استقرت الكمان على صدر المريض كما نامت القوس في قبضة يده اليمنى. حاولت أمينة أن تقرب اليد القابضة على القوس من الكمان، كانت تعلم سلفا أنها محاولة يائسة سبق أن بذلتها عشرات المرات دون فائدة، لكن لهاث راضي والآه التي تخرج منه ملهوفة محمومة جعلتها تكرر المحاولة، ولما تيقنت من تصلب اليد والذراع واستحالة تحقيق الحلم البعيد المتكرر، داعبت المشلول ضاحكة: انتظر عليها قليلا، هي من نفسها ستتقرب منك وتثبت حبها ووفاءها لك وتعزف لك في الحلم ما عجزت عنه في الواقع. ولما ترددت في أذنيها الآهة المنكسرة من جديد وضعت الصينية على يدها وقربت شفتها من جبهته وطبعت عليها قبلة طويلة وهي تقول قبل أن تنصرف وتغلق الباب وراءها: استرح قليلا، ليس عليك إلا أن تستريح، وسوف يخرج اللحن الذي تريده من تلقاء نفسه، المهم أن تهدأ وتستريح. تلاحقت الآهات من فم العاجز حتى تصورت أنه يغالب البكاء، وعندما فتحت الباب ونظرت إليه قبل أن تغلقه وراءها لم تلاحظ الدموع التي بدأت تنساب على خديه، ولا اللهاث الشديد الذي انتابه فجأة بحيث جعل صدره يرتفع وينخفض بسرعة مجنونة. •••
بعد أن فرغت من إعداد طعام الغداء - شوربة الخضار المسلوق مع نصف رغيف وطبق أرز صغير وكوب عصير البرتقال - طرقت الباب طرقات خافتة حتى لا تزعجه من نوم القيلولة. خيل إليها وهي واقفة على الباب أنها تسمع موسيقى شجية تنبعث من الحجرة، موسيقى ترفرف كسرب طيور عائدة من الغربة ومعه الحنين والفرح والشوق والأسى والحيرة والذهول، تذكرت أمينة أنها لم تدر جهاز المسجل بأي شريط وقالت لنفسها: ربما تكون آتية من عند الجيران. وعندما دخلت بالصينية على المشلول وجدته مغمض العينين غارقا في النوم والصمت. نادت فلم يرد، هللت وصاحت فلم يستجب، اقتربت منه وهزت يده وتحسست خديه ورأسه فلم تشعر بأثر للحياة في الجثة الحية للزوج المسكين، وعندما رفعت اليد القابضة على القوس إلى أعلى وتركتها تسقط هامدة كالحجر، صرخت مفزوعة من يقين النهاية. حركته فلم تصدر عنه حركة، هزت رأسه ووجهه فلم تند عنه نأمة، نادت باسمه وكررت النداء فلم يرد صوت ولم تنفتح عين ولم يتحرك يد ولا إصبع. صرخت مفجوعة حتى لمت عليها الجيران، والغريب أن صوت صياحها وصراخها ونواحها هي والجارات والجيران لم يستطع أن يطغى على اللحن الشجي الذي ظل ينساب كالجدول الحزين.
أحزان عازف الكمان (2)
أطل رأسه الأصلع ووجهه الأبيض المستدير كهلال الفجر من فوق أمواج الزحام والضوضاء والصياح بأسماء المشروبات وطرقات قطع النرد على الألواح أمام زبائن لا تكف عن الثرثرة والزعيق والسباب، قال لنفسه وهو يرى صديق صباه يشق بجسده الأبيض المترف تلك الدوائر الجهنمية: كيف تهنا كل هذا الزمن عن بعضنا؟ ألا يظهر اليوم بعد هذا العمر في حياتي كالمنقذ للغريق المستغيث، أو كالشراع الأبيض الرحيم لمركب أو قارب جانح يتمايل للسقوط إلى الأعماق؟ وأي صدفة عجيبة هذه التي جمعتنا أمس مساء على غير انتظار، وفتحت أمامي بابا للأمل ظننت أنه قد سد إلى أبد الآبدين؟ نعم يا صاحبي! من كان يصدق؟! من كان يصدق؟!
أخذه بالأحضان وقبل خديه قبل أن يدعوه للجلوس، تنهد الصديق وقال: من كان يتصور أن الانفجار السكاني سيطول قهوتنا القديمة أيضا؟ خبط على يده مرتين ونظر في الوجه الصبوح قبل أن يقول: الانفجار السكاني وحده؟ والوقاحة يا صديقي. قلة القيمة وطول اللسان وضياع الضمير وموت ...
ضحك الصديق قائلا: جئت لأقابل عازف الكمان القديم فإذا بي أمام فيلسوف، ما الذي غيرك إلى هذا الحد؟
تنهد ورفع صوته ليخترق الزحام والضجيج إلى أذن صديقه: ليتني تغيرت حقا، أنت الذي تغيرت
هتف الصديق بصوت جعل جيرانهما على المائدة القريبة يلتفتون مندهشين: وأنا أؤكد أنك تغيرت جدا يا عزيزي جورج سامي غطاس.
ضحكا معا عندما اكتشفا أنهما يناديان بعضهما بالاسم الكامل في ملفات السجلات المدنية، وأنهما فعلا ذلك مساء الأمس عندما وجدا نفسيهما متواجهين للمرة الأولى بعد سنوات طويلة ربما لا تقل عن الثلاثين، كان جورج يتمشى مع شقيقته الكبرى في شوارع الصاغة وحواريها الضيقة التي ترتفع وتهبط فجأة بمن يسير عليها، وكانت اللافتة الملونة وعليها الاسم قد لمست شيئا خفيا في ذاكرته حاول أن يجذبه إلى دائرة الوعي فلم يستطع، ولكنه لم يتردد عن دخول المحل وهو يمني النفس بأن تجد شقيقته بغيتها من الحلي الذهبية أو على الأقل تتفرج على ما تريده ريثما ترجع مرة أخرى ومعها ابنتها العروس، دخل المحل بخطى مترددة وقلب ازداد وجلا عندما وقع بصره على الوجه القديم المألوف، وقفز الاسم فجأة من مخبئه في بئر الذاكرة المظلم وانطلق كالقذيفة وهو يفتح ذراعيه: بشارة حنا الأسيوطي! رمقه هذا بنظرة حائرة وعقد جبينه ورمش بعينيه لحظة قبل أن يقوم منتورا من على مكتبه ويفتح ذراعيه للصديق القديم وهو يصيح: جورج سامي غطاس؟ هل هذا معقول؟ مدرسة المبتديان الثانوية والأستاذ يني بطرس مدرس الموسيقى والكمان اللقطة من شارع محمد علي و... بالحضن يا رجل بالحضن!
بعد أن شبعا من الأحضان والقبلات والسؤال عن الأحوال والمشاغل التي حجبتهما عن بعضهما أشار بشارة إلى الضيف الجالس إلى مكتبه وقال يعرفه به: الباشمهندس عزمي إبراهيم، جارك القديم.
Bog aan la aqoon