أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
أحلام شهرزاد
تأليف
طه حسين
أحلام شهرزاد
1
فلما كانت الليلة التاسعة بعد الألف أفاق شهريار من نومه مذعورا، وجعل يتسمع لعله يجد ذلك الصوت الذي أيقظه، فلم يسمع شيئا، وجعل يمد يده عن يمين ويمد يده عن شمال ليتبين أينكر من مضجعه شيئا، فلم ينكر شيئا، ثم استوى جالسا في سريره، وجعل يدير رأسه عن يمين وعن شمال ويمد بصره في الظلمة المتكاثفة من حوله كما يمد سمعه في الصمت المنعقد في غرفته، فلا يقع بصره على شيء، ولا ينتهي سمعه إلى شيء، ولا تصل نفسه إلى شيء، فلم يشك في أن طائفا قد ألم به أثناء النوم فرده إلى اليقظة ردا لم يخل من بعض العنف، وما أكثر ما تهيم في ظلمات الليل هذه الأرواح المشردة التي تنطق في لغاتها الخفية بألفاظ تصل إلى نفوس الرقود أحيانا كما تصل إلى نفوس الأيقاظ أحيانا أخرى، فيفهمون عنها مرة ويخطئون الفهم مرات، ويكون لهذه الألفاظ الغريبة المبهمة في حياة الناس آثار غريبة مختلطة؛ منها الخير ومنها الشر، ومهما يكن من شيء فقد عاد شهريار إلى نفسه وارتسمت على ثغره ابتسامة سريعة لم تلبث أن مرت كأنها البرق، وثارت في نفسه عاطفة ضئيلة ولكنها حادة، فيها شيء من حسرة، وفيها شيء من يأس، وفيها شيء من حزن على عهد قد انقضى وليس إلى رجوعه من سبيل.
ثم ثاب إلى الملك رشده فتمكن في مضجعه وأغمض عينيه وضم يديه إلى صدره ودعا النوم إلى نفسه دعاء قويا، وكأن النوم كان ينتظر أن يبلغه هذا الدعاء، فما أسرع ما مد ذراعيه فطوق بهما عنق الملك الحزين في كثير من الرأفة والرحمة والحنان، وإذا الملك ينسى نفسه ويمعن في هذا الرقاد الحلو الهادئ المطمئن، ولم يدرك الملك أطال هذا الرقاد أم قصر، ولكنه أفاق مرة أخرى مذعورا ومد بصره في الظلمة المتكاثفة، ومد سمعه في الصمت المنعقد، وتحسس بيديه عن يمين وشمال، فلما لم ير شيئا، ولم يسمع شيئا ، ولم ينكر شيئا؛ أنكر نفسه كلها، ونهض من مضجعه متثاقلا، فجعل يمشي في غرفته على غير هدى، حتى انتهى إلى نافذة من نوافذ الغرفة ففتحها، وكان ذلك إذنا لضوء القمر في أن ينسل في هذه الغرفة، ولكنه لم ينسل، وإنما اندفع إلى الغرفة اندفاعا أضاء له كل ما في الغرفة من فضاء ومن أثاث. هنالك أدار الملك بصره في الغرفة فلم ينكر من أمرها شيئا، ثم أشرف من النافذة فاستنشق الهواء الطلق، ومد بصره في الفضاء العريض المنبسط أمامه، فلم ير إلا هذه الأشجار الباسقة الشاهقة في السماء، وقد لبست من ضوء القمر أردية نقية ناصعة، وامتدت غصونها تضطرب في الهواء اضطرابا خفيفا، كأنها ترغب في النوم هذه الطير التي أوت إليها حين ولى النهار، وكأن هذه الطير قد سكنت إلى حركاتها الخفيفة المنتظمة فنامت مطمئنة وادعة، لولا أحلام خفيفة خفية كانت تمر بنفوسها الضئيلة الوادعة، فتبعث من أفواهها أصواتا قصيرة حلوة، وتبعث في أجنحتها خفقات يسيرة لا تكاد تبدأ حتى تنقطع، وقد أطال شهريار وقوفه أمام هذه النافذة مادا بصره في هذا الفضاء العريض، ومادا سمعه في هذا الصمت الجاثم عليه، وممتعا نفسه بهذا الضوء الرقيق الذي يترقرق بينهما، وبهذه الأصوات الرشيقة التي تبلغه من حين إلى حين، حتى إذا ثاب إليه الهدوء، وامتلأ قلبه سكينة، وآنست نفسه أمنا ودعة تراجع متثاقلا، ولكنه لم يذهب إلى مضجعه، وإنما ذهب إلى مجلس من مجالسه في الغرفة، فترامى عليه متهالكا، وقد أزمع أن ينتظر مطلع الصبح يقظان؛ فقد كره مضجعه، وكره النوم، وكره هذا الطائف الذي أخذ يزعجه منذ الليلة.
Bog aan la aqoon