وما أسفت لشيء أسفي لانحصار الأفكار الإسلامية في «معرفة معنى النبوة والنبي ومعنى الوحي ومعنى الشيطان ومعنى لفظ الملائكة والشياطين وكيفية معاداة الشياطين للإنسان، وكيفية ظهور الملك للأنبياء، وكيفية وصول الوحي إليهم، والمعرفة بملكوت السموات والأرض، ومعرفة القلب وكيفية تصادم الملائكة والشياطين ومعرفة الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، ومعرفة الآخرة والجنة والنار وعذاب القبر والصراط والميزان والحساب، ومعنى لقاء الله والنظر إلى وجهه، ومعنى القرب منه والنزول في جواره، ومعنى حصول السعادة بمرافقة الملأ الأعلى، ومعنى تفاوت درجات أهل الجنان حتى يرى بعضهم البعض كما يرى الكوكب الدري في جوف السماء».
فإن هذه في الأصل أكثرها رموز ظنها المسلمون حقائق، فوضعوا لها ضروبا من التفسير والتأويل.
والذي يطالع الكتب القديمة يرى جمهور الفقهاء أعلم بخريطة الآخرة منهم بخريطة الدنيا: فهم يعرفون من أنهار الجنة ما لا يعرفون من أنهار هذا العالم، ويعلمون من أبواب جهنم ما لا يعلمون من أسباب انحطاط الأمم وضعف الشعوب، ويدركون من نعيم الآخرة ما لا يدركون من معنى الملك والقوة في هذا الوجود، وفي مقدور المرء أن يجد مئات الكتب في وصف الحشر والنشر، ولا يجد كتابا واحدا في تحديد المراد من الخلافة الإسلامية، التي قامت بسببها آلاف الفتن، ومئات الحروب.
والغزالي من الذين ساعدوا على بقاء هذه العماية، فقد وضع الكتب المطولة في كيفية العزلة، ولما أراد أن ينقد الشؤون الاجتماعية وضع كتابه «التبر المسبوك في نصيحة الملوك»، فكان آية في السخف والاضطراب.
وإلى من نقاضي هؤلاء العلماء؟
نقاضيهم إلى القرآن: ففيه الدعوة إلى الملك، وإلى أن تكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وهل الأخلاق شيء آخر غير حرب الذلة والقلة: في الأفراد، والجماعات، والشعوب؟
نقول هذا ونطالب كل مسلم بالحذر البالغ عند مطالعة كتب المتقدمين، فإن أكثرهم لم يعرف السياسة، ولا شؤون الاجتماع، وإلا فأين غرر المؤلفات في الأمور السياسية والاجتماعية؟ وأين البصر النافذ إلى أعماق الحياة الدولية؟ بل وأين الخبرة بالسريرة الإنسانية، التي حسبوها لا تعدو طلاب الجنة من الزهاد، والعباد، من كل راض بالفقر، قانع بالسؤال؟
الفصل الثاني
الفنون
أباح الغزالي أن يحب المرء لجماله، فكان ذلك منه اعترافا بالحاسة الفنية، التي يدرك بها الأديب، والفنان، والفيلسوف، ما في العالم من دقائق الجمال.
Bog aan la aqoon