والأولى:
كالأسباب التي ارتبطت لها المسببات بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف، كمن يرى الطعام موضوعا بين يديه وهو جائع. ثم لا يمد إليه يده، لأنه يرى السعي إلى تناوله ومضغه تفويتا للتوكل، وهذا فيما يرى الغزالي جنون «إنك إن انتظرت أن يخلق الله فيك شبعا دون الخبز، أو يخلق في الخبز حركة إليك، أو يسخر ملكا ليمضغه لك ويوصله إلى معدتك، فقد جهلت سنة الله. وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتا من غير بذر، أو تلد زوجتك من غير وقاع، فكل ذلك جنون».
والتوكل في هذا المقام - كما نص الغزالي - لا يكون بالعمل، بل بالعلم، ومعنى ذلك أنه لا يجوز لك ترك الأسباب، وإنما تعلم أن الله هو مسبب الأسباب.
والثانية:
الأسباب التي ليست متيقنة، ولكن الغالب أن المسببات لا تحصل دونها، وكان احتمال حصولها دونها بعيدا، كمن يترك الأمصار والقوافل، ويسافر في البوادي التي يندر أن يطرقها الناس، ويكون سفره من غير زاد، فهو ليس شرطا في التوكل، بل استصحاب الزاد سنة الأولين، ولا يزول التوكل به.
وقد أسرف الغزالي حين تحدث عن هذا الموقف في المنهاج، وانظر ماذا يقول: «فإن قلت: فهل تدخل البادية بلا زاد؟ فأقول: إن كان لك قوة قلب بالله تعالى واثقة بالغة بوعد الله سبحانه وتعالى، فادخل، وإلا كن كالعوام بعلائقهم.» ص82.
ولو أننا رجعنا إلى ما وضعه من آداب المسافر لعلمنا أنه احتاط هناك، فحث المسافر على أن يأخذ حاجته من الزاد، ثم أوصاه بأن يأخذ حاجته من الزاد، ثم أوصاه بأن يأخذ قدرا يوسع به على رفقائه، فكيف يصبح المسافر بزاده في البادية من العوام؟ ومن عسى أن يكون هؤلاء العوام المؤدبون؟
وقد توقع الغزالي أن يسأل عن حمل رسول الله وأصحابه للزاد، ولكنه تفضل فأجاب بأن ذلك مباح غير حرام! ثم توقع أن يسأل: هل ترك الزاد أولى أم أخذه لمن قوي يقينه؟ وأجاب في المنهاج بأن الترك أفضل، وأنا لا أعلم لهذا الفضل أساسا غير التنسك الذي ينكره العقل، ويأباه الدين!
ولم يفت الغزالي أن يذكر أن هذه المجازفة قد تكون إلقاء بالأيدي إلى التهلكة، فأجاب بأن شرطها أولا رياضة النفس حتى تحتمل الجوع أسبوعا أو ما يقاربه، وثانيا أن يكون المتوكل بحيث يقوى على التقوت بالحشيش، وما يتفق من الأشياء الخسيسة، إذ لا يخلو الأمر من أن يجد آدميا في بحر الأسبوع أو ينتهي إلى محلة، أو قرية، أو إلى حشيش يجتزئ به!
وأحب أن يذكر القارئ هذه الصورة الغريبة، فإن الغزالي يدعو إليها جمهور المسلمين!
Bog aan la aqoon