ولم يتغير من سيرة شهرزاد شيء؛ فقد كانت كعهد الملك بها غامضة دائما حرة اللفظ واللحظ، ولكنها كانت تشيع من حولها شيئا غريبا لا يعرف كنهه، ولكنه كان يبعث الأمن والأمل والاطمئنان.
3
فلما كانت الليلة العاشرة بعد الألف أنفق الملك شطرا من الليل بين وزرائه وندمائه، يخوض معهم في ألوان من الحديث، ويجاذبهم أطرافا من اللهو، ثم صرفهم حين تقدم الليل كعادته، وخلا إلى الملكة بعد ذلك فقضى معها شطرا آخر من الليل، ذاق فيه من النعيم ما شاء حبه لشهرزاد وما شاءت قدرة شهرزاد على فتنة المحبين وإمتاعهم بنعماء الحب وبأسائه جميعا.
ثم افترق العاشقان بعد أن كاد الليل يبلغ ثلثيه، وثاب الملك إلى غرفته، ولكنه لم يأو إلى سريره، وإنما لبث ساعة يتردد أينكر ما كان في الليلة البارحة ويقبل على النوم كأن لم يكن شيء وكأن لم ير شيئا، أم ينتظر حتى إذا استيقن أن شهرزاد قد اشتمل عليها الرقاد سعى إلى غرفتها واتخذ من سريرها مجلسه ذاك، لعله يسمع منها تتمة ذلك الحديث، وكان إلى تتمة ذلك الحديث مشوقا أشد الشوق، وكان في الوقت نفسه عظيم الشك في أن تستقيم له الأمور من ليلته هذه كما استقامت له من ليلته تلك.
وإنه لفي هذا التردد لا يدري أيقدم أم يحجم، وإذا النوم يأخذه في مجلسه وقتا لا يدري أكان طويلا أم قصيرا، ولكنه يسمع في آخره طائفه ذاك يقول بصوته الهادئ المطمئن: «لن يهلك الإنسان إلا إسرافه على نفسه بالشك والارتياب. إن كنت في حاجة إلى أن تسمع حديث شهرزاد، فأسرع إلى مجلسك من سريرها، فقد آن لها أن تأخذ في الحديث، وما أراك تحب أن تقص بقية خبرها على غرفتها تلك وما فيها من الأثاث.»
هنالك أفاق شهريار مرتاعا مذعورا، ولكنه لم يفكر في شيء ولم يسأل نفسه ولا حرسه عن شيء، وإنما انسل مسرعا حتى دخل غرفة الملكة واطمأن في مجلسه غير بعيد من تلك النائمة الهائمة التي لم يصدر عنها ما يدل على أنها قد أحست مقدمه، ولم يمض غير قليل من الوقت حتى انتهت إلى سمعه تلك النغمات الحلوة الرشيقة الأنيقة تحمل إليه صوت شهرزاد وهي تقول: «بلغني أيها الملك السعيد أن الملك طهمان بن زهمان قال لابنته فاتنة وهو يحاورها: إنني قد علمت الآن ما يملأ نفسي قلقا وخوفا على قلة ما يعتادني القلق ويبلغني الخوف.»
قالت فاتنة وقد ترددت في عينيها دموع حائرة تدفعها الرحمة لأبيها ويمسكها الإشفاق عليه، أن يزداد حزنا إلى حزن واكتئابا إلى اكتئاب: «ويحي عليك يا أبت! ما عرفتك قبل اليوم حافلا بالقلق أو معنيا بالخوف، وما أرى إلا أنك تفكر في ابنتك فتكثر التفكير، ويسوءك أنك حين تفارق هذه الحياة لن تترك لها أخا ولا نصيرا، ولكني أحب أن تطيب نفسا وتقر عينا؛ فإن ابنتك قد تعلمت منك كيف تواجه الحياة وتثبت لخطوبها وتنفذ من مشكلاتها، وإني منبئتك الآن بما يثير في نفسك القلق ويبعث في قلبك الخوف.» قال أبوها: «وما أنت وذاك يا ابنتي! ومن أين لك العلم بما لم ترتفع به الأنباء إلا إلي! ولم ترتفع به الأنباء إلي إلا الساعة قبل أن ألقاك بلحظات!» قالت فاتنة: «فاسمع مني قبل كل شيء، فإن يكن ما أنبئك به صحيحا كان ذلك خليقا أن يرد الراحة إلى نفسك والأمن إلى قلبك، وإن يكن ذلك غير صحيح رددتني إلى الصواب ووجهتني من أمري حيث تحب، فلن أعصي لك أمرا، ولن أرد عليك قولا.» قال الملك: «فهات ما عندك يا ابنتي.»
قالت فاتنة: «لقد ارتفعت إليك الأنباء الساعة بأن هؤلاء الخاطبين الخائبين من ملوك الجن في البر والبحر والجو، قد ساءتهم الخيبة وأسخطهم ردي لهم وإعراضي عنهم، ووقع في نفوسهم أني أزدريهم ولا أقدر مراتبهم حق قدرها، فاستحال حبهم لي بغضا وتنافسهم في تظاهرا علي، وقد سعى بينهم السفراء، ثم كان بينهم الاتفاق، فأجمعوا رأيهم على أن ينتظروا بك ما بقي من عمرك، وهم يرونه قصيرا وأراه طويلا، وقد أزمعوا إذا تركت هذه الحياة أن ينصبوا لي الحرب مؤتلفين لا مختلفين، ومتظاهرين لا متدابرين، وألا يكفوا عن هذه الحرب حتى يدمروا ملكي تدميرا، وأيهم ظفر بي فأنا أسيرته، يمسكني في قصره كما تمسك الإماء؛ لا يكرمني بالزواج ولا يؤثرني بالحب، وإنما يصب علي من العذاب ألوانا ويسومني من الضيم فنونا، وقد تقاسموا على ذلك بأغلظ الأيمان وأشدها إحراجا، وكتبوا بذلك وثيقة أودعوها مكانا أمينا حصينا، هناك في قاع البحر المحيط وراء أعمدة هرقل، وإني لأنظر إلى صحيفتهم هذه كما أنظر إلى وجهك الآن، وإني لأقرأ ما كتب فيها كما أتبين ملامح وجهك، وإني لقادرة - إن شئت - على أن آتيك بها قبل أن تقوم من مقامك، ولكن على أن تأخذها بيدك وتقرأها، ثم تعيدها إلي لأردها إلى مكانها؛ فقد سبق القضاء بأحداث لا بد أن تقع، وجرى القدر بأمور لا بد من أن تكون.»
قال الملك وقد اضطرب اضطرابا شديدا، وظهرت على وجهه أمارات الرضا والدهش جميعا: «قد كنت أعلم يا ابنتي أن لك كما لأترابك من بنات الجن علما بالسحر ونفاذا فيه وتصرفا في دقائقه، وكنت أعلم أنك قد تفوقت عليهن في ذلك تفوقا ظاهرا كما تفوقت عليهن في كل شيء، ولكني لم أكن أقدر أنك قد بلغت من ذلك هذا المبلغ الذي أراه! فمن أين لك يا ابنتي هذا العلم؟ وكيف انتهيت من السحر إلى هذه المنزلة التي لم يبلغها قط أحد من فتياننا ولا من فتياتنا؟» قالت: «ذلك خليق أن يرد نفسك إلى الراحة وقلبك إلى الاطمئنان، فلا تحسب لما دبر هؤلاء الملوك حسابا، ولا تخش علي منهم غائلة.» قال الملك: «هو ذاك يا ابنتي، ولكني أريد أن أعرف كيف انتهيت إلى هذه المنزلة من العلم بالسحر والنفوذ إلى أسرار الكون؟» قالت فاتنة: «إنما انتهيت إلى هذه المنزلة لأني صرفت عن هذه الحياة الباطلة التي يحياها بنات الملوك في ظل آبائهن ناعمات بالعيش الرخي، طامعات فيما تتكشف لهن عنه الأيام، مفكرات فيمن يسعى إليهن محبا أو متملقا أو خاطبا. صرفت عن هذا كله وعن أشباهه إلى النظر في حكمة الأولين والمحدثين، وإلى كثير من التجربة والاختبار، ما أعرف أن أحدا عني بمثلها، ولكن أتريد أن تنظر في صحيفة هؤلاء الملوك؟» قال الملك: «وإنك لقادرة على أن تأتي بها؟» قالت فاتنة: «قبل أن يرتد إليك طرفك.» ثم مدت يدها في الهواء وردتها فإذا فيها علبة صغيرة مربعة من معدن تحمل أختاما كثيرة، فوضعتها بين يدي الملك، ثم أشارت إليها فإذا هي تفتح دون أن تمس أختامها بفساد ما، ثم تخرج منها قطعة رقيقة من رصاص فتدفعها إلى الملك، وينظر فيها ثم يردها إليها وقد بلغ منه الدهش مبلغه وانتهى السرور به إلى أقصاه، وهو يقول لابنته: «لا بأس عليك من هؤلاء الملوك مهما يدبروا ويقدروا، فما أرى إلا أنك ستردين كيدهم في نحورهم وستلقينهم بشر مما يلقونك به.»
قالت وقد ردت الصحيفة إلى مكانها من العلبة، وأشارت إليها فعادت كهيئتها حين جاءت بها، ثم أخذتها ومدت يدها بها في الفضاء ثم ردت يدها فارغة كأن لم تمسك شيئا قالت: «ولأرينك من أمرهم ما تحب وما يكرهون.» قال الملك: «وما ذاك يا ابنتي؟» قالت: «إنهم يأتمرون بهذا الملك ليدمروه، وبصاحبته ليستذلوها، وهم من أجل ذلك يهيئون للحرب ويجهزون لها جهازا لم يجهزه أحد من قبل؛ فإن الحرب لا يقتلها إلا الحرب، وإن الكيد لا يفسده إلا الكيد، وإن الحديد لا يفله إلا الحديد كما يقول هؤلاء الجيل من الناس الذين يعيشون حولنا فيما يقولون من حماقاتهم.» قال الملك: «وإنك إذا لتريدين أن تسبقيهم إلى الحرب، وما أنت وذاك وهم متفوقون في أقطار الأرض والبحر والجو، ولا قبل لك بغزوهم جميعا في مستقرهم؟» قالت: «لن أغزو أحدا في مستقره، ولكني سأغزوهم حول هذه المدينة. سأثيرهم إلى الحرب، حتى إذا ثاروا إليها واندفعوا فيها وألقوا بكل ما أعدوا من عدة وما حشدوا من جند، رأيت كيف يكون إفناء القوة، وكيف يكون دحر الأعداء.»
Bog aan la aqoon