al-Athar al-Marwiyah fi sifat al-Ma'iyyah

Muhammad ibn Khalifa Al-Tamimi d. Unknown

al-Athar al-Marwiyah fi sifat al-Ma'iyyah

الآثار المروية في صفة المعية

Daabacaha

أضواء السلف،الرياض

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

١٤٢٢هـ / ٢٠٠٢م

Goobta Daabacaadda

المملكة العربية السعودية

Noocyada

الآثار المروية في صفة المعية تأليف: د/محمد بن خليفة التميمي بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه، وحجته على عباده، وخِيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا. وبعد: فإن الإيمان بأسماء الله وصفاته شطر باب الإيمان بالله ﷿، ذلك أن الإيمان بالله إنما يتحقق بأمرين هما: أولًا: توحيد الله في أسمائه وصفاته وأفعاله وهذا ما يسمى بالتوحيد العلمي الخبري. ثانيًا: توحيد الله في عبادته وحده لا شريك له، وهذا ما يسمى بالتوحيد الإرادي الطلبي. وكلا التوحيدين لابد لتحقيقهما من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ حتى تسلم للمسلم عقيدته التي هي مصدر فلاحه وسبب سعادته في الدنيا والآخرة. هذا وإن العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله أجل العلوم وأشرفها وأعظمها، بل هو أصلها كلها

1 / 5

فعلى أساس العلم الصحيح بالله وبأسمائه وصفاته يقوم الإيمان الصحيح وتنبني مطالب الرسالة جميعها، فهذا التوحيد أساس الهداية والإيمان وأصل الدين الذي يقوم عليه، ولذلك فإنه لا يتصور إيمان صحيح ممن لا يعرف ربه، فهذه المعرفة لازمة لانعقاد أصل الإيمان، وهي مهمة جدًا للمؤمن لشدة حاجته إليها لسلامة قلبه وصلاح معتقده واستقامة عمله؛ وهي التي توجب للعبد التمييز بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والإقرار والتعطيل، وتنزيه الرب عما لا يليق به، ووصفه بما هو أهله من الجلال والإكرام؛ وذلك يتم كما هو معلوم بتدبر كلام الله تعالى وما تعرَّف به سبحانه إلى عباده على ألسنة رسله من أسمائه وصفاته وأفعاله، وما نزه نفسه عنه مما لا ينبغي له ولا يليق به سبحانه. ولما كانت صفة المعية إحدى الصفات الثابتة لله تعالى كما دلت على ذلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية؛ فقد أحببت أن أجمع النصوص المروية في ذلك لتقرير هذه الصفة ولتوضيح المسائل المتعلقة بها من جهة، والرد على شبهات المخالفين التي أثيرت حولها من جهة أخرى. ومما دفعني للكتابة في هذا الموضوع ما أسمعه من بعض الشبه التي تثار بين الحين والآخر حول آيات المعية من قبل أتباع أهل الكلام الذين لا يعتمدون في هذا الباب أصلًا على النصوص الشرعية، ولكنهم حاولوا التمسك بآيات المعية في إنكارهم وردهم لصفة العلو زعمًا منهم أن آيات المعية تدل على أن الله بذاته في كل مكان. وقد لبَّسوا بذلك على بعض من ليس له بصيرة ولا علم بالمأثور عن السلف في هذه المسألة، فظنوا أن هناك تعارضا بين النصوص؛ أو أن النصوص تشهد

1 / 6

بصحة قول أهل الكلام وزعمهم الفاسد. فإزالة لتلك الشبه، ودفعًا لها، وإحقاقًا للحق الذي هو أحق أن يتبع، أدلي بدلوي وأقدم هذه الخدمة للحق وطالبيه، والتي تتمثل في جمع شتات الآثار والمباحث والقضايا المتعلقة بهذه المسألة، ليسهل على طلاب العلم الإطلاع عليها بأيسر طريق وأقل مؤنة. وقد سرت في هذا البحث وفق الخطة التالية. المقدمة. المطلب الأول: آيات المعية. المطلب الثاني: أقوال السلف في تفسير آيات المعية العامة. المطلب الثالث: أقوال السلف التي تجمع بين صفتي العلو والمعية. المطلب الرابع: أقوال الناس في صفة المعية. وختمت البحث بخاتمة. ذكرت فيها نتائج البحث. وقد ركزت في ثنايا بحثي هذا على تتبع الآثار الواردة عن سلف هذه الأمة في هذه المسألة واستخراجها من كتب المأثور، وترتيبها الترتيب الزمني حسب وفاياتهم، ومع ما في هذا العمل من الجهد والتعب الذي يستدعيه التنقيب في ثنايا كتب المأثور عن هذه الأقوال إلا أن الفائدة الحاصلة من وراء ذلك أعظم وأكبر، وذلك من وجهين: الأول: بيان الحق في هذه المسألة من خلال ذكر أقوال الأئمة في مسألة المعية، بحيث يقف القارئ الكريم على أقوال الأئمة من علماء هذه الأمة في صفة المعية وتفسيرهم للآيات والنصوص الواردة فيها وبيان فهمهم لها. ففي هذا الصنيع تجلية للحق وإعانة لطالبيه على فهمه والتمسك به.

1 / 7

والثاني: إيضاح بطلان أقوال المخالفين وبيان مخالفتها لقول السلف وأنها أقوال لا أساس لها لا من النصوص الشرعية ولا من أقوال الأ~مة الذين يقتدى بهم ويستأنس بأقوالهم. فأصحاب الأقوال الباطلة أسسوا بنيانهم على جرف هار، ودعاوى زائفة إذا ما سلِّط عليها الحق اتضح بطلانها وانكشف فسادها. فأرجو من الله ﷿ أن أكون قد وفقت في تحقيق المقصود من هذا البحث، وأن ينفع به قارئيه، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
المطلب الأول: آيات المعية وردت صفة المعية في القرآن لمعنيين هما المعنى الأول: المعية العامة. وقد وردت في مواضع من القرآن الكريم وهي: * الموضع الأول: في سورة الحديد (الآية ٤) قال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ . * الموضع الثاني: في سورة المجادلة (الآية ٧) قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ . * الموضع الثالث: في سورة النساء (الآية ١٠٨) قال تعالى ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ وهذا النوع من أنواع المعية المراد به أن الله مع جميع الخلق بعلمه فهو مطلع على خلقه شهيد عليهم وعالم بهم؛ وسميت عامة لأنها تعم جميع الخلق. المعنى الثاني: المعية الخاصة. وقد وردت في القرآن الكريم في مواطن كثيرة أورد منها على سبيل المثال لا الحصر الآيات التالية: قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ الآية (١٢٨) من سورة النحل. وقال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ الآية (١٥٣) من سورة البقرة. وقال

1 / 11

تعالى ﴿ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ الآية (٤٠) من سورة التوبة. وهذه هي معية الإطلاع والنصرة والتأييد، وسميت خاصة لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه دون غيرهم من الخلق. ومما ورد في السنة بهذا الخصوص حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال النبي ﷺ "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني" ١. وبناءً على هذا التقسيم للمعية الوارد في النصوص، نص عدد من أهل العلم على ذلك في كتبهم وممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ حيث قال: "ولفظ (مع) جائت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة في هذه الآية (يقصد آية الحديد) وفي آية المجادلة فافتتح الكلام بالعلم وختمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حبل: هو معهم بعلمه. وأما "المعية الخاصة" ففي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ وقوله تعالى لموسى: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ وقال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ يعني النبي ﷺ وأبا بكر ﵁. فهو مع موسى وهارون دون فرعون، ومع محمد وصاحبه دون أبي جهل وغيره من أعدائه. ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين"٢

١ أخرجه البخاري في كتاب التوحيد باب قول الله تعالى ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ ص ١٥٥١ رقم ٧٤٠٥. ومسلم في صحيحه كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى رقم ٢٦٧٥. ٢ مجموع الفتاوى ١١/٢٤٩-٢٥٠.

1 / 12

وقال الإمام ابن القيم ﵀: " ... فمعية الله تعالى مع عبده نوعان عامة وخاصة وقد اشتمل القرآن على النوعين وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة"١. وقال في موضع آخر: " ... فمن المعية الخاصة قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾، ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ ٢، ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾، ومن العامة ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾، وقوله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ الآية"٣. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي ﵀: "ومعيته مع أهل طاعته خاصة فهو سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. فالمعية العامة تقتضي التحذير من علمه واطلاعه وقدرته وبطشه وانتقامه. والمعية الخاصة تقتضي حسن الظن بإجابته ورضاه وحفظه وصيانته"٤. وقال الشوكاني ﵀ في شرح حديث "أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني". قال: "فيه تصريح بأن الله تعالى مع عباده عند ذكرهم له، ومن مقتضى ذلك أن ينظر إليه برحمته، ويمده بتوفيقه وتسديده، فإن قلت: هو مع جميع عباده كما قال ﷾ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾، وقوله جلّ ذكره ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ الآية.

١ مختصر الصواعق ٢/٢٦٦. ٢ البقرة ١٩٤. ٣ مختصر الصواعق ٢/٢٦٦-٢٦٧. ٤ فتح الباري لابن رجب ٢/٣٣٤.

1 / 13

قلت: هذه معية عامة، وتلك معية خاصة حاصلة للذاكر على الخصوص بعد دخوله مع أهل المعية العامة، وذلك يقتضي مزيد العناية ووفور الإكرام له والتفضل عليه، ومن هذه المعية الخاصة ما ورد في كتابه العزيز من كونه مع الصابرين، وكونه مع الذين اتقوا، وما ورد هذا المورد في الكتاب العزيز أو السنة، فلا منافاة بين إثبات المعية الخاصة وإثبات المعية العامة"١. وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ﵀: "معية الله التي ذكرها في كتابه نوعان: معية العلم والاحاطة وهي المعية العامة، فإنه مع عباده أينما كانوا. ومعية خاصة، وهي معيته مع خواص خلقه، بالنصرة والعطف والتأييد"٢. هذه بعض النقول أوردتها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر لأثبات أصالة هذا التقسيم وأخذ المحققين من العلماء به وهناك نقول أخرى عن جمع أخر من العلماء كلهم قالوا بهذا التقسيم للمعية تركتها خشية الإطالة وإنما أردت بهذا التنبيه على ورود هذا التقسيم في كلام أهل العلم.

١ تحفة الذاكرين ص ١١. ٢ تيسير الكريم الرحمن ص ١٤

1 / 14

المطلب الثاني: أقوال العلماء في تفسير آيات المعية العامة ... المطلب الثاني: أقوال السلف في تفسير آيات المعية العامة تتابع أهل السنة قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل على تفسير آيات المعية بأنها معية العلم والاطلاع، والنقول التي سأوردها في هذا المطلب شملت عددا من أعلام الأمة وأئمتها بما في ذلك القرون المفضلة، وأئمة الفقه والحديث والتفسير١. فكيف تطيب نفس مسلم إلى ترك أقوال هؤلاء إلى قول من يحتج بقوله. وقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع علماء السلف على تفسيرهم لآيات المعية العامة بأن المراد بها معية العلم، وسأورد لك هنا ما وقفت عليه من آثار في تفسير تلك الآيات ليتضح لك حقيقة قولهم في المسألة. والمقصود من إيراد هذا الكمِّ الكبير من الآثار هو تفنيد تلك الدعوى التي تمسك بها المخالفون لاعتقاد السلف في هذه المسألة ومسألة العلو - التي لها ارتباط وثيق بمسألة المعية - فأوردوا حولها دعوى هي أوهى من بيت العنكبوت، وهي زعمهم أن أيات المعية العامة المراد بها أن الله معنا بذاته في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرا. وسيجد القارئ لهذا المطلب أن تفسيرهم ذاك لم يقل به أحد من السلف ولا الأئمة المعتبرين، بل ولا حتى جمع من قدماء الأشاعرة وعلى رأسهم أبو الحسن الأشعري الذي ينتسبون إليه، فالأشعري وقدماء أصحابه وافقوا السلف في تفسيرهم لآيات المعية العامة بأنها معية العلم والاطلاع.

١ سأورد في هذا المطلب أقوال بعض الأشاعرة وغيرهم، لكونهم وافقوا الحق في هذه المسألة ولا يفهم من هذا اعتبارهم من أهل السنة على المعنى الخاص، والاستشهاد بأقوال هؤلاء سار عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتوى الحموية، وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية، والذهبي في كتابيه العلو والعرش، وغيرهم من الأئمة.

1 / 17

فأصحاب هذه الدعوى مخصومون بما سنورده من آثار من أوجه عديدة. منها أن هذا المدعي إن كان حمله تعصبه لمذهب معين أوطائفة معينة على ماقال، مثل أن ينتسب إلى أحد المذاهب الأربعة، أو العقيدة الأشعرية، فإن كان ممن ينتسب إلى أحد من أصحاب المذاهب الفقهية المتعارف عليها بين المسلمين فسيجد من النقول عن أولئك الأئمة وكبار تلاميذهم والعلماء المنتسبين إليهم ما يثبت له أنه مخالف لهم في الاعتقاد وإن كان يزعم أنه من أتباعهم في الفروع الفقهية، ومن ثَمَّ يدرك حقيقة الانفصال الواقع بين أئمة المذاهب الفقهية وتلاميذهم والأئمة المبرزين في مذاهبهم وبين المتأخرين ممن يزعمون أنهم من أتباعهم في الأساس وهوالمعتقد الذي هو أهم بكثير من تقليدهم في الفروع الفقهية فأين هذا الاتباع المزعوم؟!! ولو أن هؤلاء تجردوا من التعصب والهوى ونظروا بعين الحق والإنصاف لعلموا يقينا أنهم مخالفون لهم لا أتباعا لهم. وإن كان هذا المتعصب ينتسب إلى الأشعرية، فسيدرك من خلال ماأوردناه من آثار عن متقدمي الأشاعرة، أنهم لايوافقون المتأخرين على دعواهم، وأن تلك الدعوى إنما هي عقيدة باطلة تلقاها المتأخرون - الذين كانوا جهمية خلّص في هذا الباب. - عن قدماء الجهمية والمعتزلة فبعد ذلك لا تبقى حجة أو بالأحرى دعوى لمدع في التفسير الباطل الذي ذهبوا إليه وهذا أوان الشروع في إيراد الآثار وأولها: ١ - قول ابن عباس ﵁ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ قال: "عالم بكم أينما كنتم"١.

١ أورده السيوطي في الدر المنثور ٦/١٧١.

1 / 18

٢ - قول الضحاك بن مزاحم رحمه الله١ (بعد المائة) عن مقاتل بن حيان عن الضحاك في قوله ﷿ ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ قال: "هو فوق العرش وعلمه معهم أينما كانوا."٢.

١ الضحاك بن مزاحم الهلالي، أبو محمد، أو أبو القاسم، الخراساني، من أئمة المفسرين، صدوق كثير الإرسال، من الخامسة، مات بعد المائة، أخرج له أصحاب السنن الأربعة. التقريب (ص٤٥٩) . ٢ ووصله كل من أحمد في السنة (ص٧١) . وعنه أبو داود في المسائل (ص٢٦٣) . وابن أبي حاتم كما في مجموع الفتاوى (٥/٤٩٥) . وابن جرير في تفسيره (٢٨/١٢-١٣) . وعبد الله بن أحمد في السنة ١/٣٠٤ رقم ٥٩٢، ورقم ٥٩٥. والآجري في الشريعة (٣/١٠٧٩، رقم٦٥٥) . وابن بطة في الإبانة (-تتمة الرد على الجهمية-) (٣/١٥٢-١٥٣، برقم١٠٩) . واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٣/٤٠٠، برقم٦٧٠) عن مقاتل. وابن أبي يعلى في الطبقات (١/٢٥٢) . والبيهقي في الأسماء والصفات (٢/٣٤١-٣٤٢، رقم٩٠٩) . وأورده ابن عبد البر في التمهيد ٧/١٣٩. وأورده ابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص١١٣) . وابن تيمية في شرح حديث النزول (ص١٢٦) . وأورده الذهبي في العلو (ص٩٨-٩٩) وقال: (أخرجه أبو أحمد العسال، وأبو عبد الله بن بطة، وأبو عمر بن عبد البر بإسناد جيد، ومقاتل ثقة إمام) اهـ، وفي العرش ٢/١٥٥ رقم ١٣٦، ١٣٧. وابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص١٣١، وص٢٥٧)، وأورده أيضًا كما في مختصر الصواعق (٢/١١٢) وقال: (وصح عن الضحاك) .

1 / 19

٣ - قول مقاتل بن حيان رحمه الله١ (قبل ١٥٠ هـ) قال في قوله تعالى ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ قال: "هو على العرش ولا يخل شيء من علمه"٢. ٤ - قول أبي حنيفة ﵀ (١٥٠ هـ) قال نعيم بن حماد: سمعت نوح بن أبي مريم يقول: كنا عند أبي حنيفة ﵀ أول ما ظهر، (أي أمر الجهم بن صفوان) إذ جاءته امرأة من ترمذ كانت تجالس جهما، فدخلت الكوفة، فأظنني أقل ما رأيت عليها عشرة ألاف من الناس، تدعو إلى رأيها، فقيل لها إن رجلا هاهنا قد نظر في المعقول يقال له أبو حنيفة، فأتته وقالت: أنت الذي تعلم الناس المسائل وقد تركت دينك، أين إلهك الذي تعبده؟ فسكت عنها، ثم مكث سبعة أيام لا يجيبها، ثم خرج إلينا وقد وضعكتابا أن الله في السماء دون الأرض، فقال له رجل: أرأيت قول الله تعالى ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ قال: "هو كما تكتب إلى الرجل إني معك وأنت غائب عنه"٣.

١ مقاتل بن حيان النبطي، أبو بسطام البلخي الخزاز، مولى بكر بن وائل، صدوق فاضل، أخطأ الأزدي في زعمه أن وكيعًا كذبه، وإنما كذب مقاتل بن سليمان الأزدي، من السادسة، مات قبل الخمسين ومائة بأرض الهند، أخرج له مسلم، والأربعة. تهذيب التهذيب (١٠/٢٧٧)، التقريب (٩٦٨) . ٢ أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (٣/٤٠٠، برقم٦٧٠) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٠٢)، وفي الأربعين (ص٦٤، برقم٤٧)، وفي العرش ٢/١٨٤ رقم ١٥٩، ٢/١٩١ رقم ١٦٥. ٣ أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (٢/٣٨٣) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٠١)، وفي العرش ٢/١٧٤ رقم١٥١. وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص١٣٧-١٣٨)، وإسناده ضعيف جدا لأن نوح ابن أبي مريم كذاب وضاع.

1 / 20

٥ - قول سفيان الثوري ﵀ (١٦١ هـ) عن معدان، قال سألت سفيان الثوري عن قول الله ﷿ ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ قال: "علمه"١. ٦ - قول الإمام مالك ﵀ (١٧٩ هـ) قال عبد الله بن أحمد حدثني أبي ﵀ قال حدثنا سريج بن النعمان أخبرني عبد الله بن نافع قال: كان مالك بن أنس ﵀ يقول: "من قال القرآن مخلوق يوجع ضربًا ويحبس حتى يموت"، وقال مالك ﵀: "الله ﷿ في السماء، وعلمه في كل مكان" وتلا هذه الآية ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ وعظم عليه الكلام في هذا واستشنعه٢.

١ أخرجه البخاري في خلق أفعال العباد (ص٨) . وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (١/٣٠٦-٣٠٧، ح٥٩٧) . والآجري في الشريعة (٣/١٠٧٨، برقم٦٥٤) . وابن بطة في الإبانة (-تتمة الرد على الجهمية -)، (٣/١٥٤-١٥٥، ح١١١) . واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٣/٤٠١، ح٦٧٢) . والبيهقي في الأسماء والصفات (٢/٣٤١، رقم٩٠٨) . وابن عبد البر في التمهيد (٧/١٣٩) و(٧/١٤٢) . وابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص١١٥-١١٦، برقم٩٤)، و(ص١١٣، برقم٨٩) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٠٣)، وفي الأربعين (ص٦٣-٦٤، برقم٤٦)، وفي سير أعلام النبلاء (٧/٢٧٤)، وفي العرش ٢/١٨٣ رقم ١٥٨. ٢ أخرجه أبو داود في مسائل الإمام أحمد (ص٢٦٣)، ط: دار المعرفة. وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة (١/١٠٦-١٠٧، برقم١١، و١/٢٨٠، برقم٥٣٢) . والآجري في الشريعة (٣/١٠٧٦-١٠٧٧، برقم٦٥٢-٦٥٣) . وابن بطة في الإبانة (-تتمة الرد على الجهمية-)، (٣/١٥٣، ح١١٠) . وابن منده في التوحيد (٣/٣٠٧، برقم٨٩٣) . واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (٣/٤٠١) . وابن عبد البر في التمهيد (٧/١٣٨) . والقاضي عياض في ترتيب المدارك (٢/٤٣) . وأورده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٥/١٨٣)، وفي درء تعارض العقل والنقل (٦/٢٦٢)، وقال: (كل هذه الأسانيد صحيحة) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٠٣)، وفي سير أعلام النبلاء (٨/١٠١)، وأورده في الأربعين في صفات رب العالمين (ص٥٩، برقم٣٩) و(ص٦٣، برقم٤٥)، وفي العرش ٢/١٧٨ رقم ١٥٥. وأورده ابن القيم كما في مختصر الصواعق (٢/٢١٣) وقال: (ذكره الطلمنكي وابن عبد البر وعبد الله بن أحمد وغيرهم) . وصححه الألباني في مختصر العلو (ص١٤٠) .

1 / 21

٧ - قول نعيم بن حماد الخزاعي١ ﵀ (٢٢٨ هـ) قال أحمد بن منصور الرمادي سمعت نعيم بن حماد الخزاعي في قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾: "أنه لا يخفى عليه خافية بعلمه، ألا ترى قوله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ الآية، أراد أنه لا يخفى عليه خافية"٢. ٨ - قول علي بن المديني (٢٣٤ هـ)

١ نعيم بن حماد بن معاوية بن الحارث الخزاعي، أبو عبد الله المروزي، نزيل مصر، صدوق يخطىء كثيرًا، فقيه عارف بالفرائض، من العاشرة، مات سنة (٢٢٨هـ) على الصحيح، أخرج له البخاري مقرونا، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة. التقريب (١٠٠٦) . ٢ أخرجه ابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية)، (٣/١٤٦، برقم١٠٦) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٢٦)، وفي سير أعلام النبلاء (١٠/٦١١)، وفي الأربعين في صفات رب العالمين (ص٦٤، برقم٤٨)، وفي العرش ٢/٢٣٨ رقم ٢٠٨. وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص٢٢١) . وقال الألباني في مختصر العلو (ص١٨٤): (السند صحيح) .

1 / 22

سئل عن قوله تعالى ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ فقال: اقرأ ما قبله ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ ١. ٩ - قول إسحاق بن راهويه (٢٣٨ هـ) قال حرب بن إسماعيل: قلت لإسحاق بن راهويه في قول الله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ كيف تقول فيه؟ قال: "حيث ما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه"٢. ١٠ - قول الإمام أحمد ﵀ (٢٤١ هـ) قال أبو طالب سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: إن الله معنا، وتلا ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ . قال: "قد تجهم هذا، يأخذون بآخر الآية، ويدعون أولها هلا قرأت عليه ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ﴾ فالعلم معهم، وقال في سورة (ق) ﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ فعلمه معهم"٣.

١ أورده الذهبي في العلو، انظر المختصر ص ١٨٨-١٨٩. وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش ص ٢٣٤. ٢ أورده ابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية)، (٣/١٦١، برقم١١٨) . أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (١١/٣٧٠)، وفي العرش ٢/٢٤٥ رقم ٢١٧. وأورده في العلو (ص١٣١) وعزاه للخلال في السنة. وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص٢٢٦) . وقال الألباني في مختصر العلو (١٩١، ح٢٣٣): (قلت: وأخرجه الهروي أيضا في ذم الكلام (٦/١٢٠/١) عن حرب به نحوه) . ٣ رواه ابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية)، (٣/١٥٩-١٦٠، برقم١١٦) . وأورده بنحوه القاضي في إبطال التأويلات (٢/٢٨٩، برقم٢٨٦) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٣٠)، وفي الأربعين (ص٦٤-٦٥، برقم٤٩) . وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (ص٢٠٠-٢٠١) .

1 / 23

قال المروزي: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، إن رجلا قال: أقول كما قال الله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال أبو عبد الله: "هذا كلام الجهمية". قلت: فكيف نقول؟ قال: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ علمه في كل مكان وعلمه معهم" ثم قال: "أول الآية يدل على أنه علمه"١. قال حنبل: قلت لأبي عبد الله ما معنى قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾، و﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾؟. قال: "علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة"٢. قال أحمد بن جعفر الفارسي الإصطخري: قال أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: "هذه مذاهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المتمسكين بعروقها، المعروفين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي ﷺ

١ رواه ابن بطة في الإبانة (تتمة الرد على الجهمية)، (٣/١٦٠-١٦١، برقم١١٧) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٣٠) . وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (٢٠١) . ٢ أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (٣/٤٠٢، برقم٦٧٥) . وأورده ابن قدامة في إثبات صفة العلو (ص١١٦، برقم٩٥) . وأورده الذهبي في العلو (ص١٣٠)، وفي الأربعين في صفات رب العالمين (ص٦٥، برقم ٥٠)، وفي العرش ٢/٢٤٥ رقم ٢١٨، ٢١٩، ٢٢٠وأورده ابن تيمية في مجموع الفتاوى (٥/٤٩٦) . وأورده ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية (٢٠٠) وعزاه للالكائي. وانظر مختصر الصواعق (٢/٢١٣)، وقال ابن القيم: (أراد أحمد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه، وبنفي الحد حد يدركه العباد ويحدونه) . وانظر في مسألة الحد نقض تأسيس الجهمية (٢/١٦٢) .

1 / 24

إلى يومنا هذا وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها، فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق". ثم ساق الإمام أحمد أقوالهم في العقيدة إلى أن قال: "وخلق سبع سموات بعضها فوق بعض، وسبع أراضين بعضها أسفل من بعض، وبين الأرض العليا والسماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة عام، والماء فوق السماء العليا السابعة، وعرش الرحمن ﷿ فوق الماء، والله ﷿ على العرش، والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السموات والأرضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما في قعر البحار، ومنبت كل شعرة وشجرة، وكل زرع وكل نبات، ومسقط كل ورقة، وعددكل كلمة، وعدد الحصى والرمل والتراب، ومثاقيل الجبال، وأعمال العباد وآثارهم وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كل شيء، وهو على العرش فوق السماء السابعة، ودونه حجب من نور ونار وظلمة وما هو أعلم به. فإن احتج مبتدع ومخالف بقول الله ﷿ ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وبقوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وبقوله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ إلى قوله ﴿إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ ونحو هذا من متشابه القرآن فقل: إنما يعني بذلك العلم، لأن الله تعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا ويعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان"١.

١ طبقات الحنابلة ١/٢٤.

1 / 25

١١ - قول عبد الله بن مسلم بن قتيبة١ ﵀ (٢٧٦ هـ) قال الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في كتاب "تأويل مختلف الحديث" له: "نحن نقول في قوله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ إنه معهم يعلم ما هم عليه، كما تقول للرجل وجّهته إلى بلد شاسع، احذر التقصير فإني معك، تريد أنه لا يخفى عليَّ تقصيرك، وكيف يسوغ لأحد أن يقول: إنه سبحانه بكل مكان على الحلول فيه مع قوله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ ومع قوله ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ﴾ كيف يصعد إليه شيء هو معه، وكيف تعرج الملائكة إليه وهي معه، ولولا أن هؤلاء رجعوا إلى فطرهم، وما ركبت عليه خِلَقُهم من معرفة الخالق لعلموا أن الله هو العلي وهو الأعلى، وأن الأيدي ترتفع بالدعاء إليه، والأمم كلها عجميها وعربيها، تقول: إن الله في السماء. ما تركت على فطرها"٢. ١٢ - قول الإمام الدارمي٣ ﵀ (٢٨٠ هـ) قال في كتابه "الرد على الجهمية" باب -استواء الرب ﵎ على العرش، وارتفاعه إلى السماء وبينونته من الخلق:

١ عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، أبو محمد، الإمام الحافظ الأديب، من المصنفين المكثرين، ولد ببغداد سنة (٢١٣هـ)، وتوفي بها سنة (٢٧٦هـ)، من كتبه: المعارف، وأدب الكاتب، وتأويل مختلف الحديث، وغيرها. تاريخ بغداد (١٠/١٧٠)، السير (١٣/٢٩٦) . ٢ انظر كتاب تأويل مختلف الحديث (ص١٨٢-١٨٣) . والعرش للذهبي ٢/٢٧١ رقم ٢٣٦. ٣ عثمان بن سعيد بن خالد، أبو سعيد، التميمي السجستاني، الدارمي نسبة إلى بني دارم، إمام علامة حافظ، مات سنة (٢٨٠هـ) وقد جاوز الثمانين. طبقات الحنابلة (١/٢٢١)، السير (١٣/٣١٩) .

1 / 26

"فاحتج بعضهم فيه بكلمة زندقة استوحش من ذكرها وتستر آخر من زندقة صاحبه فقال: قال تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ قلنا: هذه الآية لنا عليكم لا لكم، إنما يعني أنه حاضر كل نجوى، ومع كل أحد من فوق العرش بعلمه، لأن علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، لا يحجبه شيء عن علمه وبصره، ولا يتوارون منه بشيء، وهو بكماله فوق العرش بائن من خلقه ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾، أقرب إلى أحدهم من فوق العرش من حبل الوريد، قادر على أن يكون له ذلك، لأنه لا يبعد عن شيء ولا يخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، فهو كذلك رابعهم، وخامسهم، وسادسهم، لا أنه معهم بنفسه في الأرض كما ادعيتم، وكذلك فسرته العلماء..".١ ١٣ - قول محمد بن عثمان بن أبي شيبة٢ ﵀ (٢٩٧ هـ) وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، في كتاب "العرش" له: "ذكروا أن الجهمية يقولون: إن ليس بين الله وبين خلقه حجاب، وأنكروا العرش، وأن يكون الله فوقه، وقالوا إنه في كل مكان" وذكر أشياء إلى أن قال: "فسرت العلماء ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ يعني بعلمه، توافرت الأخبار أن الله خلق العرش فاستوى عليه بذاته فهو فوق العرش بذاته، متخلصا من خلقه بائنا منهم"٣.

١ الرد على الجهمية ص ٢٦٨-٢٦٩ (ضمن عقائد السلف) . ٢ أبو جعفر، محمد بن عثمان بن محمد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي، العبسي مولاهم، الكوفي، الحافظ، المسند البارع، محدث الكوفة، جمع وصنف وكان من أوعية العلم، بصيرا بالحديث والرجال، توفي سنة (٢٩٧هـ) . تاريخ بغداد (٣/٤٢-٤٧)، سير أعلام النبلاء (١٤/٢١) . ٣ انظر العرش لابن أبي شيبة. ص (٢٧٦-٢٩٢) وأورده الذهبي في العرش ٢/٢٦٤ رقم ٢٣٣.

1 / 27

١٤ - قول محمد بن جرير الطبري ﵀ (٣١٠ هـ) قال في تفسير قوله تعالى ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾: "يقول: هو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم، يعلمكم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سبع سمواته"١. وقال في تفسير قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ...﴾ الآية: "وعنى بقوله ﴿هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ بمعنى مشاهدهم بعلمه وهو على عرشه"٢. ١٥ - قول أبي الحسن الأشعري٣ ﵀ (٣٢٤ هـ) قال في "رسالة إلى أهل الثغر" " ... وأنه يعلم السر وأخفى من السر، ولا يغيب عنه شيء في السموات والأرض حتى كأنه حاضر مع كل شيء، وقد دل الله ﷿ على ذلك في قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وفسَّر ذلك أهل العلم بالتأويل أن علمه محيط بهم حيث كانوا"٤. ١٦ - قول أبي بكر الآجري٥ ﵀ (٣٦٠ هـ)

١ انظر: تفسير الطبري ٢٧/٢١٦ ٢ انظر: تفسير الطبري ٢٨/١٢. ٣ أبو الحسن، علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري، كان في أول أمره معتزليًا، ثم تاب من الإعتزال، وأخذ بقول الكلابية، ثم رجع إلى معتقد أهل السنة في مجمل المسائل، توفي سنة (٣٢٤هـ) . انظر تاريخ بغداد (١١/٣٤٦)، سير أعلام النبلاء (١٥/٨٥) . ٤ انظر رسالة إلى أهل الثغر ص ٢٣٤ ٥ محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر الآجري، فقيه، شافعي، محدث، بغدادي، توفي سنة (٣٠٦هـ) وله تصانيف كثيرة منها: أخلاق حملة القرآن، وأخلاق العلماء، وكتاب الشريعة، وغيرها. تاريخ بغداد (٢/٢٤٣)، السير (١٦/١٣٣) .

1 / 28

قال الإمام أبو بكر الآجري الحافظ، في كتاب "الشريعة" له: - باب في التحذير من مذهب الحلولية -: "الذي يذهب إليه أهل العلم، أن الله ﷿ على عرشه، فوق سمواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه بجميع ما خلق في السموات العلى، وبجميع ما في سبع أراضين، يرفع إليه أعمال العباد. فإن قال قائل: إيش يكون معنى قوله ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ الآية التي احتجوا بها؟. قيل له: علمه، والله ﷿ على عرشه، وعلمه محيط بهم، كذا فسره أهل العلم، والآية يدل أولها وآخرها على أنه العلم، وهو على عرشه، فهذا قول المسلمين"١. ١٧ - قول ابن بطة العكبري٢ ﵀ (٣٨٧ هـ) قال الإمام الزاهد أبو عبد الله بن بطة العكبري، في كتاب "الإبانة": - باب الإيمان بأن الله على عرشه، بائن من خلقه، وعلمه محيط بخلقه - أجمع المسلمون من الصحابة والتابعين، أن الله على عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه٣.

١ انظر الشريعة للآجري (٣/١٠٧٥-١٠٧٦) وانظر مختصر الصواعق (٢/٢١٤) . وأورده الذهبي في العرش ٢/٣٠٩ رقم ٢٥٢. ٢ عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري أبو عبد الله، ابن بطة الحنبلي مصنف كتاب الإبانة المشهور، إمام قدوة عابد، فقيه محدث، مات سنة (٣٨٧هـ) وله أربع وثمانون سنة. طبقات الحنابلة (٢/١١٤)، السير (١٦/٥٢٩) . ٣ انظر الإبانة (تتمة الرد على الجهمية)، (٣/١٣٦)، وانظر مختصر الصواعق (٢/٢١٤) .

1 / 29