلة لأنه لا
نصوص فيها ولا إجماع إلا وهو مستند على نص.
- الشبهة الثانية والعشرون: حقيقة مخالفة التابعي للصحابي
إحداث قول جديد.
- الشبهة الثالثة والعشرون: تقديم الكتاب والسنة على الإجماع
الظني دون القطعي.
- الشبهة الرابعة والعشرون: رد الإجماع بحجة أن النووي قال: إن
النص يعمل به ولو لم يعمل به أحد.
- الخاتمة.
والله أسأل أن يتقبل هذه الرسالة، وأن يجعلها نافعةً لخلقه، مقبولةً عنده سبحانه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
د. عبد العزيز بن ريس الريس
المشرف على موقع الإسلام العتيق
١٨/ ٤/ ١٤٣٩ هـ
1 / 8
تمهيد
قبل الولوج في لُبِّ هذا البحث ينبغي أن نعلم أن دليل الإجماع من أهم الأدلة عند علماء أهل السُّنة، «وعليه مَدَارُ مُعظمِ الأحكَامِ في الفَرْقِ والجَمْعِ، وإليه استنادُ المقاييسِ والعِبَرِ، وبه اعتضَادُ الاستِنبَاطِ في طُرُقِ الفِكَرِ» (^١).
وتتجلى تلك الأهمية للإجماع عند النظر إلى كثير من أدلة الكتاب والسنة التي إذا أوردت في كثير من المسائل يعترض عليها كثير من المخالفين؛ بأنها ليست قطيعة في دلالتها بل تحتمل كذا وكذا ... ويأخذون في تنويع المشارب وتعديد المذاهب؛ لذا كان من أنفع ما يحفظ عقيدة ومنهج أهل السنة: هو فهم السلف في الإفهام والتفهيم، والأخذ والرد، والنفي والإثبات، والتأصيل والتقعيد ... وما إلى ذلك.
وفهم السلف: صورة من صور الإجماع؛ لذا ضبط الإجماع مهم للغاية وكذا الاعتناء به؛ حتى يُحفظ معتقد أهل السنة ويُصان عن تلك الهالة المسماة «قطعي وظني الدلالة»، تلك الهالة التي قَلَبَتِ الإسلامَ رأسًا على عقب وظهرًا لبطنٍ، حيث يردُّ أولئك المتكلمون كثيرًا من الأدلة الظاهرة الواضحة بزعمهم أنها ليست قطعيةً في دلالتها أو أنَّها ظنيَّةٌ في ثبوتيَّتِها.
وليس معنى هذا أننا ننكر ما اصطُلح عليه بـ «قطعي الدلالة وظني الدلالة»، وإنما هو إيراد في مقام الرد على المتكلمين الذين ردوا الأدلة بحجة أنها ظنية في دلالتها أو ظنية في ثبوتها، - فمثلًا - يرد المتكلمون خبر الآحاد بحجة أنه ليس قطعيًا في ثبوته، فإذا أتيتَ لهم بالقطعي في ثبوته كالخبر المتواتر من السنة النبوية أو من القرآن: أثارَ أولئك القوم زوبعتَهم ليشككوا في دلالته، ومن ثَمَّ يرفضون الاحتجاج به ... وهكذا هو دأبهم.
_________
(^١) انظر: «غياث الأمم» لأبي المعالي الجويني (ص:٤٥).
1 / 9
فتقسيم الأدلة إلى قطعي وظني من حيث هو تقسيم لا إشكال فيه؛ إذ هو واقع ماله من دافع، ولا يصح أن يرد وإنما الواجب أن لا يستعمل هذا التقسيمُ استعمالا إبليسيًّا في رد الأدلة ورفضها.
إذا تبين هذا فلتعلمْ أن من أهم ما يضبط هذا الأمر هو الإجماع؛ لأن مزية دليل الإجماع أنه قاطع في دلالته، كما نص على هذا الغزالي في «المستصفى» (^١)، وابن قدامة في «روضة الناظر» (^٢) ونقله الزركشي في «البحر المحيط» (^٣) والشوكاني في «إرشاد الفحول» (^٤) عن الصيرفي وابن برهان والأصفهاني بل صرح الأصفهاني أنه المشهور.
ومعنى أنه قاطع في دلالته أمران:
الأمر الأول: أن دلالته لا تحتمل أكثر من وجه.
الأمر الثاني: أنه لا يصح أن ينسخ؛ لأن الإجماع لم يكن إلا بعد وفاة النبي ﷺ، فإذن لا يمكن أن ينسخ، بل العكس صحيح على الصحيح، فإنَّ الإجماع يدل على نسخ الأدلة؛ لأنه مستند على نص وليس هو الناسخ في نفسه (^٥).
_________
(^١) انظر: «المستصفى» للغزالي ص ١٤٢ وما بعدها.
(^٢) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامه (١/ ٣٧٨) وما بعدها.
(^٣) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٣٨٨).
(^٤) انظر: «إرشاد الفحول» للشوكاني (١/ ٢٠٩).
(^٥) انظر في هذا: «المستصفى» للغزالي (١/ ١٠١)، و«المحصول» للرازي (٣/ ٣٥٤)، و«الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ١٦٠ - ١٦٢)، و«البحر المحيط» للزركشي (٥/ ٢٨٤ - ٢٨٩)، و«شرح مختصر الروضة» للطوفي (٢/ ٣٣٠ - ٣٣٢) وغيرها.
1 / 10
الفصل الأول
مسائل متعلقة بالإجماع
المسألة الأولى:
تعريف الإجماع
لا ينبغي المبالغة في التعاريف كما هو مسلك المتكلمين الذين بالغوا في التعاريف والحدود، بحيث إنه لا يأتي أحدهم بحد إلا ويعترض عليه الآخر، بحجة أنه ليس جامعا أو ليس مانعا أو أن ألفاظه مترادفة إلى غير ذلك (^١).
وإنما المقصود من التعريف تقريب المعرف، والمقصود من الحد تقريب المحدود، أما الحد الحقيقي فهذا لا وجود له، كما بينه شيخ الإسلام ﵀ في «مجموع الفتاوى» (^٢)، فالمقصود إذن من التعريف هو معرفة المحدود.
وما كان السلف الأولون من فقهاء أهل الحديث، كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، يعتنون بهذه التعاريف، لذا لا تجدها في كتبهم، ولا تجدهم يعتنون بها فضلًا عن أن يبالغوا فيها، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في رده على المناطقة في «مجموع الفتاوى» (^٣).
فمعنى الإجماع من حيث الجملة: «أنه اتفاق مجتهدي الأمة على مسألة شرعية بعد وفاة النبي ﷺ».
وذلك أن البحث جار في المسائل الشرعية وجار في المجتهدين، والإجماع إنما يكون حجة بعد وفاة النبي ﷺ.
_________
(^١) كما في: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ١٩٥ - ١٩٦)، و«البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٣٧٩ - ٣٨٢) وغيرهما.
(^٢) انظر: «مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (٩/ ٨٥ - ٨٦).
(^٣) انظر المصدر السابق.
1 / 11
وما وقع في حياته ﷺ فإنه حجة لسببين:
الأول: إما أنه اطلع عليه، فهو إقرار منه ﷺ.
الثاني: أو أن الله لم ينكره، فهذا إقرار من الله، فهو حجة على الصحيح.
بل عزا ابن حجر حجيته إلى جماهير أهل العلم في كتابه «النكت على مقدمة ابن الصلاح» (^١).
ومن الأدلة على ذلك: ما أخرج مسلم من حديث جابر قَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ (^٢)، وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» (^٣).
استدل على جواز العزل بأن الله لم ينكره، قال سفيان ابن عيينة: لو كان منهيا عنه لنهى عنه القرآن (^٤).
إذن الإجماع: «اتفاق مجتهدي الأمة على مسألة شرعية بعد وفاة رسول الله ﷺ».
وقال بعض المتكلمين كأبي بكر الباقلاني (^٥) والآمدي (^٦) في «أصول الأحكام» أن قول العوام يعتد به في الإجماع وفاقًا وخلافًا، بمعنى إذا خالف العامة لم يصح الإجماع.
وهذا فيه نظر كبير بل هو خطأ؛ وذلك أن العوام في مسائل الشريعة تبع لأهل العلم، فإذا أجمع أهل العلم فالعوام تبع لهم ولا يصح للعامي أن يخالف. ذكره
_________
(^١) انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» لابن حجر (٢/ ٥١٥) وما بعدها.
(^٢) العَزْلُ: هو عَزْلُ الرَّجُلِ الماءَ عن جاريتِه إذا جَامَعَهَا لِئَلَّا تَحمِل. انظر: «لسان العرب» لابن منظور (١١/ ٤٤١)
(^٣) أخرجه البخاري (٥٢٠٨)، ومسلم (١٤٤٠).
(^٤) أخرجه مسلم (٢/ ١٠٦٥) رقم (١٤٤٠).
(^٥) انظر: «المحصول» للرازي (٤/ ١٩٦)، و«شرح مختصر الروضة» للطوفي (٣/ ٣١).
(^٦) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٢٢٨).
1 / 12
أبو الخطاب الحنبلي في «التمهيد» (^١).
* * *
المسألة الثانية:
أدلة الإجماع
تنوَّعت الأدلة وتضافرت على حجية الإجماع، وإليك بعضها:
الدليل الأول:
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥].
استدل بهذه الآية جمع من الأصوليين كالآمدي في كتابه «أصول الإحكام» (^٢)، وابن قدامة في «الروضة» (^٣)، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^٤)، بل أكثر من كَتبَ في الأصول إذا أورد مسألة الإجماع أتى بهذه الآية (^٥)، وقد نسب هذا الاستدلال للشافعي بعضهم (^٦)، ونازع آخرون في هذا الاستدلال (^٧).
_________
(^١) انظر: «التمهيد في أصول الفقه» لأبي الخطاب (٣/ ٢٥١).
(^٢) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٢٢٨).
(^٣) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٨٠ - ٣٨١).
(^٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ١٧٨)، و(١٩/ ١٩٢).
(^٥) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٧)، و«التمهيد في أصول الفقه» لأبي الخطاب (٣/ ٢٥١)، و«المحصول» للرازي (٤/ ٣٥ - ٣٦)، و«التحبير شرح التحرير» للمرداوي (٤/ ١٥٣١ - ١٥٣٢)، و«الكوكب المنير» لابن النجار (٢/ ٢١٥) وغيرهم.
(^٦) انظر: «أحكام القرآن» للشافعي (١/ ٣٩)، وانظر قصة استدلاله في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٠/ ٨٣ - ٨٤).
وممن نسبه له: الآمدي في «الإحكام في أصول الأحكام» (١/ ٢٠٠)، والغزالي في «المستصفى» (١/ ١٣٨)، وابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (١٩/ ١٧٨) وغيرهم.
(^٧) انظر: «المستصفى» للغزالي (١/ ١٣٨).
1 / 13
وجه الدلالة من هذه الآية: أن الله رتب العقوبة على ترك سبيل المؤمنين، فدل هذا على أن اتباع سبيل المؤمنين واجب، فإذن إذا كان المؤمنون من أهل العلم من المجتهدين على قول في هذه المسألة فإن قولهم حجة وهذا هو المقصود.
الدليل الثاني: قوله سبحانه: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: ٥٩].
استدل بهذه الآية أبو الحسين (^١)، والآمدي (^٢)، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^٣) وغيرهم.
ووجه الدلالة: أنه يعمل مباشرة بما لم يحصل فيه نزاع بخلاف ما حصل فيه نزاع فإنه يرد للكتاب والسنة.
الدليل الثالث: قوله تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [آل عمران: ١١٠]
استدل بهذه الآية أبو الحسين (^٤)، والآمدي (^٥)، والطوفي (^٦)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (^٧) وغيرهم.
ووجه الدلالة: أن الأمة إذا أجمعت على قول فإن هذا القول خير؛ لأنها أمرت به، ولو لم يكن خيرًا لوجد في الأمة من ينكر ذلك، ولا يمكن أن يُنقل لنا القول المرجوح والخطأ دون القول الراجح.
_________
(^١) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ١٥).
(^٢) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٢١٨).
(^٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١/ ٩)، و(١٩/ ٦٧)، و(١٩/ ٩١).
(^٤) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٦).
(^٥) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٢١٤).
(^٦) انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (٣/ ١٧).
(^٧) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ١٧٦).
1 / 14
الدليل الرابع: قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: ١٤٣].
والمراد بالوسط أي العدل والخيار، فإذا أجمع العلماء على قول فهذا هو القول الحق وهو الخيار الذي يحبه الله، وقد استدل بهذه الآية أبو الحسين (^١)، والآمدي (^٢)، والطوفي (^٣)، وشيخ الإسلام ابن تيمية (^٤) وغيرهم.
الدليل الخامس: أخرج الشيخان من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵄ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (^٥).
وأخرجه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة (^٦)، ومسلم من حديث جابر (^٧)، وثوبان (^٨)، وسعد بن أبي وقاص (^٩)، وغيرهم من صحابة (^١٠) رسول الله ﷺ.
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن الأمة إذا أجمعت على قولٍ فحتمًا ولا بد أن يكون من بينها تلك الطائفة المنصورة التي لا تكون إلا على الحق؛ فبهذا يتبين أن هذا القول حقٌ، وهذا هو المراد إذ يدل على حجية الإجماع.
_________
(^١) انظر: «المعتمد» لأبي الحسين (٢/ ٤).
(^٢) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (١/ ٢١١).
(^٣) انظر: «شرح مختصر الروضة» للطوفي (٣/ ١٥).
(^٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ١٧٧).
(^٥) أخرجه البخاري (٣٦٤١)، ومسلم (١٠٣٧/ ١٧٤) - واللفظ له -.
(^٦) أخرجه البخاري (٧٣١١)، ومسلم (١٩٢١).
(^٧) أخرجه ومسلم (١٥٦)، و(١٩٢٣).
(^٨) أخرجه ومسلم (١٩٢٠).
(^٩) أخرجه ومسلم (١٩٢٥).
(^١٠) مثل عقبة بن عامر كما عند مسلم (١٩٢٤)، وأبو هريرة كما عند ابن ماجه (٧)، وقرة بن إياس كما عند الترمذي (٢١٩٢)، وابن ماجه (٦).
1 / 15
ولنفرض أن الأمة في وقت أجمعت على قول معين فقطعًا هذا القول هو الراجح وهو الذي يحبه الله؛ لأن من بين المجمعين تلك الطائفة المنصورة.
الدليل السادس: ثبت عند أحمد وغيره عن ابن مسعود ﵁ أنه قال: «...، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ» (^١).
هذا دليل على حجية الإجماع كما أفاده ابن حزم (^٢)، وابن القيم في «الفروسية» (^٣)، والشاطبي في «الاعتصام» (^٤)، وغيرهم من أهل العلم.
ورواه الخطيب البغدادي (^٥) مرفوعًا عن أنس ﵁، لكنه لا يصح من حديث أنس، كما بينه ابن حزم (^٦)، وابن القيم في كتابه «الفروسية» (^٧)، وابن عبد الهادي فيما نقله عنه العجلوني (^٨)، والعلامة الألباني (^٩).
الدليل السابع: ثبت عند ابن أبي عاصم عن أبي مسعود البدري أنه قال: «عليكم بالجماعة، فإن الله لا يجمع أمة محمد ﷺ على ضلالة» (^١٠)
_________
(^١) أخرجه أحمد (٣٦٠٠)، والبزار (١٨١٦)، وابن الأعرابي في «المعجم» (٨٦١)، والطبراني في «المعجم الكبير» (٩/ ١١٢)، والحاكم (٤٤٦٥) وصححه، وغيرهم.
(^٢) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٦/ ١٨ - ١٩).
(^٣) انظر: «الفروسية» لابن القيم (ص:٢٩٩).
(^٤) انظر: «الاعتصام» للشاطبي (٣/ ٤٦، ٣٢٥).
(^٥) أخرجه الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد» (٥/ ٢٧٠).
(^٦) انظر: «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٦/ ١٨).
(^٧) انظر: «الفروسية» لابن القيم (ص:٢٩٨).
(^٨) انظر: «كشف الخفاء» للعجلوني (٢/ ٢٢١).
(^٩) انظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني (٥٣٢).
(^١٠) أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» (٨٥)، وابن أبي شيبة (٣٧٦١٥)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» (١/ ١٢٢)، والحاكم (٨٥٤٥) وصححه.
1 / 16
هذا نص في حجية الإجماع وقد جاء مرفوعًا (^١)، والأصح -والله أعلم-أنه لا يصح مرفوعًا، وإنما يصح من كلام أبي مسعود البدري ﵁، ... إلى غير ذلك من الأدلة.
* تنبيه: استدل بعض الأصوليين بأدلة لا دلالة فيها على حجية الإجماع، ومن ذلك:
١ - أنهم استدلوا بالأدلة التي تدل على أن لزوم الجماعة واجب وأن من خرج عن الجماعة ومات مات ميتة جاهلية.
كالذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة ﵁، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» (^٢).
وأخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي ذر ﵁، أن النبي ﷺ قال: «مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ» (^٣).
والأظهر والله أعلم أن الاستدلال بمثل هذا لا يصح، لأن المراد بالجماعة في هذا الحديث جماعة الأبدان وهو السمع والطاعة للحاكم في غير معصية الله، وليس المراد به اجتماع الأمة وإنما المراد به جماعة الأبدان.
فقد ذكر الخطابي ﵀ في كتابه «العزلة»: أن الفرقة نوعان فرقة أبدان وفرقة أديان، وفي المقابل الاجتماع يكون نوعين، اجتماع على الأبدان واجتماع على الأديان (^٤).
_________
(^١) كما عند أبي داود (٤٢٥٣) من حديث أبي مالك الأشعري، وابن ماجه (٣٩٥٠) من حديث أنس وغيرهم.
(^٢) أخرجه مسلم (١٨٤٨/ ٥٣) من حديث أبي هريرة.
(^٣) أخرجه أحمد (٢١٥٦٠)، وأبو داود (٤٧٥٨)، وصحَّح الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (٤٧٥٨) طبعة المعارف.
وأخرجه من حديث أبي مالك الأشعري أحمدُ (٢٢٩١٠)، والترمذي (٢٨٦٣) وقال: حسن صحيح. وصحَّح الألباني في «صحيح سنن الترمذي» (٢٨٦٣) طبعة المعارف.
(^٤) انظر: «العزلة» للخطابي (ص:٨).
1 / 17
فالمراد بالجماعة في هذا الحديث جماعة الأبدان، أي الاجتماع على الحاكم في السمع الطاعة في غير معصية الله، ففرق بين هذا وبين إجماع الأمة على مسألة شريعة.
المسألة الثالثة
موقف أهل البدع من الإجماع
أهل البدع - من حيث الجملة - مع الإجماع طائفتان:
الطائفة الأولى: أنكرت الإجماع وقالت إن الإجماع ليس حجة، وأول من أنكر الإجماع واشتهر بذلك هو النظَّام المعتزلي كما عزاه إليه ابن قدامة في «روضة الناظر» (^١) ونسبه إليه جماعة (^٢)، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (^٣) أن المعتزلة والشيعة خالفوا في حجية الإجماع.
فإذن كل من أنكر حجية الإجماع فسلفه هو النظَّام المعتزلي، فإنه أول من خالف في حجية الإجماع (^٤).
والطائفة الثانية: صعَّبت وجود الإجماع ولم تصرح بإنكاره، فلسان مقالها يقول: نقر بالإجماع. ولسان حالها يقول: لا يوجد إجماع.
ومثال ذلك:
١ - طائفة قالوا: لا يكون الإجماع إجماعًا حتى يجتمع العامة مع أهل العلم.
_________
(^١) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٧٩).
(^٢) كـ: أبي الحسين في «المعتمد» (٢/ ٤)، والغزالي في «المستصفى» (١/ ١٣٧)، والآمدي في «الإحكام» (١/ ٢٠٠)، والزركشي في «البحر المحيط» (٦/ ٣٨٤) وغيرهم.
(^٣) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١١/ ٣٤١).
(^٤) قال أبو المعالي الجويني في «البرهان في أصول الفقه» (١/ ٢٦١): أول من باح بِرَدِّه النظَّام، ثم تابعه طوائف من الروافض.
1 / 18
وقد تقدم نسبة هذا القول إلى الباقلاني والآمدي، وحقيقة هذا القول أنه لا يوجد إجماع لصعوبة تحقق ذلك.
فقد قال ابن قدامة: «وهذا القول يرجع إلى إبطال الإجماع؛ إذ لا يتصور قول الأمة كلهم في حادثة واحدة.
وإن تصوّر: فمن الذي ينقل قول جميعهم، مع كثرتهم وتفرقهم في البوادي والأمصار والقرى؟!» (^١).
٢ - وطائفة قالوا: إن الإجماع السكوتي ليس حجة، وسيأتي - إن شاء الله - بحث الإجماع السكوتي.
ومعناه: أن يتكلم طائفة من أهل العلم ويشتهر هذا القول ولا ينكره آخرون.
فقالت هذه الطائفة: إن هذا الإجماع ليس حجة.
وهذا القول إذا دققتَ فيه وجدتَه رجع إلى قول المتكلمين، كما سيأتي بيانه - إن شاء الله -؛ إذ لازم القول بأن الإجماع السكوتي ليس حجة أن لا يوجد إجماع يحتج به.
قال أبو بكر الجصاص في كتابه «الفصول في الأصول» ما ملخصه: ولازم إنكار الاحتجاج بالإجماع السكوتي أن لا يوجد إجماع (^٢).
وصدق ﵀.
_________
(^١) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٣٩١).
(^٢) انظر: «الفصول في الأصول» للجصاص (٣/ ٢٩٠).
حيث قال: «...، فوجب بهذا أن يكون سكوتهم بعد ظهور القول وانتشاره: دلالة على الموافقة.
ولو لم يصح الإجماع من هذا الوجه، لما صح إجماع أبدا، إذ غير ممكن أن يضاف شيء من الأشياء بقول إلى جميع الأمة: على أنها قد قالته ولفظت به، وإنما يعتمدون فيه على ظهور القول فيهم، من غير مخالف لهم».
1 / 19
وذكر نحو هذا ابن قدامة في «روضة الناظر» (^١)، بل وقال في «المغني» لما ذكر مسألة ونقل فيها قول بعض الصحابة دون مخالف: لا سبيل إلى نقل قول جميع الصحابة في مسألة، ولا إلى نقل قول العشرة، ولا يوجد الإجماع إلا القول المنتشر (^٢).
فينبغي لأهل السنة أن لا يغتروا بأقوال أهل البدع، وأن يكونوا متبصرين
وممن خالف في حجية الإجماع أو ضيق كثيرًا الظاهرية، وسيأتي الكلام - إن شاء الله تعالى - على الظاهرية ومذهبهم في ذلك.
إيرادٌ وردُّه
فإن قيل: ماذا يقال في قول الإمام أحمد: «من ادعى الإجماع فهو كاذب»؟
فيقال: الجواب من وجهين:
الوجه الأول: أن الإمام أحمد قطعًا لم يردْ إنكار الإجماع، بدليل أن الإمام أحمد نفسه استدل بالإجماع في مسائل كثيرة، منها:
١ - قول الإمام أحمد: «أجمعوا على أن التكبير - أي المقيد -، يبتدئ من غداة يوم عرفة» (^٣).
٢ - وقوله: «أجمعوا على أن أولاد المسلمين في الجنة» (^٤).
_________
(^١) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٣٧)، حيث قال: «...، أنه لو لم يكن هذا إجماعًا: لتعذر وجود الإجماع؛ إذ لم ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر مصرحًا به».
(^٢) انظر: «المغني» لابن قدامة (٢/ ٣١٠) بمعناه.
(^٣) انظر: «العدة في أصول الفقه» (٤/ ١٠٦١)، و«المغني» لابن قدامة (٢/ ٢٩٢)، و«فتح الباري» لابن رجب (٩/ ٢٢،٢٤).
(^٤) انظر: «أحكام أهل الملل» للخلال (١/ ١١) بلفظ: «ليس فيه خلاف»، و«المغني» لابن قدامة (٤/ ٣٧) بلفظ: «ليس فيه اختلاف».
1 / 20
٣ - وقوله: «أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز» (^١).
٤ - وقوله: «إجماع العلماء والأئمة المتقدمين على أن القرآن كلام اللَّه غير مخلوق، هذا الدين الذي أدركت عليه الشيوخ، وأدرك الشيوخ من كان قبلهم على هذا» (^٢).
٥ - وقوله: «أجمعوا على أن من تذكر صلاة حضر في سفر فإنه يصلي صلاة حضر» (^٣).
٦ - وقوله في قوله تعالى ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠٤]: «أجمع الناس أن هذِه الآية في الصلاة» (^٤).
٧ - وقوله: «أجمعوا على أن الدم نجس» (^٥).
٨ - وقوله: «لم يختلف الناس أن الرجل إذا أسلم أنه على نكاحه» (^٦).
وغير ذلك من المسائل التي نقل فيها الإمام أحمد الإجماع وعدم الخلاف، فالمقصود أن الإجماعات عن الإمام أحمد ليست قليلة، فكيف ينكر الإجماع وهو نفسه استدل بالإجماع؟!
الوجه الثاني: أن أصحاب الإمام أحمد لم يفهموا إنكار الإمام أحمد للإجماع؛ لذا انقسموا طوائف في توجيه كلامه كالتالي:
_________
(^١) انظر: «المغني» لابن قدامة (٤/ ٥١).
(^٢) انظر: «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (١/ ١٧٢).
(^٣) انظر: «المغني» لابن قدامة (٢/ ٢٠٨)، بلفظ: «أما المقيم إذا ذكرها في السفر، فذاك بالإجماع يصلي أربعا».
(^٤) انظر: «مسائل أبي داود» (٤٨).
(^٥) انظر: «شرح العمدة» لابن تيمية (١/ ١٠٥)، و«إغاثة اللهفان» لابن القيم (١/ ١٥١).
(^٦) انظر: «أحكام أهل الملل» للخلال (٥٠٩)، و(٥٠٧).
1 / 21
١ - فمنهم من حمله على الورع، كأبي يعلى في «العدة» (^١).
٢ - ومنهم من حمله على الإجماع الذي يحكيه أهل البدع وليسوا أهلا لحكاية الإجماع، هذا القول الآخر الذي ذكره أبو يعلى في «العدة» (^٢).
وقريب منه ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «بيان الدليل في بطلان التحليل» (^٣)، وقريب منه ما ذكره ابن القيم في «إعلام الموقعين» (^٤).
٣ - وأيضًا لابن تيمية توجيه ثالث كما في «المسودة» قال: إن كلام الإمام احمد محمول على الإجماع بعد القرون المفضلة (^٥).
* وأظهر هذه التوجيهات أن كلام الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - هو في حق من ليس أهلًا لحكاية الإجماع كأهل البدع وكأهل الرأي الذين يردون النصوص بالإجماعات، وهم ليسوا أهلًا لحكاية الإجماع؛ لذا قال الإمام أحمد: في تتمة الكلام هذه دعوى بشر والأصم ... إلخ، أي دعوى أهل البدع.
وقد بين ابن تيمية رحمه الله تعالى في «التسعينية»، أن أهل البدع كثيرًا ما يحكون إجماعات في مسائل عقدية وهم مخطئون في ذلك، فقال ﵀: «...، وهذا الإجماع نظير غيره من الإجماعات الباطلة المدعاة في الكلام وغيره -وما أكثرها-، فمن تدبر وجد عامة المقالات الفاسدة يبنونها على مقدمات لا تثبت إلّا بإجماع مدعى أو قياس، وكلاهما عند التحقيق يكون باطلًا» (^٦).
_________
(^١) انظر: «العدة في أصول الفقه» لأبي يعلى (٤/ ١٠٦٠).
(^٢) انظر: «العدة في أصول الفقه» لأبي يعلى (٤/ ١٠٦٠).
(^٣) انظر: «بيان الدليل في بطلان التحليل» لابن تيمية (١/ ٣٢٧).
(^٤) انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم (٢/ ٥٣ - ٥٤)، و(٣/ ٥٥٨ - ٥٥٩).
(^٥) انظر: «المسودة» لابن تيمية (ص:٣١٦).
(^٦) انظر: «التسعينية» لابن تيمية (٢/ ٤٩٢).
1 / 22
المسألة الرابعة
قسما الإجماع
ينقسم الإجماع قسمين:
القسم الأول: الإجماع القطعي.
والقسم الثاني: الإجماع الظني.
وينقسيم الإجماع إلى قطعي وظني في ثبوته لا في دلالته؛ لأن الإجماع في دلالته لا يخرج عن كونه قاطعًا وقطعيًا - كما تقدم - وإنما البحث في ثبوته.
فالإجماع في ثبوته ينقسم قطعيًا وظنيًا، ذكر هذا ابن قدامة في «روضة الناظر» (^١)، وابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^٢)، والزركشي في «البحر المحيط» (^٣)، وغيرهم من أهل العلم.
وضابط الإجماع القطعي: - والله أعلم -: هو ما كان مبنيًا على نص ظاهرٍ وتوارد العلماء عليه، كإيجاب الصلاة والزكاة ونحوِ ذلك، فإذا وجد نص ظاهر توارد العلماء عليه فمثل هذا يقال إنه إجماع قطعي، وهذا مستفاد من كلام شيخ الإسلام (^٤) رحمه الله تعالى والزركشي (^٥) وقد صرح به شيخنا العلامة ابن عثيمين (^٦) رحمه الله تعالى.
أما الإجماع الظني: فهو خلاف ذلك مما رجع إلى استقراء أهل العلم (^٧).
_________
(^١) انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة (١/ ٤٤٠ - ٤٤١).
(^٢) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢٦٧ - ٢٦٨).
(^٣) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٤١٤ - ٤١٥).
(^٤) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢٦٧ - ٢٦٨).
(^٥) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٤٩٩).
(^٦) انظر: «الأصول من علم الأصول» لابن عثيمين (ص:٦٥ - ٦٦).
(^٧) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢٦٧)، و«الأصول من علم الأصول» لابن عثيمين (ص:٦٥ - ٦٦).
1 / 23
سؤال وجواب
هل يُحكم بكفر منكر الإجماع؟
وللجواب عن هذا السؤال لابد من التفرقة بين من أنكر الإجماع القطعي، وبين من أنكر الإجماع الظني.
فالأول: يُحكم بكفره؛ لأنه ينكر النصوص الظاهرة كإيجاب الزكاة والصلاة.
والثاني: لا يكفر مثله.
ذكر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (^١)، الزركشي في «البحر المحيط» (^٢).
تنبيه: ومما ينبغي أن يعلم: أن الإجماع الظني على مراتب فليس على مرتبة واحدة، فيما نقله الزركشي (^٣). وصدق رحمه فليس الإجماع الذي يتوارد العلماء على حكايته كالإجماع الذي لا يحكيه إلا عالم واحد فهو يتفاوت في قوته.
المسألة الخامسة
الإجماع السكوتي
وهذه المسألة من المسائل المهمة التي ينبغي ضبطها ضبطًا علميًا؛ لكثرة الشبهات والإشكالات التي تَرِدُ عليها، وسيأتي بحث ذلك -إن شاء الله-.
فالمراد بالإجماع السكوتي: أن ينطق طائفة من أهل العلم ويسكت الباقون.
وبعضهم يقول: تتكلم طائفة من أهل العلم ويشتهر قولهم ولا يخالفهم
_________
(^١) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢٧٠).
(^٢) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٤٩٦) وما بعدها.
(^٣) انظر: «البحر المحيط» للزركشي (٦/ ٣٨٩).
1 / 24