علامات حسن الخلق
يتحاكم الغزالي في هذا الباب إلى القرآن، إذ إن الله تعالى ذكر في كتابه صفات المؤمنين والمنافقين، وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق، وسوء الخلق. وبعد أن سرد جملة الآيات قال: «فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات، فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض، فليشتغل بتحصيل ما فقده، وحفظ ما وجده.» ص74 ج3.
والظاهر أنه لا يكفي دائما أن يتحاكم المرء إلى القرآن، فقد تكون هناك خلة واحدة تحتاج إلى تحرير، إذ لا يدري المرء أهو مخطئ في التخلق بها أم مصيب. وقد تنبه الغزالي إلى هذه النقطة في غير هذا الباب، وهو يرى أن المطلوب في علاج البخل مثلا هو «الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية البعد عن الطرفين.» ويقول: «فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحظور، فإن كان أسهل عليه وألذ من الذي يضاده، فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه، فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل، فزد في المواظبة على البذل. فإن صار البذل على غير مستحق ألذ عندك وأخف عليك من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير، فارجع إلى المواظبة على الإمساك. فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك من الالتفات إلى المال، فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء، فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج، أو بذله لحاجة محتاج. ولا يترجح عندك البذل على الإمساك».
1
وفي هذا مغالبة للطبيعة البشرية، وما أحسب خلق الكرم يتطلب أن يتساوى البذل والإمساك، وإنما يحاول الغزالي أن يجعل الفضائل حركات فطرية للنفوس، وهو أمل بعيد.
الفصل الثالث
الطريق إلى تهذيب الأخلاق
يتخذ الغزالي البدن مثالا للنفس: فكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون لحفظ الصحة، وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه، فكذلك النفس: إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها. واكتساب زيادة صفائها. وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن، الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها؛ فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب، علاجها بضدها؛ فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخي، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفا. وكما أنه لا بد من احتمال مرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة، فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب، بل أولى، لأن مرض البدن يخلص المرء منه بالموت بخلاف مرض القلب فإنه يدوم بعد الموت أبد الآباد (؟) وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص، ويختلف ذلك بالشدة والغضب، والدوام وعدمه، وبالكثرة وبالقلة، ولا بد من معيار يعرف به مقدار النافع منه، فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد، فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها، أهي ضعيفة أم قوية، فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن، وأحوال الزمان، وصناعة المريض، وسنه، وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها، فكذلك الذي يطيب نفوس المريدين ينبغي أن لا يهجم عليه بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وطريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، فكذلك المرشد لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد، وفي حاله، وسنه، ومزاجه، وما تحتمله نفسه من الرياضة، ويبني على ذلك رياضته.
وهذه الطريقة تدل على بصر الغزالي بعلاج الأخلاق، وتدل من جانب آخر على تقدم الطب في ذاك الزمان.
1
Bog aan la aqoon