نادتني أمي من على السطوح وطلبت مني أن أحضر لأكل لقمة قبل سفري.
قلت لها إنني مشغول وليس لي نفس. ألحت وكادت بحة صوتها أن تنقلب إلى البكاء فجريت والتقطت كوب الشاي بالحليب مع ملعقتين من العسل وقطعة من القرص التي كانت منهمكة منذ الفجر في إعدادها مع الكماج والفطير المشلتت الذي كنت قد أوصيتها عليه قبل ذلك أكثر من مرة حبا وكرامة لأصدقائي وزملائي، لم أكن في حال تسمح لي بأن أنتبه للعناء الذي بذلته، من قبل أن أصحو أنا من النوم بساعات، في طلوع السلم إلى السطوح لاختيار بطة ودجاجة آخذهما معي مع الجبن والزبد والخبز الصابح والفطائر المتنوعة بجانب كم لا بأس به من كعك العيد الذي كانت قد ادخرته خصيصى لي. ذبحت ونظفت وحمرت، عجنت وخبزت وستفت كل شيء في العلب والأكياس، تصبب العرق على جبينها وسالت الدموع الكثيرة من عينيها وهي تنفخ في نار الفرن والكانون وتعالج وابور الغاز وتستحثه على التقاط الأنفاس، ولا بد أنها قد تحملت الألم الذي لا يطاق وأرهقت القلب المرهق الذي أعلن عن احتجاجه قبل ذلك بشهور عندما لاحظت ولاحظ الجميع تورم قدميها وساقيها وضرورة الابتعاد عن الإجهاد والتزام الراحة بقدر الإمكان، لكن من أين تأتي الراحة في هذا البيت وهذا العالم وهي وحدها ولا يسعفها أو يساعدها أحد سوى شغالة صغيرة وجارة عجوز قد تود عليها من حين إلى حين لتساعدها في الخبيز أو الغسيل وإن تكن على الدوام غير مضمونة وليس لها عهد ولا أمان، لم أفطن لشيء من هذا كله لأنني كنت مشغولا عنها وعن كل شيء بأفكاري المتسلطة علي والمحاصرة لي حصارا أشد من ذلك الذي كان يضرب في العصور الوسيطة حول المدن التي يجتاحها الطاعون.
5
واقتربت لحظة الفراق والرحيل. أتممت إعداد حقيبتي ووضعت فيها الملابس والكتب والأوراق الضرورية. ألقيت على حجرتي الصغيرة نظرة وداع وحملت الحقيبة - وبستان لا يزال يتعثر بين رجلي ولا يكف عن التساؤل والأنين - ووقفت قليلا على بسطة السلم الخشبي المواجه للسطح المسلح وأنا أنادي: أماه، أنا ماشي. سمعت صوتي وخرجت مزرودة الوجه منتفخة الوجنات من الحر والصهد وهي تقول ضاحكة مستنكرة: ماشي؟ والسبت الذي أحضره، للعفاريت أستغفر الله العظيم؟ قلت متعجبا: سبت؟ أنا لم أطلب شيئا يا أمي، هل تصورت أن مصر فيها مجاعة؟ قالت وهي تقترب والشغالة الصغيرة تسحب السبت على الأرض بعد أن تعذر عليها حمله: مجاعة إيه لا سمح الله؟ ربنا يعمر مصر دائما بأهلها، لكن أنت يا بني وحيد ووحداني، من يا ترى يغسل لك هدومك وينظف مطرحك ويسوي لقمتك؟ قلت مقهقها: لا تخافي على ابنك، أنا آكل وأشرب والمرتب كاف والحمد لله، سيدة بنت أختك ترسل لي شغالتها مرتين في الأسبوع، تنظف وتغسل وتطبخ وتضع الأكل في الثلاجة، المهم لا تقلقي أنت يا أمي. قالت بعد أن ثبتت نظرتها الصامتة الحزينة على وجهي: يا ترى يا بني، هل سأعيش حتى أشيل ابنك أو بنتك على صدري؟ أغرقت في الضحك وأنا أقترب منها وأربت على صدرها: وتشيلي أولادهم أيضا، لكن بعد أن أحقق نفسي وأنجح في الدكتوراه. صمتت قليلا كأنها تحاول أن تفهم وسألت: وتصبح مثل الحكما؟ ألم تتخرج من الجامعة وتأخذ الشهادة الكبيرة؟ والدكتوراه لإيه يا بني؟ قلت وأنا أربت على ظهرها: دكتوراه في الآداب يا أمي؛ يعني دكتور في الجامعة لا في الطب، أنا وزملائي نعمل ليل مع نهار يا أمي، جيلنا والأجيال بعدنا لن تستريح حتى تتحقق الثورة الشاملة. فغرت فاها مندهشة وعقدت غضون وجهها وجبينها كأنما تتذكر شيئا تعرفه أو سمعت عنه: ثورة إيه يا بني؟ والثورة التي حصلت من سنتين ثلاثة ... قلت مؤكدا كأنني أخطب في جمع غفير: ثورة العسكر منعت الثورة الحقيقية، الثورة الإنسانية الشاملة التي تبدأ من الجذور وتغير كل شيء، جيلنا والأجيال التي بعدنا لا بد أن نحقق هذه الثورة التي تخلصنا من الفقر والتخلف والمرض والتعاسة. قالت بعد أن هزت رأسها وتلفتت حولها في حيرة: ربنا يقدم ما فيه الخير يا بني ويصلح الأحوال ويوقف لك ولأصحابك أولاد الحلال يا قادر يا كريم، يالله يا بنتي ننزل السبت على تحت.
تقدمت من السبت الجاثم كالوحش الثقيل على الأرض، قلبت فيه قليلا وأنا أقول محتجا: كل هذا للجائع المحروم؟ ماذا فيه بالضبط؟ وكيف أحمله وأوصله إلى البيت؟ قالت وهي ترفع السبت وأساعدها على وضعه على رأس سنية الصغيرة: لقمة تقوتك يا بني يومين أو ثلاثة؛ فرخة وبطة وقرص وفطير لك ولأصحابك، توكل على الله يا بني وأي عربة أجرة توصلك للبيت بالسلامة.
نزلت وراء الشغالة وأنا أنفخ من الغيظ. حقيبتي في يدي والوحش الذي لا أستطيع أن أنقله بيد واحدة على دماغ الصغيرة، وبينما نحن ننزل درجات السلم إذا بدق شديد على الباب. فتحت وإذا بجارنا عطية الحلاق يهتف مستنكرا : العربة تنتظرك من مدة والناس ركبها القلق، اترك لي السبت وسأضعه في الدواسة وفي مصر يوصلك التاكسي إلى البيت، يالله يا دكتور توكل على الله.
ضربت لخمة شديدة ووجدتني في ربكة وحيرة بين السبت والحقيبة والشغالة والحلاق، وكنت أنت قد سرت حتى الباب المفتوح على الشارع ووقفت وراء ضلفته المغلقة حتى لا تراك العيون في الطريق.
وتحركت خلف الصغيرة والحلاق وأنا أهتف: على مهلكم، أشوفك بعافية يا أمه، ثم وأنا أنزل سلالم العتبة الثلاث وبغير أن ألتفت ورائي أو أنتبه إلى ذراعيك المفتوحتين: مع السلامة، مع السلامة يا أمه.
6
وكنت أنت يا حبيبتي متوارية عن الأنظار وراء الباب الموارب. آه! كيف غاب عني أن أجري نحوك وأضمك وتضمينني بين ذراعيك وأقبلك القبلة التي لم أكن أعرف أو أشعر بأنها ستكون هي القبلة الأخيرة؟
Bog aan la aqoon